المحتوى الرئيسى

غطرسة الهيبة.. بين العلم والسياسة | المصري اليوم

12/02 07:31

فى ربيع سنة 1936، بعث ألبرت أينشتاين بورقة علمية إلى دورية «فيزيكال ريفيو» الأمريكية ثم صُدم عند تلقى الرد.. فبدلا من أن يُبلغ بموعد النشر، بعث إليه رئيس التحرير بخطاب يحتوى على نقد لاذع من قبل أحد المحكمين، ما أثار غضب أينشتاين، وكان رده قاسيا.

اعتاد العالم العظيم نشر أبحاثه فى المجلات العلمية الألمانية، لكنه كان قد انتقل للإقامة فى الولايات المتحدة، بعد سقوط بلاده فى بئر النازية، وبينما اعتادت الدوريات الألمانية، مثل الأسطورية «انالن دير فيزيك» نشر أبحاث العلماء المرموقين تلقائيا ودون تحكيم، كانت «فيزيكال ريفيو» ترسل معظم الأبحاث للتحكيم، حتى التى تأتى من قبل شخصيات تاريخية مثل أينشتاين.. أما الأخير فكان رده الغاضب وهو مصدوم أنه أرسل الورقة للمجلة للنشر الفورى، ولم يأذن لأحد بعرضها على أى محكمين، وأنه لا يرى داعيا للرد على تعليقات المحكم، التى أعتبرها خاطئة على أى حال، وأنه من ثم سيمتنع عن النشر فى هذه الدورية فى المستقبل.. لكن رئيس التحرير تمسك بموقفه، ولم ينشر لأينشتاين فعلا أى أبحاث إضافية فى المجلة التى صارت فيما بعد أهم دورية فى مجال الفيزياء بلا منازع.

التباين بين المجتمع العلمى الألمانى والأمريكى، الذى ظهر من خلال هذه «الحادثة» (هكذا سماها أينشتاين فى خطابه لرئيس التحرير)، عكس فروقا أعم بين البلدين، فالمجتمع الألمانى آنذاك كان يصون تسلسل علاقات القوى التقليدى، فيحترم هيبة من له مكانة مرموقة ويمنح امتيازات خاصة لمن هو معترف به هكذا، بينما المجتمع الأمريكى كان منفتحا وديمقراطيا لجذوره، وأكثر تقبلا لمبدأ أن كل فكرة قابلة للنقد، بصرف النظر عن مكانة وهيبة أو سلطة مصدرها، علمية كانت أم اجتماعية.. المجتمع الألمانى آنذاك نجح علميا رغم ذلك، لأن هذه المكانة كانت مبنية عن جدارة وإنجازات حقيقية، لكنه فشل سياسيا لأن احترام تسلسل علاقات القوى التقليدى فى المجال السياسى قد يمنح هيبة مزيفة وسلطة لا يستحقها، بل يمكن أن يتسلط على المجتمع ويدمره باسمها.

أما مصير الفكرة الأساسية فى ورقة أينشتاين المثيرة للجدل، فيبين من ناحية فائدة عملية النقد فى المجال العلمى، والتى يمكن أن تندرج على كل مجالات الحياة، إذا تغلب المنهج النقدى العقلانى على تسلسل القوى التقليدى المبنى على الهيبة والمكانة.. ففى النهاية، تمكن المحكم المنتقد للورقة- وكان اسمه روبرتسون وعمل بجامعة برينستون- من التواصل مع أينشتاين وتوصيل اعتراضاته على البحث، وتقبّل العالم العظيم النقد، ومن ثم غيّر مضمون وعنوان الورقة قبل أن يبعثها للنشر فى دورية أخرى، بل فى محاضرة كان من المفروض أن يلقيها فى اليوم التالى لاكتشافه الخطأ واعترافه به. اضطر أن يحاضر الحاضرين عن الخطأ المجسد فى عنوان المحاضرة، فبدلا من أن ينفى وجود موجات الجاذبية كما أقر البحث الذى انتقده «روبرتسون» قال إنه لا يعرف حقيقتها! وكما نعرف الآن فإنها موجودة فعلا وتم اكتشافها مؤخرا وتوزيع جائزة نوبل بالمناسبة (كما شرحت فى سلسلة مقالات منذ أسابيع).

للمنهج النقدى وقدرته على دفع التطور عن طريق إصلاح الأخطاء تداعيات فى المجالات الاجتماعية والسياسية، لكنه للأسف لا يتجذر بسهولة فى هذه المجالات.. وهذا فى رأيى من أسباب صعوبة إقامة المجتمعات المنفتحة المستقرة المبنية على أساس ذلك المنهج العقلانى، فليس من السهل التخلص من علاقات الهيبة التقليدية واستبدالها بمبدأ أن كل شىء وشخص قابل للنقد والتفنيد، فحتى عقلانى عظيم كأينشتاين كان من الصعب عليه تقبل النقد فى البداية.

المجتمع السياسى المثالى المنفتح الديمقراطى يتقدم عن طريق قبول النقد والتفنيد والوصول لتوافق عن طريق الطرح والطرح البديل، ويمنع التسلط السلطوى او تحصين أى فريق ضد النقد.. لكن ماذا لو اختل المركز وعجزت الفرق المتصارعة سياسيا على إيجاد لغة مشتركة للتحاور والتعايش؟.. النقد يفلح فى المجال العلمى لأن العلماء متفقون على المنهج المتبع للطرح والنقد ثم التوافق، أما جماعات السياسة، خاصة إذا كانت تدّعى امتلاك الحقيقة المطلقة، فيمكن أن تصنع عوالم خاصة بها ولا تتفق حتى على حقائق الواقع، بل تُغيرها أحيانا عن طريق فرض «أمر واقع» على الأرض، ربما عن طريق العنف.. إن سادت أحوال كهذه يستحيل إقامة مجتمع منفتح مستقر، ويمكن بالتالى أن تصبح الديمقراطية مصدرا للتوتر والشلل والفشل بدلا من التقدم والازدهار.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل