المحتوى الرئيسى

د. عمرو عبدالسميع: أبى.. استمع لنصيحة صلاح سالم وترك أخبار اليوم.. حتى لا يفسده مصطفى وعلى أمين

11/29 21:19

عاش حياته بأسلوب الفلاح المصرى الأصيل الذى يهوى «قاعدة المصطبة»

كان يهرب من مخبر الداخلية كل صباح

فؤاد باشا سراج الدين كان يقبل هجومه عليه بالضحك.. ويقول: هذا رأيه ويجب احترامه

إحسان عبدالقدوس جاء به إلى روزاليوسف وهو يدرك موهبته الفذة

- تمام يا أفندم.. أنا الشاويش سالم على سالم - المخبر - الذى يتولى مراقبته، وحماية الرسام عبدالسميع.

- خير.. يا حضرة الشاويش؟

- يا أفندم.. هذا الرجل عجيب.. أنا لم أر مثله فى حياتى العملية، فأنا كثيراً ما خرجت فى مهام عملية لمراقبة وحماية الشخصيات التى تكون هدفاً للاغتيال أو الاعتداء، وكانت هذه الشخصيات تعطينى الفرصة لذلك.. تسمعنى.. تسألنى.. تعطينى خط سيرها اليومى، حتى تسهل علىَّ المهمة.

- مفهوم وهذا طبيعى.. لماذا إذن تشكو من عملك المكلف به لحماية الفنان عبدالسميع، المهدد بالقتل من جماعة الإخوان المسلمين؟

- يرد المخبر وهو غاضب يا أفندم.. الأستاذ لا يعطينى الفرصة لحمايته.. فهو لا يعطينى خط سيره اليومى.. وأصبح كل ما يشغله هو كيف «يفلت» من عملية مراقبتى له، مع أننى مكلف بمراقبته حتى أحميه وأصد عنه أى عدوان أو اعتداء، لكن الذى يحدث بينى وبينه كل صباح، أنه هو يحاول الهروب منى.. وأنا أحاول العثور عليه!

- هذه الحالة المزاجية التى كان عليها رسام الكاريكاتير الشهير منذ الخمسينيات وحتى رحيله منتصف الثمانينيات هى دالة وشارحة لحالة الفنان فى أى زمان، هو يرفض الرقابة - حتى ولو كانت لحمايته - يرفض القيد، يرفض سطوة السلطة، يرفض سلطة المدير، يرفض منهج افعل ولا تفعل، يرفض كل شىء يجعل من إبداعه «عصفوراً» حبيساً فى قفص، المبدع يظل حماية لنفسه، وسلطة على نفسه، المبدع ديكتاتور أمام إبداعه، فلا يقبل المساومة، ولا المواءمة ولا الرأى الذى يحجم إبداعه. «المخبر» المكلف بحماية الرسام عبدالسميع يشكو منه، لأنه لا يساعده فى إتمام عمله وهو يراقبه خوفاً عليه حتى لا يصيبه أذى. «المخبر» هنا - وهو يشكو - لا يدرك أنه فى هذه اللحظة، وحتى وهو يمشى وراءه لحمايته، هو يمثل بالنسبة له «قيداً» على حريته. وحالة «الهروب» التى كان يفعلها كل صباح هى محاولة لهروب «المبدع» بداخله من سلطة القيد، والرقابة والتلصص إلى رحابة الحرية التى يعيش من خلالها ومن أجلها.

هذه الحكاية التى ذكرها لى د. عمرو عبدالسميع- الكاتب والمثقف الكبير - ونحن نتحدث عن أبيه فنان الكاريكاتير الشهير والكاتب المتميز، توقفت أمامها كثيراً، حيث إنها - رغم بساطتها - إلا أنها لها دلالة وعمق لدى صاحبها، فهى تجزم بلا ادعاء، وتؤكد بلا كلمات كثيرة، أن المبدع الحقيقى، هو المتمرد دائماً، الرافض دائماً، الواقف دائماً على مسافة كبيرة من السلطة - أى سلطة - سواء كانت سلطة سياسية أو فكرية أو تنظيمية أو أمنية أو روتينية لأنه - كفنان - يدرك أن سلطة إبداعه تفوق أى سلطة.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً، إلا دقائق قليلة، وكنت أنا أقف فى المدخل الرئيسى لمبنى صحيفة «الأهرام» العتيقة، وكان الدكتور عمرو عبدالسميع قد وصل إلى مكتبه فى الدور الثامن، وموظف الأمن أمامى يطلب تحقيق الشخصية، قبل الصعود إليه، بعد دقائق كنت فى مكتبه، جهاز التليفزيون أمامه مثبت على قناة RT الروسية الإخبارية، وعلى مكتبه «مسبحة زرقاء» كبيرة وبعض الأوراق، وعندما دخلت إليه، كان يتابع البث الإخبارى بتركيز ملحوظ، توقف عنه عندما جلست أمامه - بعد الترحيب بى - وبدأنا تبادل الحديث قليلاً فى الشأن العام عن حال السياسة والثقافة والإعلام، هو يتحدث وأنا أستمع إلى أن وصلنا إلى الحديث عن أبيه الفنان الشهير عبدالسميع عبدالله، الذى كان لسنوات طويلة نجم الكاريكاتير فى الصحافة المصرية، وكانت الصحف والمجلات تتبارى فى كيفية الفوز برسومه على صفحاتها، لدرجة جعلت الأخوين «مصطفى وعلى أمين» يعلقان فى الشوارع - على طريقة نجوم السينما - إعلانات قالوا فيها «عبدالسميع فى أخبار اليوم»! بعدما نجحوا فى إقناعه بترك روزاليوسف، رغم الحب المتبادل بينه وبين إحسان عبدالقدوس فى ذلك الوقت.

أمسك د. عمرو بالريموت كنترول واخفض صوت التليفزيون واعتدل لى قليلاً وقال: إن كنت تريد أن أتكلم عن أبى الإنسان، فأنا أعتقد أن أبى الإنسان هو أبى الفنان لأنه جرت العادة على التقسيم، ما بين الإنسان والفنان الإنسان والمثقف، لكن حقيقة الأمر أنه فى حالتى أنا مع أبى، كنت أعيش معه إبداعه منذ الصغر، وكنت طرفاً فى معاركه السياسية منذ الصغر أيضاً، ولم يكن لى عالم سوى هذا العالم الذى عشت فيه منذ الميلاد وحتى اليوم.. بمعنى أننى ليس لى حياة اجتماعية أو نشاط خاص.. لكن أنا أعيش «الهم» العام كامتداد لما كان يعيشه أبى، قلت: إذن دعنا نتحدث عن «الأب» بمفهومه الشامل، قال: إذن دعنى أحدثك عن الأب.. من هذه الحالة.

كان أبى - مثلاً - يذهب للصحيفة فى السادسة صباحاً، ويبدأ العمل حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً، ويبدأ الأصدقاء من الاتجاهات الفكرية المختلفة داخل الصحيفة فى التوافد إلى مكتبه، ويصبح هذا التجمع الإبداعى، الثقافى، التنويرى، عبارة عن «حالة حوار» وهذا راجع إلى أنه - رغم النجومية والشهرة - لم يستطع التخلص من فكرة أو طريقة «قاعدة المصطبة» لكونه فلاحاً جاء للقاهرة من المنوفية.

وكان هذا الأسلوب يفعله فى صحيفة الشعب - إصدارها الأول القديم - وبعدها الجمهورية وباقى الصحف التى عمل فيها.. كنت تجد عبدالرحمن الشرقاوى د. لويس عوض، سعد مكاوى وغيرهم وهنا أستطيع أن أقول إننى تعلمت منه الاستيقاظ مبكراً فى الرابعة والنصف صباحاً، حتى أبدأ العمل حتى الساعة العاشرة، ثم بعد ذلك أتابع المهام اليومية، لأن الاستيقاظ مبكراً، يجعلك ترى العالم وهو يتشكل أمام عينيك ولا يتشكل من خلف ظهرك.

اسمه «عبدالسميع عبدالله» ولد فى عام 1917، بحى السيدة زينب بالقاهرة، عمل فى بداية حياته مصمماً أو رساماً فى هيئة الطرق والكبارى، انتقل فى عام 1944 للعمل فى مجلة «الشعلة» والتى أصدرها

عدت من عند الرسم والكلمة إلى الموقف السياسى عند الفنان عبدالسميع، يقول الابن: أبى.. بدأ حياته وفدياً، لكنه من تلقاء نفسه قام بنقد الوفد والسخرية من قياداته، وكان فؤاد باشا سراج الدين ومصطفى باشا النحاس هدفين مستمرين بالنسبة لرسومه فى «روزاليوسف»، وكان هجومه عليهما يتم بقسوة شديدة جداً، وعندما التقيت بالباشا فؤاد سراج الدين وهو زعيم الوفد فى بداية الثمانينيات، وبعدما أنهيت حديثى معه، قلت له يا باشا: كيف كنت تنظر لرسوم الكاريكاتير التى كان يرسمها أبى ضدك؟ رد: كنت أضحك جداً، لأن هذا فى النهاية تعبير عن رأيه، وهذا يعبر لك ويكشف عن طبيعة الساسة فى ذلك الوقت، اليوم الشخصية العامة فى أى مجال لا تقبل النقد، لم يعد فى المجتمع من يعترف بأنه من حقك أن تتبنى رأياً آخر، غير ذلك الذى يعتنقه هو فهذا غير مطروح على وجه الإطلاق، قلت له: هل ذلك بسبب حالة المناخ أو المزاج العام فى المجتمع الذى أصبح يعيش بنظرية «رأيى صواب لا يحتمل الخطأ.. ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب»؟ ابتسم وقال: هذا نتج من مناخ ساد فيه منطق تغيب الحوار، «الواحدية» وهى أن كل إنسان هو الأوحد فى مجاله.. وهو الأوحد فى وجهة نظره، وهو الأوحد فى كل شىء، والنتيجة هى بناء حوائط سميكة جداً ضده وضد الآخر، وقلت له: هل هذا يعنى أن هناك تغييراً طرأ على تركيبة الشخصية المصرية، رد قائلاً: حدث هذا بالتأكيد بعدما نشأت لدينا فى الحياة العامة مسارات «أحادية» هى التى تنظم حياة الإنسان الجديد في مصر، فلم يعد يعترف - المصرى الجديد - بأنه طرف فى عملية من التفاعل ومن التبادل ومن إبداء وجهات النظر، لم يعد هذا موجوداً على وجه الإطلاق، وأى مصرى الآن يقول لك إنه ديمقراطى.. أو ليبرإلى.. رد عليه قائلاً «أنت كاذب».

عند حالة الكذب التى نعيش فيها حالياً في المجتمع، فالكل - أو الأغلب وليس الكل - يعيش فى كذبة كبيرة توقف بنا الكلام، حيث جاء له ضيف.. سلم عليه.. وترك له صحيفة - أظن أنها إقليمية - وطلب منه أن يعرف رأيه، تصورت أنه سيلقى بها جانباً ولا يهتم.. لكن بعد دقائق استدعى سكرتير مكتبه وطلب منه أن يذكِّره، حتى لا ينسى هذه الصحيفة عندما يغادر إلى منزله، استأذن ضيفه بعد دقائق وعدنا للكلام مرة أخرى.. قلت: نعود إلى الأب وأسلوب حياته فى تربية أولاده؟ قال: أبى.. قاوم فكرة أن أكون صحفياً من الأساس وبقوة.. وعندما نجحت فى الثانوية العامة وقدمت أوراقى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بسبب ضغوطه الشديدة.. وهذه هى الحالة الوحيدة التى مارس عليّ فيها سلطة الأب.. وبالفعل تقدمت بأوراقى لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. لكن حبى للصحافة جعلنى أتقدم لكلية الإعلام - وقتها كانت معهداً - وفى نفس الوقت تقدمت إلى معهد السينما ومعهد الفنون المسرحية وجميعها كانت تقوم بعمل اختبارات قبل الدخول.. وفى الثلاثة معاهد «الصحافة - المسرح - السينما» حققت نجاحاً كبيراً فى الاختبارات، وإن كان بالنسبة لمعهد الصحافة حصلت على المركز الأول، لذلك اخترت الإعلام.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل