المحتوى الرئيسى

مصر فى «الكنيست».. أربعون عاماً على «السلام المستحيل»

11/19 23:23

بعد قرار الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، شاركت إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر 1956 واجتاحت شبه جزيرة سيناء واحتلتها، حتى أجبرتها القوتان العظميان الصاعدتان حديثاً، أمريكا والاتحاد السوفييتى، على الانسحاب منها، لكنها ستعود إليها بعد أحد عشر عاماً، يونيو 67، فى أوسع هزيمة تكبدها العرب فى التاريخ الحديث.

بعد ثلاث سنوات على الاحتلال يموت «ناصر»، ومصر على مشارف الحرب مع الصهاينة، لكن نائبه الأول وخَلَفه فى الحكم، أنور السادات، كانت لديه معركة أخرى.

سعى الرئيس الجديد لتأجيل المواجهة مع المحتل قدر الإمكان، ريثما يتخلّص من خصومه فى الداخل، وقد شيّعهم «السادات» جميعاً إلى الظل فيما عرف بـ«انقلاب مايو»، وقد كانوا رفاق الرغيف والسلاح والثورة، ثم بقى حسابه مع الشعب، والشعب لا يرضى سوى بالمعركة، ومرّ عام الحسم، وعامٌ آخر بعد عام الحسم، واشتعل غضب الطلبة، وقرر «السادات» أخيراً أن يبدأ المعركة المؤجلة، وفى نيته أن ينسحب من المواجهة مرةً واحدةً وإلى الأبد.

لكن لا أحد يريد له أن يحارب، لا الأمريكان ولا السوفييت، لا اليهود ولا هو نفسه، لقد كان خيار المعركة مرعباً، وغيابها مرعباً أكثر، لأنه سيعصف بوجوده شخصياً فى سدّة الرئاسة.

لا بديل عن الحرب التى بدأت بالفعل ظهيرة يوم 6 أكتوبر 1973، وقد قرر السادات مسبقاً أنها ستكون حرباً محدودة، فقط من أجل تحريك القضية، لم يصارح أحداً بذلك، حتى رفاق الحرب فى الجبهة السورية، كان يريد أن يصفى القضية برمتها إلى الأبد.

حتى معركة أكتوبر لم يكن أشد المتفائلين يتوقع لقاءً مباشراً مع العدو إلا بالسلاح.

وكان لـ«السادات» أن يصنع مجده الخاص على أنقاض القضية، فالبلاد كلها أمامه يمرح فيها بطائرته، والوطن مهبط كبير بحجم الحدود، إن مصر واسعة وهادئة وجميلة داخل حدودها، وحتى معادلة الأمن القومى، بإمكانه أن يقوّضها، مثلما قوّض، أو ادعى، فى هذه الأيام بالذات، نظرية الأمن الإسرائيلى.

لكننا ما زلنا فى بداية الحرب، والجنود صنعوا لتوهم ملحمة عظيمة للعبور إلى حريتهم وحرية البلاد وحرية العرب، كانوا يبنون الجسور إلى الضفة الشرقية لكى تعبر المدرعات والمعدات والمشاة وعيونهم مصوّبة على القدس والضفة الغربية والجولان، لم ينسوا القضية التى توحدوا معها فى خنادق السنوات الطوال على الجبهة، وكانت لديهم شجاعة الموت فى سبيلها، وقضى من قضى منهم، وغابت شمس اليوم الأول لمعركة التحرير، وأمضى السادات ليله مزهوّا بما تحقق، لكنه لم ينسَ فى اليوم التالى مباشرة أن ينقل مستقبل المعركة لمعسكر الأعداء.

هكذا بعث «السادات» برسالته الشهيرة إلى هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومى: «إننا لا نريد توسيع الاشتباكات أو تعميق المواجهة». والحال كما يعرف الجميع الآن أن الرئيس «السادات» ثبّت بنفسه الجبهة المصرية المنتصرة والمتقدمة والمتحكمة فى دفة المعركة، وأعطى لجيش الدفاع الإسرائيلى فرصته الثمينة لمحو التقدم السورى فى هضبة الجولان، بل واحتلال أراضٍ جديدة تصل إلى حافة العاصمة دمشق، وبعدها كان لدى العدو الوقت الكافى والتعبئة الكاملة وإعادة التسلح بل والمغامرة بهجوم مضاد على الجبهة المصرية، ومرة أخرى تدخلت السياسة فى المعركة لصالح الأعداء، وقرر «السادات» تطوير الهجوم وتعميق المواجهة، خلافاً لما تعهّد به لـ«كيسنجر» فى بداية الحرب، حين أمر الفرقة 21 المدرعة، الاحتياطى الاستراتيجى لقواته، بالعبور إلى قلب سيناء، لتسقط فى فخ الطيران المعادى، والحقيقة أن «السادات» لم يخدع صديقه الأمريكى، أو يحنث بتعهداته السابقة، فقد كان ذلك بالضبط ما تنتظره إسرائيل، وكان ما كان من معركة الثغرة، وحصار الجيش الثالث ومدينة السويس، وتحوّل زمام الحرب مرة أخرى بأيدى العدو، وتوقف القتال عند الكيلو 101، لقد وصل جيش الدفاع أيضاً إلى مشارف العاصمة المصرية.

مرعبٌ أن تكون قائداً، وأن تحارب فى الوقت نفسه مع أعدائك.

كيف وضع «السادات» جيشه فى هذا الموقف الفادح؟

الحقيقة أنه لم يكن يريد للحرب أن تستمر أبعد من ذلك، لقد كان يخافها قبل أن تبدأ، ويخافها رغم انتصاره الشامل والمبدئى، ويقول إنه لن يستطيع أن يحارب أمريكا، فيما كانت قنواته السرية تعمل بكل طاقتها مع الأمريكان، من أول الحرب وحتى كامب ديفيد.

واختار «السادات» أن يخدع الجيش والشعب والعرب، وأفضى لكيسنجر وبيجن وشاوشيسكو وملك المغرب وحدهم بالحقيقة، وهى أنه لا مكان فى مصر بعد الآن لقضية فلسطين، وبدأ عصر التنازلات الكبيرة، ومع كل تنازل جديد، ينتظر المكافأة من الأعداء، والأعداء لا يدفعون ثمن تراجعات لم يطلبوها، ولا تسفر المفاوضات إثر المفاوضات سوى عن تراجعات جديدة على حساب القضية.

فهل كان الرئيس «السادات» خائناً، أم واقعياً لحد الخيانة؟

الأكيد أنه كان يعرف أن نهر الزمن يسير باتجاه الغرب، وأصرّ على أن يسبح مع التيار، وأن يصير جزءاً من التاريخ.

إننا نقول الآن، ونحن مطمئنون، إن خروج مصر من الصراع العربى الإسرائيلى تم تعميده هناك فى الكنيست على رؤوس الأشهاد، وبطريقة أذهلت الأعداء قبل رفاق السلاح.

حتى الآن، يبقى الرئيس «السادات» الزعيم العربى الوحيد الذى استقبله اليهود باللّافتات، وقدّروه بأكثر من تقدير شعبه وأمته.

كان العالم كله مذهولاً وهو يتابع الرئيس المصرى بينما يمثّل بامتياز أهم دور فى حياته، كان يلقى كلمته فى المدينة المقدسة وعينه على المجد، إن «صانع السلام» لا يتخلف أبداً عن العرض، والحقيقة أنه سبق الجميع، واحتفظ وحيداً بالمنصة، من لحظة الكنيست، وحتى لحظة اغتياله.

عمل «السادت» ضابطًا ومقاولاً وسائقاً وصحفياً وإرهابياً وجاسوساً، عمل لصالح الملك وضد الملك، وعمل من أجل الثورة والثورة المضادة، وأشعل الحرب وأطفأها فى اللحظة المواتية تماماً للعدو، لم يكن منقاداً ولا منسحقاً ولا مهرّجاً سياسياً كما وصفه «كيسنجر»، لم يكن حالماً بل براجماتياً يعرف أن الانتصار مستحيل فى الأمد البعيد، الانتصار ليس إلا مناسبة للزهو فى مجلس الأمة.

و«السادات» أعظم المهزومين جميعاً، هزمه كبرياؤه فى أول الحرب، وهزمته شجاعته فى منتصف الطريق عندما قرر تعميق المواجهة، وهزمه شغفه بصناعة المعجزات، فعاد من القدس بلا مقابل، وهزمه رهانه على العدو فأحكم الحصار حوله فى كامب ديفيد، وكان بارعاً للغاية فى تحويل الهزائم إلى احتفالات، فهزمته حياته المضطربة فوق منصة الاحتفال الأخير.

ورحل «السادات» بطلاً من هواء، بلا أوسمة على صدره، ولا جائزة يقدمها للأجيال، وانتهت فصول القصة، وانعزلت مصر عن محيطها العربى مع سبق الإصرار، وانكفأت إلى الداخل، فاستردت أراضيها منقوصة السيادة، واعترفت لأول مرة بالدولة اليهودية، وأُجبرت على التعاون معها ومحبتها، بل والدفاع عنها، وبقيت فلسطين وحدها، والجولان محتلة.

«وطن»، فتاة فلسطينية تعيش فى مدينة رام الله، وهى مدينة صغيرة للغاية، تقول «وطن»: «قد كوبرى من اللى ع النيل»، تستطيع «وطن» إذا صعدت بناية عالية فى مدينتها أن تشاهد بوضوح قبة الصخرة، لكنها لا تستطيع أن تقطع هذه المسافة الصغيرة إلى المدينة المحتلة، فالعدو هناك، ليس بمقدورها أن تسافر خارج البلاد إلا عبر الأردن، والعدو أيضاً هناك فى الطريق إلى مطار عمّان، فعلى مخارج «رام الله» تخضع «وطن» لاستجوابات من نوع «من الذى سمّاك بهذا الاسم»، «وطن» دائماً فى دائرة الاشتباه إذا حاولت الخروج من إسار المدينة الضيقة وحصار الجنود.

أهم أخبار توك شو

Comments

عاجل