المحتوى الرئيسى

«خلوة الدمرداش».. أسرار دولة الصوفيين فى «قصر العباسية»

11/16 22:30

على بعد أمتار قليلة من مستشفى «الدمرداش»، ووسط ضجيج السوق الشعبية المزدحمة دائمًا، تنتصب بوابة حديدية لمدخل قصر شاهق الارتفاع، فريد من نوعه، تطاله يد الإهمال، ولا تسلم جدرانه من التلف، تحمل بوابته لافتة من الرخام مكتوبًا عليها: «قصر عبدالرحيم الدمرداش باشا»، المتبرع بمستشفى الدمرداش الخيرى عام ١٩٢٨، حفيد مؤسس الطريقة الدمرداشية الخلوتية سيدى أبوعبدالله شمس الدين الدمرداش المحمدى.

خلف البوابة رواق طويل شبه مظلم، حوائط أثرية تستجدى الترميم، على اليمين دولاب كُتب عليه «هنا أكفان للرجال والحريم».. رائحة «الشيح» تفوح من كل مكان، وعلى اليسار لافتة «مقر الطريقة الدمرداشية الخلوتية».

القصر يضم بين جنباته عالمًا صوفيًا قائمًا بذاته، منعزلًا عن حركة المجتمع والتاريخ، ومختلفًا عن كل عوالم الصوفية، التى تظهر للضوء. «الدستور» زارت عالم «الدمرداشيين»، بصحبة الشيخ حسن البططى، مسئول الطريقة، والتقت الدكتور مصطفى إبراهيم الدمرداش، شيخ الطريقة الحالى، للتعرف على ذلك العالم المغلق على مريدينه.

الدمرداش مولود بإيران.. ونزوله قبر النبى وراء لقبه

يقول مصطفى الدمرداش، إن مؤسس الطريقة العارف بالله سيدى المحمدى الدمرداش، عُرف بـ«المحمدى»، لشدة حبه لرسول الله، ولد بمدينة تبريز فى إيران، عام ١٤٥٣، من أبوين زاهدين، تربى تربية دينية وحفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه على مذهب الإمام أبى حنيفة.

ويضيف أن المحمدى اهتم بدراسة مبادئ التصوف وطريق السلوك، على طريقة الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، ثم جاء إلى مصر فى عهد السلطان «قايتباى» الذى تولى حكم مصر فيما بين ١٤٦٧و١٤٩٦، والتحق المحمدى بخدمة السلطان الذى قربه منه لما ظهرت عليه علامات التقى والصلاح، ما جعل السلطان يضمه إلى جيشه.

يواصل: «ترك المحمدى خدمة السلطان وانقطع للعبادة فى صحراء العباسية، فأعطاه قايتباى قطعة أرض معاشًا له، فكان يزرعها ويأكل منها، وأصبح له عدد كبير من المريدين، وزاره الإمام عبدالوهاب الشعرانى وقضى عنده ٣ أيام، وظل يراقبه ليلًا ونهارًا واستحسن حاله حتى صرح بأنه من أكابر الشيوخ».

يذكر أن المحمدى هو الوحيد الذى بُنيت قبته، وهو على قيد الحياة، بناءً على قرار السلطان «قايتباى»، الذى أمر ببناء القبة لتكون خلوة العبادة الخاصة به، وتم بناؤها على طراز معمارى خاص، ثم دفن بها، ويجاوره ضريح سيدى عبدالرحيم باشا الدمرداش، الذى بنى القصر، وتبرع بالمستشفى.

ويشير إلى أن سبب تلقيب «الدمرداش» بهذا الاسم، أنه عندما كان المحمدى فى زيارته لمسجد النبى بمكة المكرمة بصحبة «قايتباى» حدثت فتنة بقبر الرسول وقيل إنه تم فتح قبر النبى، وطالب «قايتباى» المحمدى بالنزول إلى القبر، فنزل المحمدى إلى القبر، وحينما صعد ظل مرتجفًا، ولم ينطق سوى بكلمة «نور»، وأصيب بشلل مؤقت، فلقبه قايتباى بـ«الدمر-طاش»، وتعنى الحجر الذى يصنع منه الحديد لقوته ونزوله قبر النبى.

ويؤكد شيخ الطريقة أن الدمرداشية ليس لها أتباع ومريدون خارج القاهرة، وليس لها فروع خارج مصر، فهى منذ نشأتها تمارس طقوسها واحتفالاتها داخل حدود القصر، وتقوم بأفرادها فقط، سواء فى مولد النبى أو نصف شعبان أو ذكرى ٢٧ رجب، كما أن الطريقة تختلف عن الطرق الأخرى فى طقوسها وتختص بتطبيق نظام الخلوات.

الأسرة تبرعت بالمستشفى واشترطت علاج الجميع مجانًا

يوضح الشيخ حسن البططى، المسئول عن الطريقة الدمرداشية، أن ما لا يعرفه الكثيرون أن مستشفى الدمرداش الذى يستقبل ملايين المرضى سنويًا، تبرعت بأرضه أسرة عبدالرحيم الدمرداش، حفيد مؤسس الطريقة الدمرداشية، ويجاور المستشفى قصر عبد الرحيم باشا الدمرداش.

ويروى البططى قصة تبرع عبد الرحيم الدمرداش، بقطعة الأرض لبناء مستشفى، قائلًا: إنه «وضع ٣ شروط على الدولة قبل التبرع، هى علاج الجميع دون تفرقة دينية أو النظر لجنسياتهم، وأن يدفن هو وزوجته وابنته «قوت القلوب» بالمستشفى، لكنه دفن هو زوجته زينب، بالقصر بينما ابنته دُفنت خارج مصر، كما اشترط تخليد ذكراه بعمل تمثال له ولكن الدولة لم تنفذ ذلك».

وعرض البططى، صورة لوثيقة أرسلها عبدالرحيم الدمرداش لرئيس الوزراء حول مستشفى الدمرداش كُتب فيها: «نتشرف نحن الموقعين على هذا عبد الرحيم الدمرداش وحرمه وكريمته السيدة قوت القلوب هانم الدمرداش، بأن نعرض على دولتكم الآتي‏:‏ ‏‏قد صحت عزيمتنا على إقامة مستشفى خيرى بشارع الملكة نازلى بحى الدمرداش بالعباسية تديره الحكومة، على أن يقبل المستشفى جميع المرضى الفقراء مجانًا دون النظر إلى جنسياتهم أو دياناتهم».‏

ويلفت إلى أن قصر الدمرداش، بُنى عندما قرر عبدالرحيم باشا الدمرداش، إجراء تعديلات القبة، التى بناها والده بمكان القصر، ليصحح مسارها ويحولها إلى مسجد الدمرداش، ثم بناء القصر بجانبها، وكانت أرض المستشفى حديقة لهذا القصر.

ويذكر البططى أن المسجد خصصت ساحاته لمساعدة المحتاجين عن طريق الجمعية الخيرية، التى أسستها الدمرداشية، مشيرًا إلى أن الطريقة لها عدة أعمال خيرية منها مساعدة غير القادرات على الزواج وتقديم المساعدات لهن.

«المحيا» يقام كل خميس فى غياب الشباب

يقول البططى إن القصر يقام به كل خميس «حضرة للذكر»، وحضرت «الدستور» «المحيا» أو «الحضرة»، التى تبدأ عقب صلاة العشاء، وينادى أحد المشايخ عبر مكبرات الصوت «المحيا.. المحيا» فيحضر النقباء «الاثنا عشر»، إلى داخل القبة، ويصطفون أمام الضريح، ويقرأون الفاتحة، ويتم رفع سترة الضريح، وإشعال «شمعة» بوسط القبة، ويجلس النقباء، ويشرح أحد المشايخ درسًا دينيًا لوعظ المريدين. وفى نفس الوقت تلف «المبخرة» ساحات القبة، وتبدأ «الحضرة» بذكر الله وتلاوة الأوراد والأذكار، وتنتهى بتلاوة ما تيسر من القرآن، ثم ترديد ذكر الله والفاتحة والدعاء لصاحب المقام والصلاة على الرسول. ولاحظت «الدستور» غياب الشباب عن «المحيا» مع وجود بعض النساء والأطفال، الذين اعتادوا الجلوس فى ساحات المسجد خارج القبة لسماع الحضرة.

وأكدت إحدى السيدات أنها مداومة على حضور «المحيا» بصحبة أطفالها لسماع ما تيسر من آيات الله وجلب روح الطمأنينة لها ولأطفالها، وأن الأطفال يفرحون بالذهاب إلى المسجد، وينتبهون جيدًا لدرس الواعظ، ويعملون به.

طقوس خاصة وأوراد سرية.. و«لا للفتن» شعارها

يذكر الدكتور مصطفى الدمرداش أن طقوس الطريقة الدمرداشية سواء كانت يومية أو أسبوعية أو سنوية، يداوم عليها مريدو الطريقة، ويتلون الأوراد اليومية، على مدار اليوم، فهى ليست ساعات محددة، أما الأسبوعية فهناك «المحيا» يحضرها المريدون بإشراف النقباء «الاثنى عشر»، وكل نقيب مسئول عن تلاميذه.

ويضيف الدمرداش أن الطريقة الدمرداشية تجمع تحت قبتها جميع الأديان، سواء مسيحية أو يهودية، وهناك العديد من الشخصيات يتواصلون مع الطريقة لحضور «المحيا» والتعرف على تاريخ الطريقة، فضلًا عن الأجانب، الذين يحضرون «المحيا»، وكل منهم يصلى لله على طريقته.

ويلفت مصطفى إلى أن الطريقة الدمرداشية رفعت شعار «لا للفتن» فلا توجد تفرقة بين ديانة وأخرى، فالمسلم هو من أسلم وجهه لله تعالى وآمن به، بمعنى أن المسلم والمسيحى واليهودى كلهم مسلمون طالما أنهم مؤمنون بالله عز وجل. وعن الطقوس السنوية للطريقة الدمرداشية، يقول الدمرداش: إن القصر يحتوى على ٦٠ خلوة، يدخل المريد فى الخلوة سنويًا لمدة ٣ أيام، وذلك فى أثناء الاحتفال بالمولد كل عام فى النصف الأخير من شعبان، ويقوم فيه تلاميذ الدمرداشية بالاختلاء داخل الخلوات المخصصة لذلك، ويتلى القرآن آناء الليل والنهار، من مساء الإثنين إلى مغرب الخميس، والمختلون يصومون الثلاثاء والأربعاء والخميس، ولا يخرجون إلا للوضوء والصلاة ملثمين، منعزلين عن الناس، ولا يتحدثون مع أحد.

والخلوة عبارة عن غرفة مساحتها صغيرة جدًا، يدخل إليها الضوء عن طريق فتحة ضيقة من الباب الخشبى الذى يغلق على المريد، ولا يقرأ المريد إلا الورد الخاص الذى لقنه إياه السيد نقيب النقباء، ويقرأ المريد ٣ أوراد، كل ورد ٧٠ ألف مرة، يشير شيخ الطريقة الدمرداشية إلى أن الأوراد الخاصة بـ«الخلوتية» لا يعرفها أحد غير التلاميذ داخل الخلوات.

المريد لا ينام أيام الخلوة ويصوم الأيام الثلاثة

يقول الدمرداش إن المريد لا ينام مدة أيام الخلوة الثلاثة، وليلة الخلوة يتم إطعامه جيدًا بكل ما يشتهى من طعام، لأنه يدخل فى صيام ٣ أيام، ويفطر على أرز مطهى بالزيت لإمساك البطن، وعصير الليمون لإعطاء الطاقة، ويشرب القهوة ليكون قادرًا على الاستيقاظ لفترة طويلة لقراءة الأوراد.

ويضيف أن النقباء يمرون على الخلوات باستمرار فى هذه الأيام، ويردد النقيب كلمة «لا إله إلا الله» على باب الخلوة فيرد «الخلاوتى» عليه «محمد رسول الله»، وفى يوم الخميس التالى تنتهى الخلوة ببداية المولد، ويخرج المختلى من غرفته، وتُقام الحضرة ويتم إحياء ليالى المولد بتلاوة القرآن الكريم وختامه.

ويؤكد أن فكرة الخلوة هى التعبد مثلما فعل الرسول فى غار حراء، حين خلا فتعبد، مشيرًا إلى أن الطريقة الدمرداشية ساهمت فى دخول عدد كبير من أصحاب الديانات الأخرى للدين الإسلامى، لما استشعروا الراحة والطمأنية بالطقوس الإسلامية، التى تدعو للمحبة والتسامح والرحمة وحب الغير وإيثار النفس.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل