المحتوى الرئيسى

سلالة الحب بالعافية الأبناء قبل أن يصيروا آباءً | المصري اليوم

11/16 08:41

يُعرِّف علماء الأحياء التطورية عملية التناسل، أو التزاوج، بأنها «شركة جينية» يساهم فيها فردان، ذكر وأنثى، كل منهما يودع فيها جيناته كاستثمار، وربح هذه الشركة يتمثل فى تمكين كل فرد من المساهِمَين باستمرار جيناته فى نسل يجمع بين جينات المساهِمَين، وهذا يعنى أن واحدا من الشريكين لا يمكن أن يربح تضمين كل جيناته فى النسل الطالع مع حرمان الشريك من ظهور جيناته فى ذلك النسل، فهذا لا وجود له فى قوانين استمرار الحياة التى لا سبيل إليها، فى الإطار الفطرى، السوى، إلا بتشاطر القسمة، بالقبول والتراضى، بالود والرحمة، لكن فى أحوال ناشزة يمكن أن يُفرَض الأمر بغير ذلك، سواء بشكل سافر أو بطريقة مبطنة، بالعنف أو القهر أو الخديعة، بالاغتصاب أو الاحتيال أو الاستدراج الخسيس، ومن ثم تشكل عملية التزاوج، أو التناسل، على المستوى غير المادى، نوعا من المجاز، أو الاستعارة، أو الرسالة، تلقى بضوئها الكاشف على مختلف الشراكات البشرية، الفردية والجمعية.

كاشف لنظيره من شراكات البشر

وكما تُغلَّف الشراكات جميعا بأغلفة جذابة، كذلك التناسل الذى تعارفت الشاعرية البشرية على تسميته «ممارسة الحب»، وهى ممارسة فى نموذجها المثالى لابد أن تكون وليدة حب حقيقى، غايته العظمى استمرار الحياة فى تواصل أجيال صانعيها، لكن كثيرا ما تتحول هذه الممارسة التشاركية إلى أنانية بغيضة، لقهر أحد الشريكين والتسلط عليه وسحقه، إن بفجاجة ظاهرة أو بمكر لئيم. ولأن كتاب الحياة والأحياء فينا ومن حولنا زاخر بالرسائل البليغة فى هذا الجانب، فإن سيرة «تزاوج الكائنات»، أو عجائب وغرائب ممارستها «الحب»، لهى كاشف عن كثير من المسكوت عنه فى حياتنا كبشر على هذه الأرض، أفرادا، وجماعات، حُكَّاما، وشعوبا، وكيانات أيديولوجية وسياسية واقتصادية، داخل الدول، ومن حولها. وها هى واحدة من قصص ذلك «الحب بالعافية»، استطالت معى لفرط ما تعقبتها، حتى ليبدو أن رحبة واحدة لن تكفيها، وستبدو للبعض صادمة، لأنها تُعرِّى أسطورة كرَّسها الوهم البشرى الخُيلائى، رمزا أقصى لممالك وملوك وأمم وزعماء وقادة وحكام، ومتفاخرين كثر، لا يعلمون حقيقة ما يتفاخرون به، وهو فى سياقه الطبيعى مُبرَّر بشروط تكوينه ووجوده، لكنه كمجاز كاشف لما يناظره من ممارسات البشر، أمر آخر!

ها هى عصابة أولاد مسلحين تجوب البرارى فى عربدة ورعونة وتشرُّد. إنهم مطاريد أسرهم التى نبذهم منها كبير أو كبراء كل أسرة ما إن وصلوا إلى سن البلوغ. أعمار هؤلاء الأولاد تتراوح بين الثالثة والرابعة. وأسلحتهم أسنان ماضية تبرُز بينها أربعة أنياب مثل خناجر مندفعة للطعن، ومخالب غافية فى براثنها لكنها تبرز فى لمح البصر، تشق جلد ولحم ضحاياها بمجرد ضربة. وهم بهذه الأسلحة يتباهون، وينشرون الرعب برغم كونهم جياعا ومطاريد. لقد أُمروا بمغادرة مراتع طفولتهم وصباهم، وحُكِم عليهم بالحرمان من تراحم أسرهم وحنان أمهاتهم بدوافع استبداد الآباء وخوف أو غيرة هؤلاء الآباء منهم، وربما لوضع هؤلاء الأولاد أمام مسؤوليتهم عن إعالة أنفسهم، وإن بالخشونة والقهر. والقهر فى هذه السلالة موروث تاريخى!

فى عمر الثمانية عشر شهرا يبدأ تمايز الأشبال بين ذكور وإناث، عندما تظهر خصلة شعر داكنة جميلة فى نهاية ذيل كل ذكر، وبقدر ما يكون ذلك مقدمة للزهو يغدو نذيرا بالشقاء، فسرعان ما يتم فطام الأشبال جميعا من ذكور أو إناث، ويتفطر قلب الأمهات اللبؤات اللائى جفت أضراعهن مع هذا الفطام، فهن يدركن بطريقة ما اقتراب حرمانهن من أبنائهن الذكور، ويهجسن بما ينتظرهن من شقاء مع تدفق الهورمونات الأنثوية فى دمائهن، وما ينتج عن تدفقها من تطاير رائحة تنشرها غددهن فى الجو معلنة عن انتهاء فترة الإرضاع وبدء دورة التهيؤ للحمل، دورة الوطء من الذكور الباطشين الثقال. وما هى إلا شهور قليلة حتى يبدأ ذوو الخصلات الداكنة الجميلة فى نهاية ذيولهم بالزئير. صوت راعد يفاجئ أعمارهم الهشة منطلقا على غير انتظار من حناجرهم التى كانت ناعمة الأصوات، يربكهم الزئير البازغ، ويثير التوتر والغضب لدى الآباء والأعمام فى أُسرِهم، التى لا أخوال فيها ولا عمَّات!

ما أن تظهر اللبدة ويبزغ الزئير

مع اخشوشان ذلك الزئير الطالع قرب بلوغ أصحابه عمر الثالثة، يبدأ ظهور تلك اللبدات من الشعر المحيط بوجوه وأعناق الأسود ويتكاثف ناميا بسرعة، عندها تصدُر أوامر كبار الذكور لصغارها بضرورة مغادرة نطاق الأُسرة ــ أو الزُمرة ــ على الفور. أوامر قاطعة يذيعها زئير هادر وتطويحات فكوك مفتوحة مخيفة تُظهِر خطورة أنيابها، وتنذر من يتلكأ. وينصاع الأولاد الذين كبرت أجسامهم وبرزت أنيابهم وسُنَّت مخالبهم وإن ظلوا أدنى من القدرة على أى اعتراض. ليس نزولا على أوامر الآباء التى لا يجوز مخالفتها كموروث الأصول والتقاليد التى يعبر عنها احترام التراتبية فى عالم الحيوان. ولكن لأن منازلة هؤلاء الآباء المخيفين الضخام تعنى الانتهاء إلى هزيمة مُذِلة وربما قاتلة لليافعين. أمهاتهم وخالاتهم وأخواتهم لا يستطعن عمل أى شيء لمنع هذا الفراق القاسى عليهن كما على المفارِقين، فيصطففن بلا قدرة على رد قرارات الآباء الوحوش، ويودِّعن المغادرين بنظرات مديدة الوجوم شديدة الأسى. ويبدأ زمن تيه المطاريد فى البرارى.

يظل الشاب الطريد الشريد يهيم فى برارى السافانا باحثا عن فريسة مواتية وشربة ماء تطفئ احترار جسمه ولظى البرارى الأفريقية. قد يكون برفقته شقيق أو ابن عم وقد يلتقى مطاريد يافعين مثله فيجمع البؤس شملهم فى عصابة تيسر عليهم مشقة الصيد المنفرد وتزيد من فرص الإيقاع بالفريسة. هم برغم يفاعتهم ضخام وبالغو القوة وتحيط بكوكبتهم هالة توحش وترهيب رادعة، لكنهم أفشل صيادى البرارى الأفريقية ومناطق السافانا لسخونة أجسامهم التى لا تحتمل المزيد من تسخين مطاردة الفرائس تحت شمس أفريقيا الحارة. يُرهقهم التشرد فى النهار بما يضيفه من حرارة إلى حرارة أجسامهم دائمة السخونة، فيلوذون بالظل متى لاح لهم قريبا. يرتمون خائرين فى دغل أخضر من السافانا المتطاولة بعد مواسم المطر، أو فى الظل الضنين لشجرة سنط أو خروب شوك أو باوباب ممتلئة الجذع ناصلة الغصون. يستلقون لاهثين لتهوية حرارة أجسامهم لتبرد قليلا. وفى وهاد الظل ونعاس الجوع يحلمون بطرائد الكسالى.

يرون فيما يرى النائم فريسة صغيرة كأرنب برى يتقاطع طريقه صدفة مع ضربة كف أو نهشة مخلب يسددونها إليه فتقتله، لقمةً عابرة يُهدئون بها جوعهم العاصر. وقد يرون فريسة كبيرة أوقع بها فريق من الضباع التى تفوقهم فى براعة الصيد ولا تضارعهم فى القوة فيغصِبونها منهم. يمارسون البلطجة المُسلَّحة بالأنياب القوية والمخالب الفتاكة، فيتنحَّى الضباع مغلوبين على أمرهم حتى ينتهى الغاصبون من التهام أفضل ما فى لحم الفريسة، وما أن يذهب هؤلاء الغاصبون للاستلقاء فى بقعة ظل قريب ليهضموا ما نهشوه، حتى يبدأ دور الضباع فى أكل البقايا. صورة شائعة تدمغ الضباع بما ليس فيهم بل فى الأسود، وللجهل سطوة إذا ما تكررت انطباعاته العَجول على العقول، فالضباع غالبا ما يكونون أصحاب الصيد، وهم الأمهر بالإيقاع بالفرائس لأنهم يُجيدون تطويق الفريسة كجماعة تُحسن التنسيق فيما بينها.

الضباع أذكى لكن الأسود أقوى بالشراسة وطول الأنياب وبأس المخالب. وتكون الغلبة للأسود فى معظم الأحوال. لكن هناك أحوالا أخرى تنتصر فيها العقول على فتك الأنياب والمخالب. فالضباع تظل تحيط بموقع الفريسة المُختطَفة بينما تتناهشها عصبة الأسود الغاصبة. ويظن من يشاهد الضباع فى هذا الموقف أنها تنتظر شبع الليوث لترمرم البقايا، لكن لا، فعقول الضباع المجبولة على التفكير والتدبير، تُعدُّ لهجمة مُرتدة جيدة التخطيط قبل فوات الأوان والتهام عصبة الأسود كل الصيد. تُقدِّر عقول الضباع موازين القوى فتدرك كم من أعدادها الإضافية تلزم لجعل الكفة تميل لصالحها. وتحشد الضباع المغدورة عددا من بنى جنسها تناديه من بقاع شتى بصيحاتها التى تبدو كضحكاتٍ مُقرقِرةٍ ساخرة، وبالعدد الكافى للغلبة تُحاصر الأسود وهم يلغون فى دم ولحم الفريسة المنهوبة، ثم تأخذ دائرة الضباع الكثيفة فى تضييق النطاق حول لمة المغتصبين فى هدير من الهسهسة المُنذِرة شديدة الإزعاج، عندها تدرك عصابة الأسود أن الكثرة المُنسقة تهزم غباوة القوة المُشعَّثة، فتنسحب لتنعم حلقة الضباع بما تبقى من الوليمة.

هذه الوحوش طاغية القوة التى يُجلِسها الضلال البشرى النابع من مطامع وتطلعات وحوش البشر على عرش غير حقيقى ويمنحها لقب «ملوك الغابة»، هى أبعد ما تكون عن النبالة المفترضة فى الملوك، كما أنها لا تنتمى أبدا إلى أى غابة، فهى من وحوش البرارى الأفريقية جنوب الصحراء. وهى فى عمر تشردها يحدث أن تتجمع فى أعداد أكثر من اثنين وأقل من عشرة، ويمنحها التزويق البشرى اسم «تحالفات»، وما هى إلا عصابات تتآزر فى البغى. حتى فى علاقة حميمية تماما، ولا تحتمل البغى، كالتناسل، أو«ممارسة الحب»! والذى لا يجود حقا إلا بالحب. فماذا عنه لدى وحوش البرارى؟

فى هجعة الظلال تنساب داخل أدمغة عصابة الأسود الشابة أعز أحلامهم: أن يصيروا زعماء أُسر بها لبؤة فتية أو لبؤات تشكل حريما لوهم ممالكهم وإرواء هياج سفادهم الذى لا يروى لفرط ما يأخذ ولا يعطى. وإن كان يلبى لدى المذعنات نداء الأمومة. ثم يأتى نسل من أشبال صغار يُذكِّرهم بفترة نعيمهم المبتور. وتلوح فى أفق الحلم غيوم لا مفر من مرورها: حتمية طرد هؤلاء الأشبال بقلوب بليدة متى ما كبروا ووصلوا إلى سن البلوغ، فهم حتما سينافسون ذكورة الكبار حتى لو كانوا آباءً، ويُهدِّد بقاؤهم بحدوث سفاح المحارم فى الأُسر المحكومة بالعزلة والأنانية والتوحش. سيرة تتكرر فى حياة الأسود. أضغاثٌ من جنة ونار وجنون. لكن وجوب الاستيقاظ من حلم الظلال حتمى. ومواصلة تشرد العصابة المسلحة حتمى أيضا. يستيقظون، ومن جديد كعصابة أشقياء يهيمون. يبحثون عن فرائس سهلة أو مغصوبة. ويتوقون إلى «حب» لن يكون أبدا بالتراضى.

تطوِّح ريح البرارى الأفريقية المفتوحة رائحة لا تلتقطها إلا أنوف ذكور الأسود الشابة الهائمة فتشعل أجسامها بنيران الهياج. إنها رائحة نداء أجساد لبؤات البرارى للتزاوج. تطلقها غدد جنسية فى مؤخراتها كأنما بانفصال عن أدمغتها. وبينما يبدأ التزاوج عند معظم الحيوانات بتودد وعروض منافسة ومعارك رمزية تنتهى إلى اختيار طوعى تحدده الأنثى. لا يكون عند الأسود إلا إعلان حرب واشتباكات قتال تُتوَّج كلها تقريبا بسفاد آلى وإخصاب قهرى. فالذكر الشاب الذى يمضى فى تشرده هائما وحده يلتقط عطر النداء بثغرتين فى سقف حلقه، تُرشِّحان رائحة الهواء وتكتشفان عبق نداء الخصوبة. ويحدث أن الذكور الشابة فى عصابات التشرد الجوال تلتقط العطر كما لو كان التقاطا جماعيا. وباتجاه هذا العطر الأنثوى الفاغم يهرول ذكور وحوش البرارى. حتى لو تصادف أن حظى ذكر منفرد بأنثى منفردة يروق لها وتروق له فإن هذا لا يعنى أنهما قادران على استكمال العناق وتكوين أسرة. فرسالة طلب الحب التى طيرت عطرها الرياح فى البرارى المفتوحة يمكن أن تجتذب إلى الوليفين ما يفض عناقهما ويطيح بحلمهما المشترك!

إذا جاءت إلى ركن المتحابين عُصبة من ذكور الأسود الجوالة يكون قتال. وإذا حضر فرد منافس يكون أيضا قتال. لا احترام لحق الاختيار لدى الأنثى فى اضطرام نيران هذه الذكورة الباغية. برغم أن الإناث حتى لدى الأسود لديها ما يسميه علماء الأحياء التطوريون «الانتقاء الجنسى» فالأنثى تفضل الذكر داكن اللِّبدة والذى يكون ناضجا وراشد العمر ربما لأنه يكون بها فى الحب أرفق وفى العيش أوفق. لكن المطاريد لا يعرفون الرفق ولا الوِفاق. يدخل الفرد الوافد فى قتال دموى مع الوليف الذى رقَّت له الأنثى. وتحسم نتيجة الاقتراع الوحشى ضربات القوادم الثقيلة ذات المخالب المُشهرة، وعضات الفكوك الجبارة ذات الأنياب كالخناجر. ويفوز الأقوى والأكثر وحشية وينسحب المهزوم حتى لو كانت الأنثى قد تآلفت معه.

لا حقوق اختيار لإناث الوحوش

الشيء نفسه يحدث حال هبوط عصابة من ذكور الأسود الصائعة الضائعة على المتحابين. يتقدم الأقوى من أفراد العصابة ويفرض القتال على الذكر المغدور. وتكون النتيجة ذاتها: الفوز للأشد ضراوة وتهيُّؤا للقتال ولو لحد القتل النادر بين أفراد النوع الواحد فى عالم الحيوان. وغالبا ما ينسحب الأقل نصيبا من الوحشية مثخنا بجراحه قبل أن يفقد حياته. وتفقد الأنثى حرفيا وواقعيا حقها فى الاختيار. ولعل طريقة لقاء التزاوج عند الأسود تشى بأن استسلام الأنثى للذكر القاهر عند اللقاء هو فرض واقع، وقهر ضرورة، وأمر جينات يهمها استمرار النوع ولو بقبول الاغتصاب، الحب بالعافية، فوحدها اللبؤة حال الجماع ودون كل ذوات الأربع من تقعد مذعنة باردة، لا تُبدى تجاوبا أكثر من مجرد إزاحة ذيلها جانبا لتنكشف للوحش الهاجم، فهى لا تتحمل ثقل جسمه ولا تأمن شر مخالبه وأنيابه، كما أنها لا تُبدى أى انفعال بطعنات وطئه!. كأنها تؤدى مهمة لا مفر لها من تأديتها فلا تطيق فى لحظة «ممارسة الحب» حمل «الحبيب» عند التلاقى، كما تفعل غالبية إناث ذوات الأربع من سكان البرارى الأفريقية، وأشهرها أنثى الخرتيت التى يستمر حملها للذكر على ظهرها بكامل ثقله مرفوعا عن الأرض وهى واقفة، ولساعتين كاملتين يستغرقهما العناق!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل