المحتوى الرئيسى

«الدستور» فى قرية المؤسس الحقيقى لـ«داعش».. من هنا خرج أبو أيوب المصرى

11/12 21:40

دقت أجراس منبهى المزعج لتعلن عن اقتراب الساعة من الثانية فجرًا، أخذت دقات قلبى هى الأخرى فى الخفقان، كأنها تنبئنى بأن ثمة قلقا قد اعترانى، كنت قد عزمت شد الرحال إلى «كفر الأعصر»، إحدى قرى محافظة الشرقية، التى تبعد نحو ١٠٠ كيلو متر شمال شرق مدينة القاهرة، لم يكن ينتظرنى هناك سوى ما قد تفعله الأقدار بى ومن برفقتى.

غلفت خوفى بشىء من الحذر، وحملت حقيبتى على كتفى وشرعت فى السفر.

تمرق السيارة بين الجداول والحقول، ويمرق مشهد رئيس الوزراء العراقى، نورى المالكى، على مخيلتى وهو يعلن على شاشات التلفاز نبأ مقتل زعيمى تنظيم «دولة العراق الإسلامية»: «أزف لكم البشرى بالضربة التى استهدفت وتمكنت من قتل أبوعمر البغدادى وأبوأيوب المصرى».

لقد أصبح الشاب «أبوأيوب» خطرًا لدرجة أن أضحى موته «بشرى لعموم الشعب العراقى والإنسانية جمعاء»، وفق «المالكى».. هأنذا أقترب من قريته، بعد أن أضنانى البحث عنها، فقد أوقعتنى مواقع الجهاديين وغيرهم على الإنترنت فى التضليل، وادعت أنه من سوهاج بصعيد مصر.. ولم يكن ذلك صوابًا.

اسمه عبدالمنعم وليس شريف.. من الشرقية لا سوهاج

إذا كان «المالكى» بذاته، قد أخطأ وهو يكشف عن الاسم الحقيقى لـ«أبى أيوب المصرى»، الشاب الذى طاردته قواته والمخابرات الأمريكية طيلة ١٠ سنوات كاملة، فقال إنه شخص يدعى «شريف هزاع»، ولم يكن ذلك صوابًا.. بل كان اسمه: «عبدالمنعم عز الدين على البدوى»، فإن خطأ العاملين على الميكنة الإعلامية، التى ذكرت أنه من سوهاج بدا هينًا.. لقد نجح الشاب الريفى فى أن يضلل أجهزة المخابرات العالمية حيا كان أو ميتا.

حملت شخصيته قدرا هائلا من الغموض، ونضبت المعلومات التى تناولت سيرته الذاتية، إلا من بعض ما تداولته وسائل إعلامية امتلأت بكثير من الأخطاء القاتلة، فراحت للخلط بينه وبين شريف هزاع، رفيق عز الدين البدوى، فى اليمن، الذى استلب منه البدوى كنيته «أبوأيوب المصرى» فباتت النبذة المختصرة للتعريف بـ«هزاع» هى نفسها النبذة المختصرة لـ«البدوى».

لم يكن الفضول فقط هو الذى حرك غريزتنا فى البحث، بل اكتشافنا أن هذا الرجل هو من وضع بنية التنظيم الذى شغل العالم فيما بعد، باعتراف أقرانه فى «القاعدة»، وأعاد تموضعه من حالة التنظيم إلى حالة الدولة، وبات «داعش» حديث العالم بتوحشه وتمدده، بقسوته، وشراسته، حتى قال بعض المراقبين عنه إنه أضحى «شبه دولة نظامية» يعيش فى عصر العولمة وما بعد الحداثة بفكر عصور خلت وأيام مضت، وكان واضع حجر أساسه وأعمدته هذا «المهاجر» باعتراف «القاعديين» أنفسهم.

طوت سيارتنا الطريق، وهى تهرول وسط الأشجار الشامخة، حتى اقتربنا من تخوم القرية، التى تقبع وسط قرى، أنجبت عددا من المشاهير، فكانت لافتة قرية «العدوة» تعلن نفسها، إنها قرية أنجبت رئيسا ولو كان «معزولا»، هو محمد مرسى، تولى رئاسة مصر، ولو سنة واحدة.

قبلها قرية أنجبت ثائرا تمرد عسكريا على خديو وتجرأ فقاتل ببضعة آلاف من الجنود، أكبر قوة عسكرية فى زمانها، الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس «بريطانيا» كان اسمه أحمد عرابى، وقريته تقع على الطريق نفسه واسمها «هرية رزنه»، وبعدها بـ١٠ كيلو مترات تقبع قرية عادل حبارة، المعدوم بتهمة قتل عدد من جنود الجيش المصرى فى «رفح»... هنا تقبع عشرات من القرى أنتجت مئات من قادة وعناصر تنظيم الجهاد.

«أين منزل الحاج عز الدين البدوى؟».. لم يكن أحد يعرف من هو، لكنهم أشاروا لنا من بعيد عن قرية «كفر الأعصر».. حتى نزلنا فى مسجدها، إنه المسجد ذاته الذى كان يؤدى فيه «عبدالمنعم» الصلاة.

«هل تعرف شخصا يدعى عبدالمنعم عز الدين البدوى؟».. هكذا سألت رجلا يتأهب للصلاة فى المسجد، فأجاب: «أعرف عز الدين البدوى.. هو رجل يعمل فى المعهد الأزهرى».

«وماذا عن ابنه؟»، أجاب: «يقال إنه كان له ابن سافر إلى السعودية عام ٩٠ لأداء العمرة لكنه لم يعد ويقولون إنه قتل فى العراق».. يبدو أن أحدا لم يكن يعرف أهمية الشاب وأبدى غالبيتهم استغرابهم من تحملنا عناء السفر من أجل هذا.

أقام فى مقابر الموتى.. وَلِعَ بتقليد الشيخ كشك وكان منطويًا عاشقًا للكتب التراثية

توضأنا وصلينا الفجر.. اقتحم علينا عزلتنا رجل يبدو أنه تجاوز السبعين من عمره، فبادرنا بالسؤال: «هل تسألون عن ابن البدوى الذى قضى فى العراق؟»، أجبنا بـ«نعم».. قال: «كان هذا الشاب يجلس كثيرا هنا فى المقابر»، ثم أشار بسبابته فى اتجاه نافذة خشبية، عندما اقتربنا منها أطلت بنا على مشهد حزين لشواهد القبور، وسيدة تجمع ما تبقى من فوارغ بلاستيكية. هنا كان يجالس الموتى وتسكن روحه بين العظام الرميم، حتى هاجر فجأة تاركا هذه السيدة تمارس مهمتها فى جمع القمامة.. فر الشاب الهادئ الوديع إلى مناطق الاشتعال، ليذيق الآلاف الموت، وليذوقه هو بعد ٢٠ عاما من مغادرته تلك المقابر.

كان مولعا بتقليد الشيخ عبدالحميد كشك، أحد أبرز خطباء المساجد فى مصر فى النصف الثانى من القرن الماضى، هكذا قال لنا ابن عمه علاء البدوى، الذى حادثنا هاتفيا، دون الموافقة على اللقاء المباشر معنا.

«أقول للشيخ المفضال والبطل المغوار الهاشمى القرشى الحسينى النسب أمير المؤمنين أبى عمر البغدادى، بايعتك على السمع والطاعة.. معلنا ذوبان كافة التشكيلات التى أسسناها بما فيها مجلس شورى المجاهدين وبالنيابة عن إخوانى فى المجلس تحت سلطة العراق الإسلامية».

تعلو نبرات صوته وتنخفض فى تلاوته نص مبايعته، وهو زعيم «القاعدة» فى العراق، لـ«أبى عمر البغدادى»، الذى نصبه هو أميرا للمؤمنين.. إنه بالفعل يبدو متأثرًا بالشيخ كشك، لكن ابن عمه يقول لم نتوقع يوما أن يصبح «عبدالمنعم» زعيما لـ«القاعدة» فى العراق ووزيرا للحرب فى تنظيم «دولة العراق الإسلامية» هناك.. لم يكن هناك فى سلوكه وأفعاله ما يمكن أن يشى بذلك.. إنه كان منطويًا يهوى قراءة الكتب التراثية ولا ينخرط فى اللعب مع أقرانه. تتعالى نبرات صوت «عبدالمنعم» حين يبايع أبوعمر البغدادى، أميرا للمؤمنين: «واضعًا تحت تصرفكم وإمرتكم المباشرة ١٢ ألفا هم جيش القاعدة، كلهم قد بايع على الموت فى سبيل الله وأكثر من عشرة آلاف لم تستكمل عدتهم المادية أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون».

يمسك رفيقى عمرو عبدالمنعم بأوراقه، وهو الباحث فى شئون الحركات المتطرفة، ثم يتلو منها: «امضوا حيث أمركم أميركم وضعنا تحت تصرفكم اثنى عشر ألف مقاتل».. لماذا؟.. لأن «اثنى عشر» ألف مقاتل لها دلالة فى أدبيات الجهاد، حيث «لا يُغلب اثنا عشر ألفا من قلة» كما جاء فى الحديث. لم يخطر فى بال أحد حينها أن ذاك الصوت القوى هو للشاب هزيل الجسد ضعيف النظر «عبدالمنعم عز الدين البدوى»، الذى ورث تنظيم «القاعدة» فى نسخته الأبشع بعد مقتل قائده المتوحش أبى مصعب الزرقاوى، بل إنه فى عام ٢٠٠٧ يعلن عن قيام دولة فى العراق نصّب لها هو مجهولا آخر عراقيا كُنّى بـ«أبى عمر البغدادى».

لقد شكل لدولته هذه هيكلا وإدارة واختصر اسمها لــ«داع»، لف الزمان دورته واقتطع تنظيمه جزءا كبيرا من الأراضى الشامية فلم يبق سوى الشين تضاف إلى الاختصار الأول لينقلب الاختصار والواقع معًا وتصبح «داعش».

«إن مثل هؤلاء يميلون أكثر للانتماء للأفكار والمعتقدات، التى تترسخ فى عقولهم ووعيهم، ولا ينتمون كثيرا للأرض ولا للمكان والناس.. كما أن قدرتهم على تحديد الأهداف ترتفع للغاية، وتعمل على الشحذ الأحادى لذواتهم دون أن يتسلل إلى عقولهم أفكار مغايرة أو مناقضة سوى الفكرة التى أغلقوا عليها عقولهم ووجدانهم، فتصبح شديدة الصلابة وعصية على التفكك». هذا ما يقوله عالم الطب النفسى، الدكتور محمد المهدى فى حديثه معنا.

فشل فى دخول كلية الشرطة.. ذهب للعمرة فى 1990 ولم يعد.. وأسرته: جاهد ضد الأمريكان فى سبيل الله

يقول ابن عمه: «إن عبدالمنعم المولود عام ١٩٦٥ أخبرهم بأنه ذاهب لأداء العمرة فى عام ١٩٩٠، ولم يعد لكنه اتصل بعد ذلك بنا وأبلغنا بأنه سيعكف فى المملكة لدراسة العلم الشرعى».

ونحن نتجول أمام مدرسة «عبدالمنعم» وبيته قابلنا جارًا له حدثناه عنه فقال، إن أباه حاول أن يدخله كلية الشرطة، وجهز له مبلغا من المال لدفعه لوسيط لكنه لم ينجح فى ذلك، وبعدها بــ٣ سنوات سمعنا أنه سافر إلى السعودية ولم يعد بعد.

اسم «عبدالمنعم» ظهر فى سجلات الأمن المصرية عام ١٩٩٩ على ذمة قضية «العائدون من ألبانيا»، لكنه ذكر على خجل، فقد كان الاسم الأخير فى القضية، التى ضمت العشرات من القادة وحكم عليه وقتها غيابيا بــ٧ سنوات، ولم تذكر أوراق القضية عنه ثمة معلومات تذكر.

ذهبنا لـ«منتصر الزيات»، بصفته المحامى فى تلك القضية، التى شغلت الرأى العام فى مصر حينها، فحدثنا قائلًا: «ألقت أجهزة الأمن القبض على شخص يدعى محمد السيد إبراهيم النجار، كان يشرع فى ترتيبات لعودة عشرات المقاتلين من حقول الجهاد ومنها ألبانيا، لتنفيذ عمليات فى مصر، فأدلى بمعلومات تفصيلية، عن عناصر القاعدة فى اليمن والسودان وأفغانستان».

بيد أن «الزيات» لاحظ رغم ورود اسم «عبدالمنعم» فى ذيل لائحة الاتهام فإن أجهزة الأمن لم تقدم معلومات عنه، بل ذكرت اسمه فقط خاليا من التفصيلات.

يعود «الزيات» ليحاول فك الغموض، الذى اكتنف شخصية «المهاجر» فيقول: «برع أيمن الظواهرى، زعيم تنظيم القاعدة، فى المناورة، فاستطاع أن يجند عددا من العناصر التى لم تكن تحت الرصد الأمنى، ولم يكن لدى أجهزة الأمن خلفية عنهم، وذلك فى فترة السماح لمئات من الشباب بأن يغادر البلاد للقتال فى أفغانستان للتخلص منهم من جهة أو فى ضوء السياسة الأمريكية التى كانت تهدف لاستخدام هؤلاء كمخلب قط فى مواجهة القطب السوفيتى فى هذا الوقت من جهة أخرى».

«فى التنظيمات الراديكالية كلما كنت أكثر غموضا كنت أكثر قوة وقدرة، ومن ثم فإن تلك التنظيمات يعلو فيها ويصعد كل من اتصف بالغموض وأضاف على نفسه هالة من القداسة.. أشخاص معينة هى التى لديها قدرة على أن تبقى سرية، وستجد فى التنظيمات الراديكالية نوعا مثيرا وغامضا ونوعا آخر يظهر ليتصدر المشهد وهؤلاء هم السطحيون».. هكذا يرى استشارى الطب النفسى، إبراهيم مجدى حسين، فى حديثه معنا.

فى ديوانه المعنون بـ«آمال وآلام» تحدث «عبدالمنعم» عن والديه فكتب: «اتّصلت على أهْلى بعدَ فترةِ انقطاعٍ طَويلةٍ، وكانَتْ أمّى علَى الهاتِف تَنتظرُ، فما أن سمِعت صَوتى حتّى انخرطَتْ فى البُكاء، فأخذَ منْها والدى السّماعة ريثما تهدأ ثم تكلمنى كالعادة، إلا أنها هذِه المرّة لمّا جاءَت تكلّمنى ثانيةً بكَت وبكَت ولم تستطِع قطّ أنْ تُكلّمنى، إلا أنّها قالت: (يا ولدى أريد أن أراك)».

إنها أم ريفية ثكلى، بدا أنها لم تكن تعرف أن ابنها أضحى من أكبر قادة التنظيمات الإرهابية فى العالم، قتل بإشارة من يده مئات بل ربما آلافا من الضحايا، بسيطة وغير متعلمة، لم تذكر ابنها بسوء بل قالت إنه «ذهب ليجاهد فى سبيل الله».

وبعد سقوط نظام حسنى مبارك، تحدث الحاج عبدالمنعم عز الدين، من أمام السفارة العراقية فى القاهرة، وحوله عدد من أعضاء السلفية الجهادية، عن بطولات ولده، الذى وضعت أمريكا على رأسه ٥٠ مليون دولار، إلا أنهم فشلوا فى اصطياده ٤ مرات على التوالى، حتى جاءت المرة الأخيرة، فلم يرض الاستسلام، فلم ينجحوا فى القضاء عليه، إلا بعد استدعاء الطيران الحربى الأمريكى.

وطالبت شقيقة عبدالمنعم بتدخل شيوخ السلفية، من أمثال محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، إلا أن الاستجابة جاءت من أحد قيادات الدعوة السلفية فى الإسكندرية، جماعة حزب «النور»، وهو الشيخ سعيد عبدالعظيم، الذى طالب بالإفراج عن زوجة «المصرى» فى السجون العراقية، بوصف زوجها مجاهدا ضد القوات الأمريكية فى العراق.

كان همهم الشاغل هو فك حبل المشنقة من حول رقبة زوجة ابنهم اليمنية «حسناء» التى كانت قد حكم عليها بالإعدام، بعد أن نجت من القصف الذى أودى بحياة زوجها، وقضت بضعة شهور فى سجن «الرصافة»، كما كانت تطالب باسترجاع أولادها إلى أحضانهم علّ أفئدتهم الملتهبة تبرد قليلا، لكن هذه الأجواء لم تخل من طرافة عفوية.. عندما كان يحاول الزوج إسكات زوجته منفعلا ليقوم بالتحدث هو بدلا منها.

تزعّم «القاعدة» بعد مقتل الزرقاوى.. وعاش 8 سنوات مع زوجته بـ«هوية مزيفة»

٣٠ عاما من الهجرة قضاها متنقلا بين حقول «القاعدة» فى أماكن شتى.. كان يجيد التحرك دون أن يترك وراءه أثرا.. رجل يتمتع بحس أمنى قلما تجده عند غيره.. فمن ذرى جبال الأفغان، إلى قائد كان من بين ٢٠ أسسوا «التوحيد والجهاد» فى العراق، فأفضى به الحال لأن يكون زعيما لــ«القاعدة»، بعد أبى مصعب الزرقاوى.

الرحلة الطويلة كانت من المفترض أن تعطى لأجهزة المخابرات فرصة كبيرة لجمع أكبر قدر من المعلومات عنه، لكن حتى لحظة مصرعه لم يكن هناك شىء، لا اسم، ولا جنسية، ولا طول، ولا وزن، ولا نوع للدم.

لكن مصر كانت حاضرة دوما فى فكره، ووجدانه، تظهر فى كتاباته، وخطاباته، مع أنه لم يؤذ منها قط، لكن ربما رأى أن نظامها قد آذى عشيرته، فقرر الانتقام.

أعدمت جماعته السفير المصرى فى العراق، إيهاب الشريف، أمام الكاميرا، وبدم بارد، كان مشهدا مؤلمًا لجموع المصريين، الذين لم يكونوا يعرفون ساعتها أن «عبدالمنعم» هو الرجل الثانى فى التنظيم المسئول عن قتله، لم يكن حديث «الشريف» أمام الكاميرا يستدعى قتله، غير أنه كان يعمل سفيرًا لمصر فى إسرائيل فى السابق.

التقينا شخصية مصرية مخابراتية، كانت قد اختطفت أيضا فى العراق، قبل عملية قتل السفير، هو اللواء محمد ممدوح قطب، الذى روى لنا قصة اختطافه من مجموعة عراقية مسلحة لم تكن تابعة لـ«القاعدة»، وعندما علمت أنه كان يعلم الأطفال القرآن فى المسجد، أفرجت عنه.

حكى لنا «قطب» أنه التقى «الشريف»، وحذره من السفر إلى بغداد، إلا أنه لم يستجب لنصيحته، فشدد عليه بأخذ الحيطة والحذر، لكنه قضاء الله كان قد نفذ. حط الظواهرى فى اليمن قبل استقراره -حينا من الدهر- فى السودان.. ثمة معلومات تشير إلى وجود «المهاجر» فى السودان باعترافات ممن قيل إنه أستاذه، «إبراهيم محمد صالح البناء»، الذى قال فى أحد اعترافاته أمام السلطات اليمنية، إنه نجح و«أبوحمزة» فى تأسيس جهاز استخباراتى لـ«القاعدة» فى اليمن.. (قتل «البناء» فى صحراء اليمن مطلع العام الجارى).

اقترب «المهاجر» من مصرى آخر فى اليمن، يدعى أحمد بسيونى دويدار الشهير بــ«بسيونى القاعدة».. وصف بين أقرانه بــ«ملك الصمت» وبــ«أمير السرية» من أجل هذا ولاه «الظواهرى» مسئولية «القاعدة» فى اليمن.. لكن الملاحظ أن «البناء» و«بسيونى» حكم عليهما أيضا غيابيا فى قضية «العائدون من ألبانيا» تلك القضية التى تشى بجذور التشابك بين هؤلاء جميعًا. استغل عبدالمنعم عز الدين البدوى «المهاجر» كنية صديقه شريف هزاع «أبوأيوب المصرى»، فى تزوير جواز السفر باسمه، بمساعدة صديقهما «إبراهيم محمد صالح البناء»، الذى قال هزاع إنه كان يجيد تزوير الأوراق الرسمية والتخفى والتنقل بين الدول بسهولة، لكنه لم يغادر اليمن مطلقا منذ وصوله عام ١٩٩٣ حتى أطلق عليه بن لادن «الأسطورة».

فى حديثه معنا عبر شبكة التواصل الاجتماعى «فيسبوك» قال هزاع إن «البناء» هو الذى تولى تدريب «المهاجر» الذى سافر إلى العراق لاحقا بأوراق مزورة ودربه على أعمال الاستخبارات، كما أنه هو الذى رشحه لتولى أمر التنظيم فى العراق لاحقا بأوراق مزورة بعد اغتيال «الزرقاوى».. قال هزاع إن كنية «المهاجر» الحقيقية هى «أبوالدرداء».. لقد كان متعدد الكنى والأسماء الكودية.

طلب المهاجر من أقرانه الزواج فعرضوا عليه «حسناء».. كانت جنسيتها يمنية، لكنها لم تكن تعرف على وجه التحديد هويته الحقيقية فتزوجها بجواز سفر «يوسف حداد لبيب» وهو الاسم الذى حط به على الأراضى اليمنية.

قالت «حسناء» لصحيفة الجارديان، إنها لم تكن تعلم حينها أن زوجها هو «المهاجر»، وإنها تزوجته فى عام ١٩٩٨، إلا أنها لم تكتشف قيمته إلا فى عام ٢٠٠٦، ثم وصفته بـ«الغامض والغريب».

ويؤكد على عبدالعال، باحث فى الحركات الجهادية، أنه لا يمكن أن يُدلى قيادى أو عنصر فى «القاعدة» بمعلومات تتعلق بوضعه التنظيمى لزوجته أو أى من أقربائه.

الإرهابى الدولى كتب قصيدة فى «الحُور العين» وتلاها تحت القصف

تطاير زجاج النوافذ وعلا غبار البارود، كان عبدالمنعم جليسًا بين رفقائه، وشظايا القنابل تطيح بالرءوس، إلا أنه أخرج ورقة يتلو منها أبيات شعر كان قد نسجها فى الحور العين: «نظراتُ عينِيها سِهامٌ تكْلِمُ.. وكواعبُ ياقوتٍ هنَّ نواهدٌ.. بَيْنَ الشِّفاهِ حلاوةٌ سكْرٌ به».. وفتح أحدهم كاميرا ليُسجل به ذلك الحدث.. وتعالت الضحكات.

سقطت هذه الكاميرا فى أيدى القوات الأمريكية.. وذاع ذاك الفيديو على شبكة الإنترنت، إلا أننا قد وجدناه قد تحدث عن هذه القصيدة فى ديوانه الشعرى فقال: «هذه القَصيدة كَتبتُها وقد أُحيط بيتُنا من كلّ مكانٍ، واشتدّ القَصْف، وزحَف العَدوّ إلينا، وسَحب الإخوةُ الأقْسام واستعدّوا للمَوت».

ويسترسل: «جلسْتُ أكتُب هذهِ القَصيدةَ، ثمّ أوقَفتُ الإخوةَ وقُلت لهم: كتَبتُ قَصيدةً فى الحُور، قالوا: كيفَ لكَ قلبٌ على الكِتابة، وهلْ هَذا وقْتُه؟، قُلتُ: ومَتى إذَن وقتُها؟، وهلْ للحُور وتذكّرِها موضعٌ إلّا هذا الموضِع والوقت؟، وبِالفِعْل أكثرَ من ثُلثَى مَن كانَ مَعى قُتِلوا، فى ثانى يومٍ من هذهِ الجلسة».

بات تدخل الطبيب النفسى، محمد المهدى، مُلحًا، فيرى أن «فى لحظة الاقتراب من الموت، تحتاج هذه الشخصية لأن تثبت وتُعزى نفسها فى لحظة الصراع هذه بأنها ستترك الدنيا، وتذوق مرارة الموت فى مقابل الجنان، كما أن هذا الشخص يريد أن يقطع كل صراع داخلى يمكن أن يراوده فى صحة طريقه الذى سلكه من عدمه». كان حريصًا طيلة الوقت على الحفاظ قدر المستطاع على ما كتب، فقد كان يدون كل مذكراته، لكنها فُقدت كلها، مع حرص أبى مصعب الزرقاوى، على أن تظل موجودة. فكتب يقول: «ما بينَ يديكَ يا أخى إنّما هو نتفٌ من قصائدَ طويلةٍ ضاعت منّى، وحاولتُ أن أتذكّر بعضَها قدر المُستطاع، وما ضاعَ من قصائدى ثلاثةُ أضعاف ما بين يديك أو يزيد».

ويضيف: «ثُمّ إنّ أعداءَ الله أخذوها مرّتين وقصفوها مرّة، وفى كلّ مرة أحاول أن أتذكّر بعضها، فتأتى الأخرى لتذهب بالبقيّة، وفى أحداث الفلّوجة الثّانية طلَب منّى أخى أبومصعب ألاّ أدعَ الورقة والقلم، فكنتُ أسجّل شِعرى ومشاعرى، حتّى اشتدّ الخطبُ، وكنتُ أقفز من بيتٍ لبيت، وأضعُ دفترى إلى جانب مخزنى، حتى حوصِرتُ فى أحد البيوت وأيقنْت بالهَلاك ولم أشكّ فى ذلك، فأبصرتُ عجوزًا كان لها فضل كبيرٌ علىَّ، فقُلت لها: يا أمّى هذا مالى، هوَ لكِ، وهذا الدّفتر حاوِلى إيصالَه إلى إخوانى، فإنه عندى لا يقدّر بمال، وكنتُ أرجو أن يصلَ إلى ابنى ولعلّه يقرؤه بعدما يكبُر فيعرفُ ما كان عليه أبوه، فلا يحيد، ولعلّه يتّعظُ»، لكن ضاعَ الدّفتر.. لا ندرى أكان ضياع أجندة المهاجر خيرًا أم شرًا، لكننا نتمنى لو كانت قد سقطت بيدنا نحن.

ولم أجد فى كتاباته مفارقة أكثر من ولعه بشخصية «المُهلب بن أبى صفرة»، ذاك القائد الإسلامى الشهير، الذى وهب نفسه وأولاده لحرب الخوارج، فأمضى سنين حتى كسر شوكتهم، وقضى على مملكتهم فى خراسان.

وبعد مرور ٣ سنوات من مقتله، انتشرت معسكرات تنظيم الدولة «داعش»، التى تحمل اسمه، فى العراق وسوريا، وليبيا، وسيناء، ونسجوا من قصائده أناشيد ثم يرددون: «وباسمك يا أبوحمزة المهاجر نقتدى».

قاد معركة «أبوغريب».. وروايتان تكشفان عن قصة مقتله

انتهت معركتا الفلوجة، الأولى والثانية، وما زالت أسطورة الزرقاوى، وجماعته، محلًا للجدل والنقاش، فهناك من يرى أنها شخصية هُلامية، اخترعها الأمريكيون، لخلق فزاعة تبرر تدخلاتهم ووجودهم، بينما يصر الأمريكان وحلفاؤهم، على أنه شخصية إرهابية ضليعة بأحداث العنف فى العراق.

إلا أن الظل الخفى له لم يعرف عنه أحد شيئًا، إنه أبوأيوب المصرى «المهاجر»، الذى ظل مختفيًا داخل دهاليز التنظيم السرى أصلًا، حتى خطط «الزرقاوى» للهجوم على سجن أبوغريب، بعد انتشار فضيحة تعذيب السجناء.

وقع الاختيار على الرجل الثانى فى الجماعة أبىأنس الشامى، لقيادة الهجوم، لكنه قُتل وغالبية مجموعته قبل الاقتحام، فوقع الاختيار على أبى أيوب المصرى «المهاجر» لتولى المهمة، فتحقق الهجوم، وأخرجوا العشرات من أتباعهم فى معركة شرسة.. برز اسم «المصرى» بعدها دون معرفة حقيقية بهُويته.

كيف لهذا الريفى المنطوى بنظارته السميكة أن يصبح قائدًا عسكريًا؟.. ١٤ عامًا كانت كافية لاكتسابه صفات جديدة، إنه تعرض فى أماكن شتى لصنوف متعددة من الخبرات، فبات أكثر حيطة وحذرًا، وتشرب القسوة والصلابة.

فى قصة النهاية نعتمد على ما روته الحكومة العراقية، وما رواه أفراد من تنظيم «القاعدة» أيضًا.. فى مارس من عام ٢٠١٠ ألقت القوات العراقية، إثر إشارة من الولايات المتحدة الأمريكية القبض على زعيم التنظيم فى بغداد، الذى يدعى مناف الراوى.. كان أحد القلائل الذين كان لديهم اتصال مباشر بزعيم التنظيم اللاحق أبوبكر البغدادى.

نشرت مواقع «القاعدة» هذه القصة، وقالت إنها شهادة لجندى كان يعمل مع الزرقاوى: «بقى أبوعمر البغدادى وأبوحمزة ٧ أشهر فى مكان واحد، هو الذى قُتلا فيه مع مرافقتهما وبعض القيادات، ولم يتواصلا مع أحد إلا عبر مناف الراوى (والى بغداد)، وهو الثقة شبه الوحيد والقديم بين باقى الأمراء الجدد الذين كان يسميهم أبوحمزة المهاجر (أمراء الاضطرار) لحداثتهم».

«الراوى» كان هو من ينسق البريد، ويوزعه وكان أحد بيوت البريد هو بيت إبراهيم عواد السامرائى، ولم يكن يعرف الطرفان المرسل والمستقبل بعدم مقتل الراعى، وهو قائد أركان التنظيم، حينها تم تسليم العميد البعثى حجى بكر قيادة الأركان، وكان قد سجن سابقا لعلاقته بعزت الدورى. وبعد ٧ أشهر، اعتقل أحد مراسلى البريد الذين كانوا يعرفون بيت إبراهيم عواد السامرائى وكان يعرف بيت مناف الراوى، وعند اعتقال المراسل جاء أحد أمنيى بغداد، يخبر أباعواد السامرائى باعتقال المراسل وقال له إنه يعرف بيت مناف الراوى، فأخبر أحدًا بذلك، فرد السامرائى: أنا مجرد بيت بريد، ولا أعرف أحدًا وقال حرفيًا: «مو مثلى يعلمونه على أحد، وعسى يصبر الآخر المراسل». فخرج العنصر الأمنى والدمع بعينيه منه، وعلى إثر ذلك اعترف المراسل على مناف الراوى والى بغداد، ومن ثم اعترف على مكان «أبوعمر» و«أبوحمزة»، فقتلا ومعهما ثلة من القادة والمرافقين، فحدثت بلبلة كبيرة فى الصفوف، واعتقالات طالت أغلب مناطق العراق على إثر مقتلهما، ولم يبق فى الساحة غير حجى بكر.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل