المحتوى الرئيسى

ننشر مقال حسن نافعة الأصلي عن «وعد بلفور» الذي حرفته «الحياة اللندنية»

11/08 18:05

خص الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، «التحرير» بمقاله الأصلي حول «وعد بلفور»، الذي بحسب «نافعة»، نشر مجتزأً في جريدة الحياة اللندنية، بعد اقتطاع فقرات منه. وإلى نص المقال:

عنوان: بعد مئة عام من "إعلان بلفور" هل وعى العرب الدرس؟

كان جمال عبد الناصر محقا حين وصف "إعلان بلفور" بأن "من لا يملك أعطى لمن لا يستحق" غير أن بلاغة التعبير لا تكشف بالضرورة عن القصد أو النية. فإذا كان المقصود من هذا التعبير البليغ مجرد نزع الشرعية القانونية والأخلاقية عن سلوك بريطاني تسبب في ظلم فادح للشعب الفلسطيني، فلن يكون قد نجح حينئذ في تجاوز حدود البديهيات، أما إذا كان المقصود شحذ الهمم لاسترداد الحقوق المغتصبة، فيصبح من الضروري هنا عدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين، والقيام بفحص شامل لما ترتب على هذا "الإعلان" البريطاني من نتائج، في ضوء السلوك اللاحق لكل الأطراف المعنية خلال المئة عام الماضة. فما يعيشه العالم العربي اليوم لم يكن فقط نتاج تآمر الآخرين عليه، وإنما جاء أيضا نتاج أخطاء ارتكبها في حق نفسه، بالإهمال تارة، أو بسوء الفهم وعدم الإدراك تارة أخرى أو حتى بالاندفاع غير المدروس في كثير من الأحيان، مما سهل على المتآمرين مهمتهم ودفعهم للتمادي في غيهم.

لم يكن "إعلان بلفور" في حقيقة الأمر مجرد تصرف غير قانوني أو غير أخلاقي، وإنما كان جريمة تم ارتكابها مع سبق الإصرار والترصد، ويوجب، من ثم ليس فقط الاعتذار وإنما بذل كل ما يلزم من جهد لرفع الظلم وجبر الضرر. ومع ذلك يتعين في الوقت نفسه ألا ننسى أبدا أن الجريمة ما تزال مستمرة، وأن فصولها لم تكتمل بعد. فالذين خططوا لاغتصاب فلسطين أو شاركوا في تنفيذ هذه الجريمة النكراء في مرحلة أو في أخرى ما زالوا يصرون على السير على نفس الدرب، لا لشيء إلا لأنهم واثقون من عجز الآخرين عن اعتراض طريقهم أو ردعهم، وربما اقتناعهم بأنهم لم يقترفوا أي جرم أصلا، وهو ما يفسر ليس فقط رفض رئيسة وزراء بريطانيا تقديم اعتذار، وإنما إصرارها على دعوة بنيامين نتنياهو للاحتفال معها بمئوية الإعلان المشئوم في قلب العاصمة البريطانية.

إذا أراد العالم العربي حقا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حقوق مهدرة، فلا يزال كثيرون يتربصون لنهش ما تبقى منها، عليه أن يدرك ثلاث حقائق باتت ساطعة كشمس النهار:

الحقيقة الأولى: لم يكن صدور إعلان بلفور نتاج سياسة غربية معادية للعرب والمسلمين بالذات بقدر ما كان جزءًا من رؤية استراتيجية بريطانية أوسع استهدفت تحقيق النصر في الحرب العالمية الأولى، أملا في الفوز بأكبر قدر ممكن من تركة إمبراطورية عثمانية عجوز تحتضر. وانطلاقا من هذه الرؤية نشطت الدبلوماسية البريطانية، وراحت تتحرك في كل اتجاه موزعة كل أنواع الوعود والإغراءات بصرف النظر عن مدى اتساقها أو التزامها بالمعايير الأخلاقية أو القانونية.

فالحرص على تماسك معسكر الحلفاء دفع بريطانيا للعمل على اقتسام أملاك الإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي مع فرنسا (اتفاقية سايكس - بيكو: مايو 1916). والحرص على إرباك الصفوف الخلفية للقوات التركية في الجزيرة العربية دفعها للتنسيق مع الشريف حسين بن علي، والي مكة المتحالف مع التيار العروبي البازغ، ومساندة جهوده الرامية لإشعال الثورة على الحكم العثماني في شبه الجزيرة العربية، مقابل وعد بمساعدته على إقامة دولة عربية تحت قيادته (مراسلات حسين - مكماهون 14 يوليو 1915 - 30 يناير 1916). والحرص على كسب ود يهود العالم دفعها لإصدار "تصريح" تعبر فيه عن استعدادها للمساعدة في "إقامة وطن قومي لهم في فلسطين" (وعد بلفور: 2 نوفمبر 1917).

الحقيقة الثانية: لم تنتظر الحركة الصهيونية وعدًا من بلفور، كي تشرع في العمل على تحقيق حلمها المتجاوز كثيرا لما جاء في هذا الوعد. فبلفور التزم بالمساعدة على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين دون الإضرار بحقوق غير اليهود" أما الحركة الصهيونية فقد سعت إلى إقامة دولة لليهود على كامل فلسطين التاريخية وراحت تشرع فور انتهاء مؤتمرها التأسيسي عام 1897 في العمل على: 

1- تدريب أكبر عدد ممكن من اليهود على أساليب الزراعة الحديثة وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. 

2- تنمية الوعي القومي لدى اليهود في كل أنحاء العالم وتلقينهم أسس ومقومات الثقافة اليهودية لتعميق مشاعر الانتماء لفلسطين باعتبارها وطنهم المفقود أو "أرض الميعاد". 3- استخدام كل الوسائل المتاحة لإقناع القوى المهيمنة على النظام الدولي بأهمية وفوائد المشروع الصهيوني. لذا فما إن نجحت في استصدار "إعلان بلفور" حتى سعت لإقناع الأطراف المشاركة في مؤتمر الصلح في فرساي بضرورة تحويله من مجرد "إعلان بريطاني بالنوايا" إلى "التزام دولي" يتبناه المجتمع الدولي ككل، ممثلا في "عصبة الأمم" في ذلك الوقت، على أن يتم النص عليه في صك الانتداب الذي أبرم بالفعل عام 1922.

وهكذا حظى "الوطن الموعود" بغطاء من "الشرعية الدولية" ضمنت الحركة الصهيونية بموجبه ظهيرا دوليا جاهزا لحماية مشروع استعماري استيطاني غير محدد المعالم. وحين بدأت السياسة البريطانية تتغير، مع هبوب رياح الحرب العالمية الثانية، قررت الحركة الصهيونية نقل رهانها إلى الولايات المتحدة التي راحت تتغلغل داخل مراكز صنع القرار فيها إلى درجة مذهلة، ومن ثم لم تتردد في الدخول في صراع مسلح، ليس فقط ضد القوات البريطانية الموجودة على الأرض الفلسطينية، بل ضد كل من يعترض طريقها على الساحة (اغتيال اللورد موين عام 1944، نسف فندق الملك داوود في القدس عام 1946، اغتيال الكونت برنادوت عام 1948.. إلخ).

وبعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل راحت هذه الأخيرة تطور من قدراتها الذاتية كركيزة لحماية المشروع الصهيوني الكبير، رافضة ارتهان أحلامها بإرادة أي قوة دولية مهما كانت حليفة أو داعمة. وهذا درس تعلمته في أزمة السويس حين وجدت نفسها مرغمة على الانسحاب من سيناء بسبب اعتمادها على فرنسا وبريطانيا ومشاركتهما لها في العدوان على مصر عام 1956، ومن هنا جاء قرارها بألا يتكرر هذا الأمر بعد ذلك أبدا وألا تعتمد إلا على نفسها وقواها الذاتية، خصوصا إذا ما اضطرت إلى خوض القتال.

الحقيقة الثالثة: لم يرد في "إعلان بلفور" أي إشارة إلى موافقة بريطانيا على إقامة "دولة يهودية" بل وحرص على أن يتضمن نصا صريحا يشير إلى التزامه بـ"عدم المساس بحقوق غير اليهود في فلسطين". لذا يمكن القول إن مهارة الحركة الصهيونية في التعامل مع المستجدات الدولية هو الذي مكنها من تحقيق إنجازات راحت تتراكم إلى أن تجاوزت الآن كل ما ورد في "إعلان بلفور" من وعود.

ومع ذلك يتعين الانتباه إلى حقيقة بالغة الأهمية وهي أن الحركة الصهيونية لم تتمكن حتى الآن من استكمال حلمها المتواضع في إقامة دولة يهودية على كامل التراب الفلسطيني، ناهيك بحلمها الأعظم بإقامة دولة يهودية كبرى في المنطقة تمتد من النيل إلى الفرات.

اليوم، وبعد قرن من إبرام اتفاقية "سايكس بيكو" يوشك المشروع الصهيوني على تحقيق أكثر أهدافه جنوحا، بينما يوشك المشروع القومي العربي، والذي ظهر في نفس الحقبة الزمنية تقريبا، على الانهيار تماما، إن لم يكن قد انهار بالفعل. فهل يجوز، في ضوء ما تقدم، استمرار الادعاء بأن ما تعيشه شعوب الأمة العربية اليوم هو نتاج مؤامرة غربية عليها؟ أم أنه كان بالأحرى نتاج أسباب داخلية حالت دون رؤية الأمة لما يحاك لها؟ الواقع أنني أكثر ميلًا للتفسير الأخير.

فعندما كان تحطيم "الخلافة الإسلامية" هو الهدف الأعظم للقوى المناهضة للإمبراطوية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى وجدت بريطانيا في "التيار العروبي" حليفا طبيعيا لها وراهنت عليه مثلما راهنت على الحركة الصهيونية في الوقت نفسه. وحين أصبح التيار العروبي قوة لا يستهان بها، خصوصا في عهد عبد الناصر المتحالف مع الاتحاد السوفييتي، وجدت الولايات المتحدة في "التيار الإسلامي" كما في إسرائيل حلفاء طبيعيين لها لمحاصرة الاتحاد السوفييتي.

اليوم تبدو الشعوب العربية وكأنها قررت الانتحار عبر ممارسة لعبة "حرب الكل ضد الكل": فالحرب مشتعلة الآن في العالم العربي بين الشيعة والسنة، وبين الأكراد والعرب، وبين الفرس والعرب، وبين الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، سنة كانوا أم شيعة أم عربا أم كردا! 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل