المحتوى الرئيسى

د. حسام عيسى يكتب عن «أحاديث برقاش»: عبقرية الأستاذ.. ووفاء الابن والتلميذ | المصري اليوم

11/07 21:38

بدعوة كريمة من الاقتصادى البارز د. أحمد جلال، وزير المالية الأسبق، اجتمعت مجموعة من المثقفين المصريين ضمت السيدات سامية فريد والدكتورة هانية الشلقامى وعبلة عبداللطيف وماجدة برسوم، والدكتور جلال أمين والدكتور زياد بهاء الدين وصلاح دياب ومحمد قاسم ومحمد حسونة وإدجار الطويل ومحمد على الحمامصى والدكتور عادل بشاى والدكتور ماجد عثمان والدكتور حسام عيسى.

اجتمعت هذه المجموعة لمناقشة الصحفى القدير عبدالله السناوى فيما أثاره كتابه الجديد «أحاديث برقاش- هيكل بلا حواجز» من قضايا متعددة ومتنوعة، وكان من الطبيعى في ندوة محورها شخصية بحجم هيكل وبأهمية الدور الذي لعبه في تاريخ مصر المعاصر أن تختلف الرؤى حول ما جاء في كتاب السناوى، ذلك أنه لا توجد قراءة بريئة في مجال التاريخ أو السياسة. فكل منا يقرأ ويعى من خلال اختباراته الأيديولوجية، وتوجهاته، ومدى علمه بحقيقة وقائع التاريخ.

وكان من الطبيعى أيضا أن يدور جزء كبير من الحديث حول شخص هيكل وعن عبدالناصر.

أياً كان الأمر فإن ما دار في الندوة على ثرائه ليس محل هذا المقال، وذلك لسببين: أولهما أننى لم أسجل ما دار من مناقشات، وثانيهما أننى لم أستأذن أياً من الحاضرين في نشر ما جاء على لسانه.

ومع ذلك فقد كانت مشاركتى في الندوة سبباً لإعادة قراءة كتاب السناوى، ثم كان ما دار فيها من حوار جعلنى أعيد صياغة رؤيتى للنص الذي قدمه لنا السناوى، على النحو الذي سوف أعرضه الآن، ولكن قبل ذلك فليسمح لى القارئ أن أعود إلى العنوان الذي اخترته لهذا المقال، وبالتحديد إلى تعبير وفاء الابن والتلميذ.

صورة أرشيفية بتاريخ 18 أكتوبر 2009، للصحفي الكبير محمد حسنين هيكل. - صورة أرشيفية

فوصف الابن يشير إلى عمق العلاقة الإنسانية التي ربطت السناوى بهيكل، وهى علاقة ترجع إلى بدايات هذا القرن، وتدعمت على مر السنين لا لأسباب أيديولوجية- فقد كانت الأيديولوجية آخر ما يعنى هيكل في تقييمه للمثقفين- ولكن لأن السناوى نجح في اختبار الصحافة عندما تولى رئاسة تحرير جريدة العربى اعتباراً من 8 مايو سنة 2000، ذلك أن هيكل كان في المقام الأول صحفياً محترفاً من طراز نادر، يقدر الكفاءة قبل أي شىء آخر.

وأضيف من عندى سبباً آخر وهو أن السناوى- مثله في ذلك مثل الأستاذ- صحفى عف اللسان، مترفع دائماً عن الصغائر، فلم يكن أبدا من المداحين أو الشتامين- على نحو ما نراه اليوم في أجهزة الإعلام المصرية- الذين يتقلبون من المدح إلى الذم ومن الذم إلى المدح بالقدر الذي يقتضيه الاقتراب من السلطة، أو بالقدر الذي تقتضيه صناعة الثروة، والاثنان في بلدنا مرتبطان.

أما تعبير التلميذ، فلا أقصده هنا بالمعنى المدرسى الدارج، فأنا أعنى به هنا الحوارى، أي الصاحب والناصر والمحاور، يجمعه بالأستاذ قبل أي شىء آخر، الانتماء لمشروع التحرر والبناء الوطنى المستقل الذي جسده عبدالناصر تاريخياً، هذا المشروع الذي كان- ابتداء وانتهاء- محصلة لمطالب الحركة الوطنية ونضالها البطولى على طول تاريخها.

ولنعد الآن إلى أحاديث برقاش

كتاب السناوى هو في جوهره تحية إجلال وتقدير لهيكل، أو كما يطلق عليه الفرنسيون «hommage»، واختار السناوى أن تكون تحية الإجلال والتقدير الأولى لما تمتع به هيكل من صفات إنسانية رفيعة وفى مقدمتها الكبرياء والاعتداد بالنفس، هذا الكبرياء الذي منعه طوال حياته من الرد على حملات التشهير والإهانة، ابتداء من السنوات الأولى لحكم السادات وطوال حكم مبارك، وحتى قبل رحيله بأيام، وعلى الرغم مما اتسمت به هذه الحملات من سوقية وانحطاط اللغة والجهل بالحقائق أو تعمد تجاهلها، فإن هيكل كعادته أشاح بوجهه ومضى إلى مهمته التي لم يعرف غيرها طوال السنوات الثلاثين الأخيرة، وهى البحث عن أسباب التراجع العربى والمصرى بوجه خاص، هذا التراجع الذي ينذر بما سماه هيكل الخروج من التاريخ، مردداً بأنفة وشموخ الحكمة الصينية «قل كلمتك وامش».

وقبل أيام قليلة من رحيله ظهرت سيدة لم يذكر السناوى اسمها على إحدى فضائيات القبح والمهانة تستعجل رحيل هيكل وتقول في سخرية «ألم يمت بعد» ليصل التردى والانحطاط إلى أدناهما ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتم تعيين هذه السيدة عضواً في مجلس النواب بعد تصريحها هذا بأيام، باعتبار أن هذا هو المكان الذي يليق بها أو هكذا تصورت أجهزة الدولة المعنية.

ومرة أخرى وأخيرة تبدى كبرياء الرجل واعتداده بنفسه عندما رفض استخدام أي وسيلة اصطناعية للاستمرار في الحياة، وقرر أن يترك المستشفى الذي كان قد نقل إليه ليعود إلى منزله الذي عاش فيه وبنى فيه أسطورته بالعمل الدءوب والانضباط الهائل وبعبقريته، وكان هيكل قد عرف العبقرية في مجال آخر- نقلاً عن المؤرخ الهولندى هنريك فان لون بأنها «كمال التقنيات وشىء آخر»، وكان لدى هيكل هذا الشىء الآخر.

أما تحية الإجلال والتقدير الثانية التي يقدمها السناوى فهى لهيكل الصحفى، أو الجورنالجى كما كان يحلو للأستاذ أن يوصف به.

ولا شك أن هيكل قد أحدث ثورة بكل معنى الكلمة في الصحافة المصرية، فصحافة هيكل صحافة جادة تقوم على دعامتين: الخبر والوثيقة، وفى هذا الشأن يقول هيكل «لا قيمة كبيرة لما تكتب ما لم يكن مستنداً إلى بنية معلومات مدققة وموثقة».

ويضيف هيكل «وأنت عائد من مواقع الأحداث تطرح عليك أسئلة عما رأيت، فإن لم يكن معك ورق عليه ملاحظاتك تفقد روايتك سلامة سياقها، وإن لم يكن ضمن الورق ما تقدر أن تحصل عليه من محاضر ووثائق، فسوف تفقد قدرتك على إقناع قارئك بأن ما تقوله ثابت ومؤكد».

ويتابع هيكل «إن أحداً في السلطة، أو بقربها، لن يسعى إليك ما لم يكن لديك ما تقوله، وإن يكون ما تقول قد عاينته بنفسك في موقع الأحداث».

وهكذا فإن الخبر الذي تدعمه وتؤكده الوثائق كان يختلف عن معنى الخبر في صحافة الإثارة التي ظهرت في مصر في أربعينيات القرن الماضى، والذى عبر عنه أحد أهم أقطاب الصحافة في محاضرة في كلية الآداب بجامعة القاهرة بقوله «إذا عض الكلب رجلا فهذا ليس خبرا، ولكن إذا عض الرجل كلباً فهذا هو الخبر». ولم تكن لصحافة هيكل علاقة بالكلاب، ولا بمن يعضون الكلاب فقد كانت بكل المعانى صحافة مشروع التحرر والبناء الوطنى المستقل.

ورداً على سؤال طرحه السناوى عن بداية اهتمامه بالوثائق، أجاب الأستاذ أن البداية كانت من إيران الذي ذهب إليها في مطلع خمسينيات القرن الماضى لمتابعة أحداث ثورتها الكبرى التي اشتعلت عقب مصرع رئيس وزرائها الجنرال على رازم آراه، وقيام خلفه الدكتور محمد مصدق بتأميم الشركات العاملة في إيران، وما تبع ذلك من هروب شاه إيران إلى الخارج، وعاد هيكل من إيران حاملاً معه محاضر التحقيق في اغتيال الجنرال على رازم، وهى الوثائق التي أضفت مصداقية على تحقيقات هيكل التي نشرها آنذاك تحت عنوان إيران فوق بركان، والتى أطل المصريون من خلالها على وقائع الثورة الإيرانية وتعرفوا على شخصية زعيمها الدكتور مصدق.

وأحسب أن هيكل كان أكثر الناس سعادة عندما خرج مئات الآلاف من المصريين في شوارع القاهرة لاستقبال مصدق الذي جاء بناء على دعوة من الزعيم مصطفى النحاس لزيارة مصر وإلقاء خطاب في برلمانها في مبادرة لا ينقصها النبل أو الشجاعة، حيث كان مصدق هو العدو المطلوب تصفيته من قبل أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية.

وعندما بدأ الاقتراب الحقيقى لهيكل من عبدالناصر في عام 1953 كانت هناك قضيتان تشغلان تفكير الثورة الوليدة: القضية الأولى هي مفاوضات الجلاء، والثانية هي العلاقات الدولية، خصوصاً مع الولايات المتحدة وفرنسا، وقد أفضت متابعة هيكل لمفاوضات الجلاء- على نحو ما يروى السناوى- إلى نظرة أوسع وأعمق لقضية الوثائق وأهميتها.

يقول هيكل «كان هدفك الرئيسى هو جلاء الاستعمار البريطانى عن القواعد العسكرية المتمركزة في منطقة قناة السويس».

«كنت في حاجة إلى وثائق تساعدك في مهمتك، إذ عليك أن تلم بالحقائق الأساسية وتعيها قبل أن تتكلم».

«الوثائق وحدها هي التي تمكن المفاوض من سد فجوات المعرفة حتى يكون الحوار جدياً».

«استدعت ضرورات التفاوض وثائق مفاوضات النحاس وهندرسون ونصوص مذكرات قانونية صاغها مستشارو النقراشى في مفاوضات سابقة، وهم أساطين قانون مثل عبدالحميد بدوى وحامد سلطان. وضرورات التفاوض استدعت إلى جانب ذلك أن تقرأ وتستوعب الوثائق البريطانية التي يمكن الحصول عليها، إذ إن عليك أن تكون مدركاً للطريقة التي يفكر بها مفاوضك البريطانى، والصيغ التي قد يتقدم بها للإبقاء على نفوذه في منطقة قناة السويس».

«واستدعت ضرورات التفاوض وثائق الدولة المودعة في الديوان الملكى، والملفات المودعة في السفارة المصرية في لندن والتى تضمنت نصوص جميع الاتصالات بين مصر وإنجلترا».

كل هذا يكشف بوضوح أن نجاح هيكل الصحفى لم يكن نتاجاً لاحتكاره للمعلومات التي كان يخصه بها عبدالناصر- على نحو ما ادعى أعداء هيكل من رجال السادات، في بلاهة يحسدون عليها- ولكن الحقيقة كما يكشفها السناوى أن هيكل هو الذي كان يمد عبدالناصر بالمعلومات، حيث يقدم لنا السناوى شهادة حسين فهمى نقيب الصحفيين الأسبق التي رواها لمجموعة من الصحفيين الشبان في منتصف سبعينيات القرن الماضى، يقول حسين فهمى إنه سأل صديقه القديم جمال عبدالناصر أثناء انعقاد مؤتمر بريونى، حيث ولدت حركة عدم الانحياز: لماذا تخص هيكل بالأخبار وحده؟ فرد عبدالناصر في دهشة «هذا غير صحيح.. هو الذي يمدنى بالأخبار، وينقل لى توجهات الوفود المشاركة، وما ينوى كل وفد أن يطرحه ويقترح صيغاً لتجاوز المطبات الدبلوماسية».

أيا كان الأمر فإن المهم فيما قاله عبدالناصر أنه يكشف عن حقيقة الدور الذي كان يلعبه هيكل، فعبدالناصر يؤكد أن هيكل كان يقترح الصيغ للتعامل مع ما قد يستجد من أحداث، وهو ما يعنى أن هيكل، وأيا كان حجم دوره، كان شريكا في صنع السياسات، وليس من دليل أبلغ على ذلك من تلك الفقرة التي جاء بها السناوى على لسان هيكل وما سبقتها من مقدمة صاغها السناوى، يقول السناوى «فى انشغال عبدالناصر بقضية العلاقات الدولية منذ مطلع الخمسينيات وما بعدها، أفضت تجربته إلى التفات آخر للوثائق وما تكشف عنده من خبايا الصراع على المنطقة وتوازنات القوى الحرجة على مسارحها الملتهبة».

ويقول هيكل «تتطلب حواراتك مع الرئيس أن تكون في صورة ما يجرى، وأن تكون مطلعا على تقارير الخارجية، وأى تقارير مصاحبة تكتبها جهات سيادية».

واضح هنا تماما أن مفهوم الوثيقة قد تغير بالكامل، فلم تعد الوثيقة هي أداة الصحفى لإثبات صحة الخبر، وإنما أصبحت أداة لقراءة التاريخ، وفهم العلاقات البنوية التي تحكم استراتيجيات القوى وصراعاتها في المنطقة، ووضع السياسات الملائمة لمواجهتها».

ويعنى ذلك أن الوثيقة هنا هي أداة المفكر السياسى لفهم التاريخ وصناعة المستقبل.

ومن هنا، كانت تحية الإجلال والتقدير الثالثة التي يقدمها السناوى لهيكل.. تحية الحوارى لأعظم مفكر سياسى أنجبته مصر على طول تاريخها الحديث.

نعم كان هيكل بالتأكيد صحفيا من طراز رفيع، وهو بكل المعايير أكبر مجدد في تاريخ الصحافة المصرية، وواحد من أهم صحفيى عصره على المستوى العالمى وكان هيكل أيضا مثقفا موسوعيا نادرا.

ولكن من قبل كل ذلك ومن بعده، كان هيكل مفكرا سياسيا من طراز رفيع، واستحق بالتأكيد الوصف الذي أطلقه عليه جمال حمدان عندما أهدى إلى هيكل أحد كتبه وعلى صفحته الأولى: «إلى أعظم مفكر سياسى أنجبته مصر».

إلا أن كل هذا- كما كتب كاتب هذا المقال في وداع هيكل- لم يكن ليصنع هيكل الذي نعرفه، لولا ذلك الارتباط التاريخى بين هيكل وأهم مشروع للبناء الوطنى المستقل في تاريخنا الحديث، وهو المشروع الذي جسدته الناصرية تاريخيا.

لقد آمن هيكل بالمشروع انطلاقا من إيمانه بمصر، ولأن هيكل كان يدرك جيدا أن هذا المشروع ليس اختراعا ناصريا- بل هو استجابة من عبدالناصر للأسئلة التي طرحتها الحركة الوطنية على طول تاريخها من عرابى إلى يوليو 1952.

ومن هنا، فإن مهمة هيكل الكبرى التي بدأت بعد رحيل عبدالناصر كانت الدفاع عن المشروع وليس الدفاع عن النظام، فالمشروع كان عظيم المجد والنظام كان عظيم الأخطاء، باستخدام نفس عبارات شاعر العراق العظيم «الجواهرى» في رثائه البديع لعبدالناصر، وكان هيكل يردد دائما أن استعادة النظام غير ممكنة وغير مطلوبة، ولكن الدفاع عن المشروع ضد كل محاولات التفكيك والتفريط يجب أن يكون محور حياتنا.

«لمصر لا لعبدالناصر»، ذلك كان عنوان مقال شهير للأستاذ، وكان ذلك وصفا دقيقا للمهمة التي كرس لها هيكل حياته بعد عبدالناصر.

في أحاديث برقاش يقول هيكل وهو في معرض تحديده للمراحل التي تمر بها مهمة الصحفى:

«فى المرحلة الثالثة تكون مهمة الصحفى، وأحيانا همه إلى جانب الأخبار والأعلام وإلى جانب التحليل والتعليق، أن يقوم بالتذكير والتنبيه».

ثم يستطرد هيكل «هذه المرحلة هي مرحلة استثارة الذاكرة، لعل الضمير الوطنى والقومى يظل حارسا يقظا محرضا على الوعى، أو في القليل مشددا على الحرص».

والواقع أن استثارة الذاكرة الوطنية والضمير الوطنى هي مهمة المثقف العضوى المرتبط بقضايا أمته وشعبه على النحو الذي حدده أنطونيو جرامشى المفكر العظيم والأمين العام الأسبق للحزب الشيوعى الإيطالى، وكان هيكل بالتأكيد مثقفا عضويا.

كذلك فإن الوعى الذي يشير إليه هيكل يفترض المعرفة، والمعرفة هي مهمة المفكر السياسى.. وليست مرحلة في حياة الصحفى.

والمعرفة في ميدان السياسة مثلما هو الحال في كافة مجالات العلوم الاجتماعية يقتضى الرجوع إلى التاريخ، على أن ما أعنيه بالتاريخ هنا يختلف تماما عن الحدوتة التاريخية.

إن كل ظاهرة مجتمعية هي بالضرورة ظاهرة تاريخية، ومن ثم فإن أي علم من العلوم الاجتماعية هو علم تاريخى، ولما كان محل علم التاريخ هو دراسة البنى الاجتماعية بكل مكوناتها: البنية الاقتصادية والبنية الأيديولوجية والبنية القانونية.. إلخ، فإن دراسة أي حدث مما يدخل في نطاق السياق تقتضى بالضرورة ربط هذا الحدث بالبنية الاجتماعية الكلية بكل مكوناتها.

فأنت لا تستطيع مثلا فهم حدث مثل تخفيض سعر الجنيه المصرى في مقابل الدولار بأكثر من 100% بين ليلة وضحاها وما ترتب على ذلك من سحق للطبقات الشعبية وتفسخ للطبقة المتوسطة بدون ربط هذا الحدث بالبنية الاقتصادية والاجتماعية وصعود طبقة رأسمالية جديدة من قلب أجهزة الدولة تحت مظلة تبعية الداخل للخارج بعد ما حدث طوال السنوات الأربعين السابقة من تفريط في مفاتيح القرار المستقل على كافة المستويات، وما أدى إليه ذلك من انكشاف مصر بالكامل أمام قوى الهيمنة الخارجية وممثلها صندوق النقد الدولى.

هذا التمفصل أو الربط بين أحداث الواقع والبنية الاجتماعية الكلية هو صلب المنهج التاريخى وهذا ما فعله هيكل بالضبط: العودة إلى التاريخ لفهم ما حدث لنا في الماضى ولاستكشاف آفاق المستقبل: التذكير بما حدث والتنبيه لما سوف يحدث.

يقدم السناوى هنا محاضرة ألقاها هيكل في باريس يوم الخميس 7 ديسمبر سنة 1995، وهى بكل المعايير واحدة من أهم إبداعات هيكل ليس فقط لأنها تلخص مجمل رؤيته لأصول الأزمات العربية الراهنة، وعلى رأسها الأزمة المصرية، ولكن- وهذا هو الأهم- لأن توقعاته للمستقبل وافقت الأحداث التالية على أرض الواقع بأكثر مما كان يتصور.

وبديهى أن الرجل لم يكن يقرأ الغيب، فقط كان يملك أدواته.

كان السؤال الأول، الذي طرحه في باريس، هو لماذا أجهضت كل مشروعات النهضة في مصر، وأين الثغرات التي نفذت منها الضربات القاتلة لكل أمل تحرك ذات يوم.

لخص هيكل رؤيته في أربعة مشاهد جسدت الصراع في المنطقة عند ذروته بين النهضة والإجهاض.

المشهد الأول: هو مشروع محمد على لبناء دولة عصرية في مصر، وقد ضرب وتمت تصفيته بواسطة القوى الأوروبية الكبرى، وجرى تحطيم أسطوله وتمزيق جيشه، مما اضطره إلى توقيع معاهدة لندن التي فرضت على محمد على تصفية احتكاراته الصناعية والزراعية والتجارية وفقد الدولة لكل مفاتيح السيطرة على السوق الداخلية.. وهكذا ضرب المشروع بقوة السلاح.

أما المشهد الثانى: فهو المشروع التنويرى الذي قاده الخديو إسماعيل وكان ذلك هو العصر الذي تبدت فيه بشائر التعليم وبشائر العمران والاهتمام بالفنون وبشائر إنشاء صحافة عربية، وبشائر حياة برلمانية، وقد انتهى هذا المشروع التنويرى بالغزو البريطانى سنة 1882، أي أن الضربة جاءت من الخارج وبقوة السلاح.

المشهد الثالث: هو التجربة شبه الليبرالية التي أعقبت ثورة 1919 وبصرف النظر عن الظروف والملابسات، فإن هذه التجربة بدأ ضربها بكتيبة دبابات أحاطت بقصر عابدين وأرغمت ملك مصر في يوم 4 فبراير على تكليف رئيس حزب الوفد بتشكيل الوزارة، ومع أن هذا الرئيس كان بالفعل زعيم الأغلبية المحرومة طوال الوقت من حقها في الحكم فإن أحدا لا يستطيع تجاهل أن التكليف الوزارى صدر بإملاء مدفع دبابة يقودها جنود الاحتلال.

ثم جاءت الضربة القاضية لهذه التجربة عندما أقيمت دولة إسرائيل وكانت الضربة بقوة السلاح للمرة الثالثة.

أما المشهد الرابع: فهو المشروع القومى لجمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو، وكان هذا المشروع محاولة طموحة لوضع مصر وبقية الأمة العربية على مداخل عصر جديد أعقب الحرب العالمية، واستجابة في الوقت ذاته لدواعى أمن مكشوف ومعرض أمام تهديد مستوطن ومقيم، ولكن هذه المحاولة تعرضت لضربات الخارج مع سبق الإصرار والترصد ثلاث مرات: في السويس سنة 1956، وفى دمشق سنة 1961 ومرة ثالثة وبنجاح سنة 1967، وكان الجرح غائرا.

لكن هيكل لا يتوقف فقط أمام ضربات الخارج لتفسير فشل مشروعات النهضة في مصر، إذ كان يرى أن فشل هذه المشروعات لا يمكن تفسيره إلا من خلال دراسة جدلية التفاعل بين انكشاف الداخل وعلاقات الهيمنة الخارجية.

يقول هيكل «مشروع محمد على مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين عجز عن التنبه إلى أن الدولة ليست مجرد جيش، ذلك أن الدولة تستطيع أن تقيم جيشا ولكن الجيش لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية» وعصر إسماعيل مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين غاب عنه أن الحضارة لا تجىء بالاستعارة، وأن التجديد لا يأتى بالتقليد، كما أن الرقى لا تدل عليه باقة ورد محكوم عليها بالذبول صباح اليوم التالى وإنما دورة الرقى تربة وبذرة ورى.

«والتجربة الليبرالية مشيت بقدميها إلى الحافة الخطرة حين أصبح الاستقلال الوطنى فراغا والديمقراطية تجويفا ونسى الكل أن ضمانة الاستقلال كفاءة في الإدارة والسياسة الاقتصادية. ثم جاءت الضربة لهذه التجربة عندما أقيمت دولة إسرائيل ومن ثم أصبح التهديد الخارجى خطرا مستوطنا ومقيما على الحدود. وكانت الضربة بقوة السلاح مرة ثالثة».

«ومشروع جمال عبدالناصر مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين قاده الطموح إلى تصور أن مراحل التطور يمكن اختصارها والقفز فوقها، وبسبب الرغبة في الاختصار والقفز على مراحل التطور زاد الاعتماد على سلطة الدولة في الداخل وعلى عروض القوة في الخارج، وانكشف المشروع القومى لمخاطر جعلت محاصرته وإصابته ممكنة في صحراء سيناء سنة 1967».

هذا الاستخدام الذكى للمنهج التاريخى في تحليل أسباب إخفاق مشروعات النهضة هو ذاته الذي أتاح لهيكل أن يقرأ المستقبل.

ولكن علينا أولا ألا ننسى أن محاضرة باريس كانت في عام 1995. يقول هيكل في تحليله لما حدث بعد حرب أكتوبر: «الصورة اختلفت بعد اختبار النار في حرب 1973، فقد دخلت قوى عالمية نافذة، وألقت بثقلها مصممة على تغيير الموازين لتعود إلى ما كانت عليه قبل المعركة، كما أن الإدارة السياسية لميادين الحرب آثرت تجنب المخاطر، بظن أنها تستطيع الخروج ببعض مما حققته جيوشها، وكان ذلك ممكنا، ولكن الممكن لم يتحقق لأسباب كثيرة: بينها تثبيت سلطة الأنظمة، وبينها تقديم المصالح الطبقية على المصالح القومية، وبينها أن القوة الغالبة اعتمدت أسلوب الغواية مساعدا لأسلوب التخويف».

«ومن المنطقى في مثل هذه الأحوال أن تلتقى جماعات الفرصة مع نخب الإدارة السياسية المحلية والإقليمية، ومع المطالب الدولية، وتنشأ بين الجميع رابطة للمصالح المشتركة تحسبا لهؤلاء الذين يحتمل أن يستيقظوا ذات يوم وقد تبدد الوهم وانسخط الحلم».

«وكانت النهاية أن الأمة وقفت أمام خيار متعسف مؤداه أن الذين يعترضون على الأمر الواقع بما فيه السلام غير المتوازن مع إسرائيل، ليس أمامهم إلا أن يواجهوا المستقبل المظلم تحت حكم التطرف الدينى، وإن لم يبرئوا أنفسهم بقبول كل شىء فإنهم بالاعتراض متواطئون- وإن لم يقصدوا- مع قوى الظلام».

يا إلهى.. أليس هذا هو ذات الخيار المتعسف الذي توضع الأمة المصرية أمامه اليوم... إما القبول بالانسحاق الاقتصادى والقهر السياسى الذي لم تعرف هذه الأمة مثيلا له والذى وصل إلى حد الإنكار الكامل لمفهوم الحقوق السياسية للإنسان المصرى، وعليها أن تقبل، وإلا كانت متواطئة مع الإرهاب.

مع أن المعركة مع الإرهاب لا يمكن أن تنجح إلا في ظل جبهة وطنية واسعة تقوم على المشاركة الفاعلة للقوى الحية في المجتمع المصرى بفقرائه وأغنيائه، وهى المشاركة التي لا يمكن أن تتم إلا في ظل نظام يفتح الآفاق بالحرية ويضمد الجراح والآلام بفتح السجون، ويشيع العدل بين الطبقات بتغيير سياسات الانسحاق الاقتصادى المفروضة علينا من الخارج.

ولنعد مرة أخيرة إلى أحاديث برقاش ومحاضرة باريس سنة 1995 واستشراف هيكل المذهل لمستقبل الأوضاع العربية.

في هذه المحاضرة عرج هيكل على عملية غزو العراق للكويت وأدانها بشدة، ثم كتب وكانت النتائج انفلاقا في الكيان العربى الذي كان متصدعا من قبلها، وانتحر المعنى حين كان الحل العربى ممكنا، لكنه تحول إلى مستحيل لأن القوى المسيطرة كانت لديها أولوياتها وطلباتها.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل