عيد ميلاد البابا تواضروس | المصري اليوم

هاتفتنى الزميلة «مى عبدالرحمن»، رئيسُ القسم الثقافى بجريدة فيتو، تُذكّرنى بعيد ميلاد قداسة البابا تواضروس الثانى، وتطلب منّى كلمةً للملف الذى دشّنته الجريدةُ احتفالا بعيد ميلاد قداسته وعيد رسامته أيضًا فى شهر نوفمبر. وأعلمُ يقينًا أن الرهبانَ، والبابا فى الأصل راهبٌ، لا يحتفلون بأعياد ميلادهم، بل هم لا يكادون يتذكرّون تلك المناسبات الدنيوية التى تشغل بال معظم البشر. ليس وحسب لأنهم رجالُ دين، ورجالُ الدين فى الغالب مشغولون بالدين عن الدنيا، إنما يتخطى الأمرُ ذلك بكثير، حالَ الكلام عن الرهبان، فالراهباتُ والرهبانُ، يوم رسامتهم، يُصلَّى عليهن وعليهم «صلاةُ تجنيز» (كما نُصلّى على موتانا فى الجنائز). وكأنهم قد رحلوا عن الدنيا، وماتوا!، وهو طقسٌ رمزى يشير إلى أن مَن اختار لنفسه حياةَ الرهبنة والبتولية، فإنه يُقرُّ، بكامل رضاه، أنه قد فارق دنيانا الأرضية بكافة مباهجها، وكرّس نفسَه بكاملها لخدمة الله. لا يتزوج الراهبُ، اقتداءً بالسيد المسيح الذى لم يعرف النساء. ولا تتزوج الراهبةُ، تشبّهًا بالعذراء مريم، أطهر نساء الأرض، عليها وعلى ابنها السلام. ويتخطّى الأمرُ انقطاعَ الصلة بالعالم، إلى حدِّ تنازل الرهبان والراهبات عن كل ما يمتلكونه من متاع الدنيا من بيوت وأموال وحتى الشهادات العلمية. حتى الثوب الذى يغطّى الجسد، يرتدونه دون ملكية. وهل يمتلكُ «الميتُ» شيئًا؟!. تلك هى الرمزية النقية التى تُشكّل حياة الرهبان الصعبة. طلاقٌ كامل وتامٌّ ونهائى مع الأرض، وحلولٌ كاملٌ وتامٌّ وأبدىٌّ فى السماء، فماذا يعنى، إذن، «عيدُ ميلاد» لبشر مثل هؤلاء الزاهدين؟!. بالتأكيد لا يعنى شيئًا. لكن بوسعنا نحن المصريين الاحتفال بيوم ميلاد رجل نبيل أثبت وطنيته فى المحكات الصعبة ووفاءه غير المشروط للوطن. وشاءت المصادفة أن يتزامن يومُ ميلاد البابا مع يوم انتخابه للكرسى البابوى، فكلا اليومين يوافق 4 نوفمبر. أما رسامته الرسمية فكانت يوم 18 نوفمبر 2012، ليصبح البابا رقم 118 من باباوات مصر.

والحقُّ أن هذا المقال ليس تهنئة بعيد ميلاد صيدلانىّ نال زمالة الصحة العالمية بإنجلترا، قبل أن يُلقى بدرجاته العلمية، ليغدو راهبًا، ثم بطريركًا، إنما هو تذكِرةٌ لنا ببعض ما صنعه البابا من أجل استقرار مصر، ووحدة المصريين وعدم شتاتهم.

ليس بوسع أحدٍ إنكار صنوف الأذى والويل التى تعرض لها أقباطُ مصر، منذ يناير 2011، وقبلها، والتى تضاعفت بشاعتُها بعد سقوط الإخوان. وكأن إخوان الشيطان ينتقمون من مصرَ، ليس فقط فى شخص الجيش والشرطة والمؤسسات، بل كذلك فى شخص أقباط مصر. ولكن الأقباط أبدًا لم يقابلوا الإساءة بمثلها، فهم، كما وصفهم قداسةُ البابا شنودة، رحمه الله: «لا يعرفون سوى الحب»، لهذا قابلوا حرقَ الكنائس وقتل المصلّين فى أعيادهم بمزيد من حب مصر. وكان ظهيرهم دائمًا رأس الكنيسة الذى يدعمُ تسامحَهم، ويُعزّزُ غفرانَهم للمسىء.

عوّدنا باباواتُ الكنيسة المصرية، جيلاً بعد جيل، وعهدًا بعد عهد، أن يقدّموا لنا درسَ الوطنية المدهش، والحبّ غير المشروط لمصر أرضًا وبشرًا. يشهدُ التاريخُ لأقباط مصر بمعدنهم النقىّ، الذى لا يتبدّل مهما قدّموا من أرواح شهدائهم؛ فداءً لمصر. هكذا المعادن الشريفة والأحجار الكريمة، كلما صُهرت فى النار ازداد نقاؤها وعلت درجاتُ بريقها.