المحتوى الرئيسى

لا حُب ينمو فى زمن الاستبداد والتكفير | المصري اليوم

11/05 10:06

العشقُ حكمةٌ إلهاميةٌ محمولةٌ على رتبة السُّمو والمثالية، وعبودية طائعة مُختارة، وعفوية وخضوع وتضرُّع للمرأة، وهذا موجودٌ عند العرب منذ الجاهلية، كما أنه موجودٌ فى الحضارات القديمة التى كانت المرأة فيها إلهةً مقدَّسة تُعبد، لأنَّ النفس تكون مملوكةً بوحى وسلطانٍ من الحُب الذى حُكْمُه نافذٌ، وأمرُه لا يعرف المخالفة، ويرى العاشق أن المرأة التى يحب مُطْلقة الكمال، وفريدة بين المخلوقات، وتامَّة بين بنات جنسها من النساء، وأنها فوقهن بما تمتلك من حُسنٍ وجمالٍ نادريْن، إذ يراها أحسن النساء وأفتنهن.

وهو تجربةٌ تخلُقها النفسُ باطنيًّا، وتُعْنَى بالمخفِى لا الظَّاهر من الأشياء، لأنَّ النفس طُبعتْ على الحُبِّ وجُبِلت، كما أنَّ القلوبَ بيد مَن خلقها.

والعاشقُ الحُرُّ من رُوح الإله، وهو شاعرٌ، حتى وإن لم يكتب بيتًا أو سطرًا شعريًّا واحدًا، لأن مُمارسة العشق وحدها هى المتن المفتوح اللانهائى اللامحدود للنصِّ.

والعشق ليس لهوًا أو تسليةً أو مجُونًا أو تزجية فراغٍ، أو ملء وقتٍ، وشغل رُوحٍ عابثة تتسلى، لكنه عبادةٌ لها مناسكها، وصلاةٌ لها طقوسها، ووحدانيةٌ بين اثنين لا تثنيةَ فيها، ولا تعدُّد. وهو نفاذ بصيرةٍ، وارتقاءٌ رُوحىٌّ يعلو على ما هو أرضىٌّ عابر، لأنه امتزاجٌ واتحاد بين رُوحيْن، والتقاء بين نفسيْن حيث المُمَاثلة والتوحيد.

ولا ينمُو عشقٌ فى زمنٍ يعمُّ فيه التزمُّت والتعسُّف والفتنة والاضطراب والمِحن والخطُوب والتكفير.

ألم يكُن شعرُ أهل الغزل، خُصُوصًا (قيس بن المُلوَّح- ليلى، قيس بن ذُرَيح- لبنى، جميل بن معمر- بُثينة، كُثيْر بن عبدالرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعى- عزَّة) يُنْشَدُ فى المسجد الحرام بمكَّة والمسجد النبوى فى المدينة دون خوفٍ أو حرج؟

ألم يكُن الصحابى عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب (قبل الهجرة بثلاث سنين- 68 هجرية/ 619- 687 ميلادية)، ابن عم النبى محمد، وحبر الأمة وفقيهها، وإمام التفسير وتُرجمان القرآن، يُؤثِر الإنصات إلى شعر عمر بن أبى ربيعة الغزلى على أن يستمع إلى مسائل نافع بن الأزرق (...- 65 هجرية/...- 685 ميلادية) فى الفقه والحديث وتفسير القرآن؟

العشق الحق لا تقلُّب فيه، ولا تغيُّر، ولا غدر، ولا خداع، ولا دور للوشاية والشَّائعة والدسيسة والوقيعة، ولا اهتزاز فى الثقة، التى ينبغى أن تكون متبادلة بين المحب والمحبوب.

والعشق لا يؤثِّر فيه زمانٌ، ولا يمحوه بُعدٌ، ولا يقترب منه سلوانٌ، ولا تنقطع فيه أسباب الحُب بين العاشق والمعشُوق مهما تكُن الأحوال والظرُوف، لأنَّ الحبل المتين مثلما هو مرتبطٌ بالدين، كذلك هو مرتبطٌ بالحُب (أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ، رَكائِبُهُ فالحُبُّ دينى وإيمانى. ابن عربى)، لأن المتانة قوةٌ وصلابةٌ وتماسُكٌ وثباتٌ وقُدرةٌ على البقاء، والمتين كما نعرف هو «اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الشّديد القوىّ، المُتناهى فى القوّة والقدرة، الذى لا تتناقص قوّتُه، ولا تضعف قدرتُه»، فالعشق- أساسًا- هو عودةٌ إلى الأصل، حيث يجتمع المتفرِّق، ويلتمُّ المتبعثر، ويلتقى المتشتِّت بعد طول انقسامٍ، وتتصل النفوسُ المقسُومة بعدما تجزَّأت، وفى الأدبيات الإسلامية سنجد أن الحُب ما هو إلا ضربٌ من ضروب الجهاد، ودائمًا ما أستعير مقولة الإمام، صاحب المذهب الظاهرى، الفقيه ابن حزم، عندما كتب عن الحُب: (ليسَ بمُنْكر فى الديانة ولا بمَحْظور فى الشَّريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل).

والعشق الذى ينبع من مصدر النفس لا الجسم حيث التجربة الذاتية، لا ينكرُهُ عُرفٌ ولا دينٌ، وهو ابن العفوية والمُصادفة، لا تكلُّف فيه ولا تقصُّد أو تعمُّد أو تزيُّد.

ولا ينمُو عشقٌ ويتكاثر فى بلدٍ يحكمُه اقتتالٌ واستبدادٌ وتسلُّطٌ ونفاقٌ، ويسيطر عليه حكمٌ فردىٌّ ظالمٌ قامعٌ، يسجن الحواس السليمة ابنة البداهة والفطرة، لأن الشعوب الحُرَّة الحارَّة تحمل الحُب جامحًا دافقًا كسيولٍ لا توقفها سدودُ البشر، والعشق يزدهر مع الوضوح والكشف والصراحة، حيث تختفى المواربة والمداراة، لأنه يرقِّق الطبائع، ويجعل النفوس خيِّرةً مانحة، فليس لأهل الشرِّ مكان فى كتاب الحب.

والعشق- الذى هو اتصالٌ لا انفصالٌ- حقيقة نعيشها، ونعيها، ونعانيها، ونعنِيها، لا يمكن نكرانها، إذ هى واقعٌ معيشٌ، يقع فيه المحظوظون فى الدنيا.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل