المحتوى الرئيسى

أوجاع «الروهينجا» داخل مستشفى الناجين فى بنجلاديش

10/17 23:11

كأى مصرى تعاملت مع ما أثير بشأن حرق وقتل مسلمى «ميانمار» أو «بورما» -بمسماها القديم- باهتمام شديد تشوبه العديد من التساؤلات، أسمع الأخبار من وقت لآخر، وأشاهد بعض الصور صدفة بشكل غير مقصود على مواقع التواصل الاجتماعى، لم أكن أصدق بعضها، إلى أن جاء يوم وسألت نفسى: «ماذا لو كان كل هذه الأخبار والصور التى لا أصدقها حقيقة؟».

من هنا بدأت الاهتمام بمعرفه أصل الحكاية، ومتابعة ما يتم نشره من أخبار عن هؤلاء المسلمين المتألمين، والبحث فى بعض المواقع التى تنقل أخبار بورما واللاجئين المضطهدين من مسلمى «الروهينجا»، حتى تشبعت منها كونها مكررة وليس فيها جديد.

قررت أن أحمل حقائبى وأذهب إلى هناك فى مهمة صحفية تستكشف ما يحدث رغم ما قد يمسنى من مخاطر بسبب ما يحدث هناك، ولكونى مسلمة أيضا.. عرضت الأمر على رئيس التحرير، الذى فاجأنى بموافقته، بل مساندتى بكل الإمكانيات.

ما زادنى إصرارا على السفر أن كل من يعرف برحلتى هذه لم يصدق أننى سأذهب إلى بورما، وحذرنى من أننى سأموت لا محالة، رغم أنهم لا يصدقون الكثير من الأخبار التى تنشر.. فكانت رحلتى أو إن شئت فلتقل مغامرتى إلى «بورما»، تحديدًا على حدودها مع دولة بنجلاديش.

400 مريض نصفهم أطفال فى مكان محدود.. والإقامة على الأرض

كنت أعتقد أن ما لمسته ورأيته خلال أول يومين لى على حدود بورما فى بنجلاديش، وداخل مخيمات اللاجئين، التى نشرت تفاصيلها كاملة فى الحلقة الأولى من تلك المغامرة، هى أسوأ مشاهد رأيتها فى حياتى، لكن اليوم الثالث حمل المشاهد الأسوأ، عندما توجهت إلى أحد المستشفيات الحكومية التى يعالج فيها اللاجئون.

المستشفى يحمل اسم «sadar»، ويقع فى مدينة «كوكس بازار»، حيث تستضيف من كتب الله له النجاة من القتل، ومن ابتلاع البحر، وافتراس وحوش الغابات ودهس الأفيال، خلال رحلة الموت والهرب من «بورما» إلى «بنجلاديش».

بمجرد دخول المستشفى تشم رائحة كريهة جدا تفوق ما شممته فى مخيمات اللاجئين، وهو أمر طبيعى إذا ما نظرت إلى غرفه وشاهدت العشرات من اللاجئين المكتظين، ممن يفترش أغلبيتهم الأرض، فالمستشفى ذو إمكانيات بسيطة جدا، وعرفت فيما بعد أنه بالطبع «حكومى».

توجهت بداية إلى المسئول عن ملف «الروهينجا» فى المستشفى، ويدعى الدكتور «شاهين عبدالرحمن»، الذى بدأ حديثه عن أوضاع المرضى قائلًا: «بعد بداية الأزمة الإنسانية الأخيرة فى ميانمار جاءت مجموعة كبيرة من المصابين الروهينجا إلى المستشفى، بأعداد تجاوزت المسموح به، فتم التعامل مع جميع الحالات، ونقل بعضها إلى مستشفى حكومى آخر قريب من هنا».

وشدد على أن الحكومة البنغالية تسعى إلى توفير الرعاية الطبية لكافة المصابين حسب الإمكانيات المتاحة، مضيفًا: «بحسب إحصائية عن عدد المرضى الذين يتلقون العلاج فى المستشفى، فإن عددهم يصل إلى ٤٠٠ مريض، ما بين نساء وأطفال وشباب ومسنين، وإن كان أكثر من نصفهم وتحديدًا ٢٥٠ من الأطفال».

وتابع: «إلى جانب المرضى الموجودين فى المستشفى لخطورة حالاتهم، يوجد مرضى آخرون يأتون يوميا إلى هنا، ويتراوح عددهم مابين ١٠٠ و١٥٠ تقريبا، يأخذون العلاج ويذهبون إلى ثكناتهم فى المخيمات».

وأشار إلى أنه نظرًا لزيادة الأعداد، قدم طلبًا للحكومة بإنشاء «مخيم طبى» لتغطية جميع احتياجات الحالات من فحوصات وأدوية، لافتًا إلى أنه لايزال ينتظر الرد من المسئولين للبدء فى إقامة هذا المخيم المجهز، وهو ما يجعل إدارة المستشفى تستقبل الإعانات والإمدادات من الجمعيات والمؤسسات الخيرية فى مختلف دول العالم.

ونوه بقدوم العديد من الشباب للتطوع فى المستشفى، لكن نظرًا لأنه «حكومى» ومساحته محدودة فإنه لا يتم قبول هؤلاء المتطوعين، مع استقبال الإعانات الفردية فقط.

وعن أبرز الحالات المرضية الموجودة فى المستشفى من مسلمى «الروهينجا»، قال: «يوجد مصابون بطلق نارى وطعن بسكين وحروق وغرق»، مشيرًا إلى أن بعض الفتيات اللاتى تعرضن للاغتصاب يأتين المستشفى لتلقى العلاج، ويرفضن الإقامة فى المسشتفى بسبب حرجهن البالغ»، مضيفًا: «نرسل الحالات التى تحتاج إلى جراحة دقيقة إلى مدينة (شيتاغون) التى تتوافر فيها إمكانيات أكبر».

وناشد الطبيب المسئول عن ملف مصابى «الروهينجا»، عبر «الدستور»، جميع فاعلى الخير، بالتبرع بالأدوية والأجهزة لصالح المستشفى فى منطقة «كوكس بازار»، لخدمة اللاجئين، وذلك على الحساب البنكى رقم «٠٠٦٤٣٣٠١٦٠٠٨- Nqhonal bank- Cox›s Bazar».

بطل سار على قدميه 10 أيام حاملًا أمه وسيدة: فيل دهس عائلتى أثناء الهرب

سمح لنا الطبيب بعد انتهاء الحوار معه بالصعود إلى العنابر التى يتواجد بها مرضى ومصابو «الروهينجا»، حيث يتكون المستشفى من ٥ طوابق، فى كل طابق مجموعة من العنابر، بعضها مخصص لتقديم الخدمة العلاجية لصالح الفارين من «جحيم بوذا».

دخلنا أحد عنابر مسلمى «الروهينجا»، فظهر أمامنا مدى حجم المعاناة والكارثة التى تحيط باللاجئين، ففى كل خطوة داخل العنبر حكاية مختلفة تعكس مأساة، وعلى كل سرير يرقد طفل صغير أو سيدة مسنة أو رجل أجرى عملية، إجمالًا: «الوجع يحيط بك فى كل مكان».

اقتربت من إحدى السيدات تبلغ من العمر ٤٠ عاما، لكن شكلها يوحى بأنها تخطت الستين، استمعت منها إلى حكايتها، فقالت: «قريتى تم حرقها وإبادة أهلها بالكامل.. كنا نعيش فى منازلنا دون إهانة، وكان زوجى يملك أكثر من ١٠٠ بقرة و١٠٠ جاموسة، وكان يطعم الناس ويساعد المحتاج، والآن نجلس لكى ننتظر رغيف خبز من أى شخص»، مضيفة وهى تبكى ويدها موضوعة فى جبيرة: «هل يجوز لى تمنى الموت فأنا أشعر بمذلة كبيرة؟».

بجوارها ترقد سيدة يصل عمرها إلى ٨٠ عامًا تقريبًا، وبجانبها شاب فى الثلاثينيات من عمره، الذى تحدثت إليه فقال: «سرت على قدمى لمدة ١٠ أيام حاملًا أمى على ظهرى فى سلة مثبتة على عامود من خشب الخيزران، وبجوارى زوجتى حاملة ابنى، للهروب من الجحيم، بعد أن أبادوا القرية كلها».

بجوارهم يرقد ٣ أطفال على ٣ سرائر يتشابهون فى الملامح والمأسأة، ويقول أحدهم: «عمرى ١١ عامًا، وعندما حاولت الهرب والإمساك بيد أمى ضربنى أحد الجنود على رجلى بالعصا وكسرها، فحملتنى أمى وهى لا تستطيع المشى حتى وصلنا إلى هنا منذ ١٥ يومًا».

وأضاف طفل آخر يبلغ ١٢ عامًا: «أوقفنى الجنود ومعى مجموعة أخرى من الأطفال وسحلونا واعتدوا علينا بالضرب، حتى فقدنا الوعى، وبعد إفاقتى عرفت أن الكثير من أصدقائى ماتوا وحرقوا، والآن أنا هنا بسبب إصابتى بكسور فى القدم واليد».

انتقلت إلى غرفة أخرى فوجدت فيها طفلًا لفت نظرى عيناه الحمراوين بشدة، فسألت عنه وعرفت أن عائلته جميعها دهسها فيل أثناء هروبهم من «أراكان»، ما عدا والدته التى استطاعت النجاة، وتقول عن تلك الواقعة: «أثناء هروبنا فى الغابات والجبال هاجمتنا الأفيال، فمات أحد أبنائى، وأصبت أنا بكسور خطيرة فى ظهرى لحماية ابنى الموجود فى المستشفى هنا».

تركت تلك المأساة للانتقال إلى حالة أخرى على الأرض، وبجواره سيدة تحمل طفلا، اقتربت منه فكشف لى عن جسده فظهر جرحه الذى يبدو بشعا للغاية، أما قصته فيقول عنها: «أطلقوا علينا الرصاص كالمطر وأصبت فى كتفى وفى رجلى».

منتقبة: اغتصبوا بناتى أمامى.. ومسن: كسروا عظامى

فى عنبر آخر تستلقى سيدة منتقبة ظهرت آثار التعب على صوتها عندما تحدثت إلينا راوية مأساتها البالغة، فتقول: «اقتحم البوذيون منازلنا فى منتصف الليل، وكنت أنا وبناتى لوحدنا، ففتشوا المنزل بدعوى استضافتنا أحد أفراد عائلتنا، وهو الأمر الممنوع إلا بترخيص رسمى من السلطات».

وأوضحت أن السلطات فى بورما تحظر قدوم أى شخص من خارج القرية إلى أخرى، لزيارة أسر المسلمين، إلا بتصريح رسمى، وعليه، بحسب القانون هناك، عليه أن يغادر فى نفس الليلة ولا يبيت فى المنزل.

وأضافت: «حاول أحد الجنود التحرش بى وببناتى اللاتى لا تتجاوز أعمارهن ١٢ عامًا، وعندما صرخت ضربونى بوحشية وكبلوا يدى ورمونى فى الأرض فكسرت يدى، فانتهزوا الفرصة، واغتصبوا بناتى أمامى وهن يصرخن بأعلى أصواتهن، وكنت أتوسل إليهم بالتوقف دون أى جدوى».

وتابعت: «بعد خروجهم هربت مع بناتى وهن فى حالة نفسية تدمى القلب وتحزن لها العين، وبعد وصولى دخلت المستشفى مع بناتى، وتم الكشف عليهن وعلاجهن من آثار الاعتداء، وتحسنت حالتهن الآن، لكننى مازلت أعانى من كسر يدى وإصابتى بجروح فى كتفى».

أما هذه الفتاة المصابة بمرض السرطان فلم يرحموا مرضها اللعين، وتقول: «أصبت بالسرطان منذ عام، وبعد طردنا من منازلنا جئت إلى هنا ولدى أمل فى أن يساعدنى أى شخص فى علاجى من مرض سرطان الثدى.. حالتى صعبة، نظرا لضعف الإمكانيات».

توقفت لألتقط أنفاسى وأهدأ قليلا من صعوبة تلك المآسى، ولم أجد سوى الأرض للجلوس عليها وسط المرضى، الذين بدأوا فى الالتفاف حولى ومناداتى كى يقصوا حكاياتهم على، بعد أن عرفوا أننى صحفية قادمة من بلد إسلامى.

من بعيد شاهدت سيدة حامل تتوجع بشدة، اقتربت منها لأعرف قصتها، فتحدث لى زوجها قائلًا: «اقترب موعد الولادة وهى هنا لأنها تعانى من آلام حادة فى ظهرها ومعدتها لمشقة رحلة الهروب من (أراكان) إلى هنا، فضلًا عن المعاناة من سوء التغذية».

مآس أخرى عاشها المسنون المتواجدون فى المستشفى، كثيرة وتعكس مدى البشاعة التى تعرضوا لها رغم أعمارهم التى تتجاوز الستين والسبعين. يقول أحدهم: «أصبت بطلق نارى وأنا أحاول الهروب من بطش الجنود، وذلك قبل عيد الأضحى الماضى».. سألته: «لماذا يفعلون كل ذلك؟»، فرد: «لا نعرف.. كل يوم يحرقون بيوتنا خلال الفترة ما بين العصر والمغرب، ويصرخون فى وجوهنا: هذا البلد ليس بلدكم.. ارحلوا.. مكانكم ليس هنا».

وأضاف مسن ثان: «عمرى ٧٥ عامًا، ولا أستطيع الحركة، ورغم ذلك ضربونى وكسروا رجلى.. الآن أرقد مكانى ولا أستطيع الحركة، وأتمنى الموت فى كل لحظة».

شباب يروون قصة نجاتهم فى المركب المتهالك

الشباب فى المستشفى ليسوا بشباب، فقد فقدوا شبابهم من قلة حيلتهم، خاصة أنه يوجد منهم من اغتصبت زوجته أو ضربت، بخلاف ما تعرض هو له من تعذيب وإطلاق نيران وطعن بالآلات الحادة. شاب منهم يبلغ من العمر ٢٢ عامًا تحدث عن مأساته قائلًا: «خرجنا بعد حرق بيوتنا، وأطلقوا على جميع الفارين النار، وأصبت برصاصة.. والكارثة أنها لاتزال فى ركبتى وتحتاج لعمليه جراحية دقيقة، كما أن كل عائلتى تفرقت فى الجبال، ولا أعرف عنهم أى شىء».

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل