المحتوى الرئيسى

شهادة كيسنجر وديان على انتصارنا فى أكتوبر 1973

10/13 00:04

اعتادت جماعات من مثقفينا الكارهين لتجربة الضباط فى حكم مصر منذ يوليو 1952، الاستشهاد بمصادر أجنبية لإثبات أن حرب أكتوبر 1973 انتهت هى الأخرى بهزيمة الجيش المصرى، وإن تكن أقل خزيا من هزيمة 1967، مع اعترافهم بإنجازات العسكرية المصرية فى المراحل الأولى لتلك الحرب، وببطولات الجنود والضباط فى المستويات الأدنى. 

ويعلم الجميع أن الذريعة التى تأسس عليها هذا الحكم الخاطئ على النتيجة العسكرية النهائية لحرب أكتوبر هى نجاح الاسرائيليين فى اختراق ثغرة الدفرسوار، ومحاصرتهم مدينة السويس، والجيش الثالث فى سيناء، وامتداد خطوطهم فى غرب القناة حتى ميناء الأدبية جنوبا، ثم وجود قواتهم على مقربة مائة كيلو متر من القاهرة، ويزيد بعض المروجين لهذا الادعاء أن إسرائيل كانت تستطيع تدمير الجيش الثالث المصرى، ولم يمنعها من ذلك سوى الولايات المتحدة الأمريكية، فهل كانت هذه هى الحقيقة من التحليل الشامل لجميع أبعاد الموقف العسكرى على الجبهة المصرية يوم 24 أكتوبر الذى سرى فيه وقف إطلاق النار؟!

سوف أستشهد بدورى بمصدر أجنبى مهم ومطلع، لدحض تلك الأكذوبة، هذا المصدر هو الدكتور ويليام كوانت المساعد الرئيسى لزبيجنيو بريزنيسكى مستشار الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر لشئون الأمن القومى، ومسئول الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى فى إدارة كارتر، وكان قد أصدر ــ فى النصف الأول من عام 1976 ــ كتابا بعنوان «عقد من القرارات.. السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط من عام 1967 إلى عام 1976»، يؤرخ فيه لحربى يونيو 1967، وأكتوبر 1973، ويرصد مقدمات ومجريات، ونتائج كل من الحربين عسكريا وسياسيا، وذلك قبل أن يلتحق بوظيفته فى البيت الأبيض مباشرة.

فيما يتعلق بموضوعنا يثبت كوانت فى الفصل السابع من هذا الكتاب ــ وعنوانه«دبلوماسية الخطوة خطوة واتفاقيات فض الاشتباك» – أن الاسرائيليين كانوا أكثر تلهفا على سحب قواتهم من غرب القناة، من تلهف المصريين على فك حصار الجيش الثالث، (وذلك بالطبع لهشاشة موقفهم من الناحية العسكرية، وفزعا من احتمال إقدام المصريين على استئناف القتال لتصفية الثغرة، وفك حصار السويس والجيش الثالث، مما كان يعنى مقتل عدة آلاف من الجنود والضباط الاسرائيليين، أى أكثر كثيرا مما يمكن لإسرائيل تحمله نفسيا وديمغرافيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا من الخسائر البشرية)، الكلام بين القوسين هو استنتاجنا، ولم يرد نصا عند كوانت، الذى يثبت أن هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية إبان حرب أكتوبر، هو الذى أوقف هذا التلهف الاسرائيلى، لأغراض سوف نتبينها توا. 

يقول: «فى يوم 22 نوفمبر عرض الجنرال أهارون ياريف ممثل إسرائيل فى مفاوضات الكيلو 101 على اللواء الجمسى ممثل مصر «انسحابا اسرائيليا كاملا من الضفة الغربية لقناة السويس مقابل تخفيف القوات المصرية على الضفة الشرقية». 

لنلاحظ أولا أن هذا العرض جاء بعد أسبوع واحد فقط من بدء محادثات الكيلو 101 التى كانت قد بدأت يوم 15 نوفمبر، وبعد أقل من شهر من سريان وقف إطلاق النار، ولنلاحظ ثانيا أن الاسرائيليين عرضوا الانسحاب الكامل من الضفة الغربية للقناة مقابل مجرد تخفيف القوات المصرية فى الشرق، وليس انسحابها الكامل، وهذا عرض لا يقدمه منتصر، ولنلاحظ ثالثا أن الاقتراح الاسرائيلى الافتتاحى فى جلسة 15 نوفمبر، كان الانسحاب المتبادل من الاراضى المكتسبة خلال الحرب، أى الانسحاب الاسرائيلى الكامل من الضفة الغربية، مقابل الانسحاب المصرى الكامل من الشرق، على أن تحل قوات تابعة للأمم المتحدة محل القوات المنسحبة من الجانبين، وهو ما رفضته مصر فورا، كما توقع الاسرائيليون أنفسهم.

وطبقا لرواية كوانت الموثقة من مصادرها المباشرة، فإن مصر أبدت اهتماما بالعرض الاسرائيلى «الجديد» الذى أعاد ياريف تقديمه محسنا يوم 26 نوفمبر، وكان مضمونه هو الانسحاب الاسرائيلى إلى شرق الممرات، أى ليس فقط من الضفة الغربية، إذا خفضت مصر مدرعاتها فى سيناء إلى قوة رمزية، ويعقب المؤلف قائلا: «ويبدو من خلال استقراء الماضى أن الجنرال ياريف كان بمثابة طليعة لحكومة إسرائيل فى الرغبة فى تقديم تنازلات» أما تعقيبنا نحن فهو: هل المنتصر النهائى يسارع لتقديم التنازلات ؟!

ونمضى مع رواية كوانت، لنجد أن ياريف سحب اقتراحه يو 29 نوفمبر، وعاد إلى مقترح الانسحاب من الاراضى المكتسبة بالحرب، وطبقا للرواية نفسها، معززة بشهادة ماتى جولان المراسل السياسى لصحيفة هآرتس آنذاك فإن كيسنجر هو الذى «أجهض هذه التجربة الواعدة فى المفاوضات المصرية الاسرائيلية المباشرة».

ومن أسباب كيسنجر لإجهاض هذه التجربة استبقاء الخيوط فى الأيدى الأمريكية، وحاجته لتوظيف التدخل الأمريكى لإنجاز فض الاشتباك (الذى يتلهف عليه الاسرائيليون) لرفع الحظر العربى على صادرات البترول، ومنها أن الهيمنة الأمريكية على كل خطوة فى المفاوضات العربية الاسرائيلية سوف تبقى المكانة السوفيتية متدنية.

أما ما أقنع به كيسنجر الرئيس المصرى أنور السادات تبريرا لتراجع الاسرائيليين عن عرض يوم 26 نوفمبر فى محادثات الكيلو 101 فهو أن إسرائيل سوف تشهد انتخابات عامة قريبا، ومن ثم لا تستطيع حكومة جولدا مائير البت فى موضوع فض الاشتباك إلا بعد هذه الانتخابات، ومع ذلك فقد عاد الاسرائيليون بعد أيام يلحون على كيسنجر نفسه لإتمام فض الاشتباك (لكى يسحبوا قواتهم المهددة من الثغرة.. والكلام بين القوسين لنا وليس لكوانت)، ففى يوم 7 ديسمبر التالى أى بعد ثمانية أيام فقط من سحب ياريف لاقتراح الانسحاب إلى شرق الممرات، ألح موشى ديان وزير الدفاع الاسرائيلى على وزير الخارجية الأمريكية قائلا إن فض الاشتباك لا يحتاج الانتظار حتى الانتخابات الاسرائيلية، واقترح فضا للاشتباك يقوم على انسحاب إسرائيلى حتى غرب الممرات، وليس شرقها هذه المرة، مع نزع سلاح جوهرى فى المناطق المتقدمة، مقابل تعهد مصرى بفتح قناة السويس، ولكن كيسنجر (والكلام التالى مثل الكلام السابق مباشرة كله لكوانت) حث الاسرائيليين على عدم التحرك بسرعة كبيرة فى المفاوضات، إذ يجب أن لا تبدو إسرائيل ضعيفة، كما أنه من المهم أن يرى العرب كم هو صعب على الولايات المتحدة أن تضغط على إسرائيل، وإلا فإن توقعاتهم سوف ترتفع إلى عنان السماء». 

مرة أخرى وأخيرة، ومن نصيحة كيسنجر لديان، وباستخدام مفهوم المخالفة بوصفه أداة منطقية فى التحليل، فإن اسرائيل كانت هى الطرف الضعيف عسكريا فى هذه اللحظة، وكان المطلوب أن لا تبدو كذلك، فكيف يكون الضعيف منتصرا بسبب ما هو أصلا سبب ضعفه؟!

قد يكون ذلك مفهوما كدعاية إسرائيلية تتذرع بانتصار تكتيكى لا ننكره، ولكن هذا شىء، والادعاء بأن حرب أكتوبر كانت كلها نصرا جديدا لاسرائيل، وهزيمة جديدة لمصر شىء آخر، كله خطأ فى خطأ. 

نضيف إلى ماسبق، أنه إذا كان صحيحا أن الولايات المتحدة (أو كيسنجر) هى التى منعت إسرائيل من تدمير الجيش الثالث المصرى، فقد كان ذلك مقابل منع مصر من تصفية الثغرة، مع ضرورة ملاحظة أن أوضاع الجيش الثالث فى سيناء كانت أكثر ثباتا وصلابة من ناحية التمركز، ما عدا قطع خطوط الامداد بالطبع، من أوضاع القوات الاسرائيلية فى الثغرة، التى كانت متناثرة، ومتداخلة مع مواقع مدنية مصرية، وبعضها كان ينتشر بين المزروعات التى يسهل انطلاق الكمائن المضادة منها. 

ذكرنا فى بداية هذا المقال أن السبب الرئيسى لدى بعض المصريين لإنكار انتصار أكتوبر هو كراهية حكم الضباط منذ يوليو 1952، بالإضافة إلى ما كتب كثيرا بحق عن خذلان السياسة للسلاح بعد المعركة، وكان ما عرضناه آنفا هو البداية، وبالطبع فهذا خلط معيب للرأى السياسى، بالحكم الموضوعى على الأداء العسكرى الاحترافى، بل و نضيف أن معظم الأخطاء ذات المظاهر أو النتائج العسكرية فى أداء قواتنا المسلحة هى فى أصلها وفصلها نتائج لقرارات سياسية تفرض عليها، مثلما جرى فى حرب 1967 من أولها إلى آخرها، ومثل قرار تطوير الهجوم فى حرب أكتوبر، الذى كان جميع أعضاء القيادة العامة يعارضونه، والذى لم تكشف حتى الآن بواعثه الحقيقية، بسبب وفاة طرفيه اللذين لا ثالث لهما محتفظين بالسر، وهما الرئيس السادات والمشير أحمد إسماعيل، فهل كان من بين هذه الدوافع كسر شوكة بعض القادة المكللين بانتصار لا شائبة فيه حتى اللحظة المشئومة لتطوير الهجوم، خشية طموح سياسى، ولكن التطورات السيئة فاقت التوقعات؟ الله وحده يعلم. 

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل