المحتوى الرئيسى

مشهد وداع «مثلث ماسبيرو»

10/11 19:41

الأهالى: نسكن قلب العالم.. وسنحتفظ بمفاتيح بيوتنا فى انتظار العودة

المبانى الأثرية والحمامات الشعبية والأضرحة.. خارج عملية التطوير

البعض فى انتظار «شيك التعويض».. وآخرون يجمعون ذكرياتهم فى حقائب

فى الطريق إلى منطقة «الشيخ على»، لإلقاء نظرة الوداع على الحى الذى عرف إعلامياً باسم «مثلث ماسبيرو»، كنت أعلم أننا لن نكون ضيوفاً مرحباً بوجودنا، فثمة من سوف يتصور أننا جئنا نقضى عملاً روتينياً لا خدمة فيه لهؤلاء المنكوبين فى ذكرياتهم، والأكيد أنهم سوف يمتنعون عن الحديث معى.

لكن بشاشة الوجوه كانت هى المفاجأة هناك، فالناس فى حالة رضا، يخبروننى أنهم بخير. أعلم أنهم لا يمكن أن يكونوا بخير، أنا لن أكون بخير إذا ما اقتلع أحد جذورى، حتى وإن كان تحت مسمى التطوير والمصلحة العامة، لكن الواقع أمامى الآن أنهم يقولون: «نحن بخير».

بداية من شارع 26 يوليو، وخلف مبنى ماسبيرو تحديداً، سيكون أمامنا مسجد «السلطان أبوالعلا» وهو الضريح الذى لا يمكن بحال من الأحوال الاقتراب منه لا من قريب ولا من بعيد، بعدها تأتى مدرسة أبوالفرج الابتدائية، فوزارة الخارجية، ثم متحف المركبات الملكية، ليبدأ بعدها مثلث الهدم، مساحة كبيرة تم رفع أنقاضها بالفعل وتم تحويطها بالأسوار المعدنية، ما عدا مسجد الرحمة وهو مسجد صغير، كان فى البداية زاوية للصلاة، ثم جدده الأهالى أثناء ثورة 25 يناير ولم يتم هدمه حتى الآن، رغم أن كل ما حوله قد أُزيل بالفعل، وبقى هو وحيداً فى الطريق. يقول الأهالى إن مهندس الإزالة لم يستطع إزالته، لكن خطة التطوير تؤكد أنه لا فرار من هدمه. كما أنه من حسن الحظ أن المناطق الأثرية السبع التابعة لمنطقة غرب القاهرة المتمثلة فى؛ حمام التلات، جامع سنان، جامع ميرزا، ضريح المغربى، التكية الرفاعية، تكية الست روبية، وكذلك منزل القاضى يحيى، ليست ضمن خطط التطوير؛ لأنها توجد فى الجانب الآخر من شارع 26 يوليو وهى منطقة « السبتية».

تجاوزنا السور المعدنى ودخلنا من جانبه لنجد أنفسنا فى قلب حى «الشيخ على» بدا الحى خالياً من ساكنيه تقريباً، البيوت نصف مهدمة، بشكل يدعو للعجب، كيف كان يأمن هؤلاء البشر على أنفسهم فى هذه البيوت، أنها فقط تكفيها لفحة هواء ربيعية كى تسويها بالأرض، كيف تبدو الدموع فى أعينهم وهم يغادرون هذه الحطام، إجابة كل هذه الأسئلة جاءت سريعة من جمال قاسم وهو رجل فى بدايات الخمسينات، وقف فى منتصف الشارع مع عدد من السكان يتدبرون أمرهم، وقال: «المكان وصل لهذه الحالة لأنه منذ أكثر من ستين عاماً خارج التنظيم، وليس لأى مالك الحق فى تنكيس عقاره، أو بناء طوبة فيه، هنا ليس مسموح بالبناء، فقط مسموح بالهدم، فقرارات الإزالة صادرة تقريباً منذ خمسين عاماً، لكن لم تستطع أى حكومة من الحكومات السابقة تنفيذها.

 وتابع: أنا ولدت فى هذا المكان، وأتمنى من الله أن يمد فى عمرى حتى أعود إليه بعد أربع سنوات كما وعدونا، سوف أحمل مفتاح بيتى معى مثلما فعل الفلسطينيون عندما تركوا بيوتهم فى القدس؛ ثم أعود إليه لأموت فيه. فالاستمارات التى وزعوها علينا، كان فيها ثلاثة اختيارات، الأول هو التعويض المادى وهو ثمانون ألف جنيه عن كل غرفة، أو شقق بديلة كاملة التجهيز فى حى الأسمرات، أو العودة بعد نهاية التطوير، وهو ما اخترته أنا.

 وما شروط هذه العودة؟ هكذا سألته، فقال: بداية هناك تحريات أمنية شديدة الدقة تجريها الجهات المختصة عمن يريد العودة إلى بيته، وإذا جاءت هذه التحريات فى صالحه، سوف تحسب قيمة المكان الذى يقيم فيه الآن، وكذلك تحسب قيمة الوحدة السكنية الجديدة، والتى بالتأكيد سوف تفوق سعر بيوتنا القديمة بمراحل، كما أنها لن تزيد مساحتها على «65» متراً، وسوف يعطوننا مبلغاً مالياً شهرياً فى حدود خمسائة جنيه كمقابل للإيجار الجديد فى أى مكان. بعدها يجدولون فارق السعر بين الوحدتين القديمة والجديدة علينا على أقساط شهرية، تقارب الثلاثة آلاف جنيه فى الشهر، على عدد من السنين ربما يتجاوز العشرين عاماً، بمعنى أن الوحدة التى سأبيعها الآن بحوالى مائة ألف جنيه، سوف أشتريها بعد أربعة أعوام بحوالى مليون جنيه!! فسألته: وهل الناس هنا تملك هذه القدرة الشرائية؟ فقال: بالتأكيد لا، لذلك كان هذا اختيار حوالى 600 أسرة فقط أغلبهم من ملاك العقارات هنا وليس المستأجرين، وهم تقريباً أقل من عشرة فى المائة من سكان الحى.

قبل أن نترك هذا الجمع أرشدونا إلى عم محمود إذا كنا نرغب فى سماع القصة كاملة، وأشاروا إلى رجل فى بدايات عقده التاسع، جلس على كرسى خرزانى على إحدى نواصى «الشيخ على»، يرتدى قميصاً وبنطالاً ويضع على رأسه كاباً وعلى عينيه نظارة سميكة.

«بين الحزن والفرح» تحدث عم محمود بشكل خطابى، وهكذا بدأت أنا أكتب وراءه، وأكمل: نحن نسكن قلب العالم، فأفريقيا تتوسط العالم، ومصر تتوسط أفريقيا، والقاهرة تتوسط مصر، ومنطقة «الشيخ على» تتوسط القاهرة، إذن نحن نسكن فين؟؟ فأجبته: فى قلب العالم.

قال عم محمود كلاماً كثيراً، فهمت منه أن هناك أسراً كانت تمتلك فى هذه المنطقة غرفة واحدة فى أحد أحواش المنازل، أو على أحد الأسطح، مع دورة مياه قد يشترك فيها أكثر من عشر أسر، هؤلاء ترى ماذا سيكون شعورهم إذا ما رأوا شيكاً قيمته مائة ألف جنيه، أو شقة جاهزة على التسكين، هؤلاء ليس لديهم ترف الذكريات، ربما لم يكن لديهم ذكريات من الأساس. لكن البعض الآخر وهم قليلون مرتاحو المعيشة، هم من تتحدثين عنهم أنت وزملاؤك الصحفيون.

 سألته وأنت من أى حزب يا عم محمود؟ قال لى: أنا جالس هنا فى انتظار الشيك، هذه الشقة ورثتها عن أمى، وعشت فيها أكثر من سبعين عاماً، وآتى كل يوم هنا، وأجلس فى انتظار الشيك، فأخبرته بأن اليوم هو عطلة رسمية، ولا يمكن أن يأتى الشيك اليوم، فقال: لا يهم سوف انتظر، ثم نظر بعيداً وقال لنفسه وليس لى: »لقد هدموا السيما، سيما على بابا».

تركت عم محمود بعد أن أخبرته أننى ربما أنشر كل ما كتبته وراءه، لكننى لست بحال من الأحوال أستطيع تغيير مضمون نصه، ابتسم وتخلص من جهامته التى لازمته طوال الحديث وقال لى: أكتبى ما تريدين، لكن لا تنسى أن تقولى أننا نعترف بأن الجهات الرسمية تعاملت معنا بكل احترام، وهذه شهادة حق.

فى نهاية الحديث سألت عم محمود: وماذا عن الأضرحة الموجودة فى منطقة الشيخ على، هل ستهدم هى أيضاً؟ فقال: لا يستطيع أحد هدم أى ضريح فى أى مكان لا فى «الشيخ على» ولا فى غيره، ربما تضطرهم خطط التطوير لهدم بعض المساجد أو الزوايا فى المنطقة، مثل مسجد الرحمة أو مسجد الشيخ سلمان هنا، لكن الأضرحة لا يستطيع أحد الاقتراب منها، فوزارة الخارجية عند بنائها اعترضهم ضريح «الشيخ حمادة»، وعندما حاول عامل البلدوزر الاقتراب منه لم يستطع، وترك المكان. وتكرر الأمر مع كل من حاول هدم المقام، فأبقت الدولة عليه، وهو للآن ما زال بداخل حرم وزارة الخارجية المصرية. ثم استطرد «وعلى فكرة أنا اسمى محمود حسان».

استلفتت نظرى قصة الشيخ حمادة التى أخبرنى عنها عم «محمود»، طلبت منه أن يصف لى مكانه، وأكملت سيرى في الشارع حتى وصلت لمدخل وزارة الخارجية الجانبى، استوقفنى رجل الأمن، أخبرته أننى أريد أن أرى ضريح «الشيخ حمادة» فقال إنه ليس له سلطة أن يدخل أحداً، ثم أتى بفرد أمن ثان وثالث، حتى أقنعتهم أننى لى حاجة ملحة فى هذا الشيخ، وأن نساء الحى وصفنه لى، أغلب الظن أنهم تخيلوا أننى أرجو الله أن يرزقنى ولداً بعدما رزقنى ثلاث إناث على الأقل، على كل حال لا يهم ما الذى تخيلوه، المهم أننى الآن أمام ضريح «الشيخ حمادة»، ولكن تحت الرقابة المشددة.

 الضريح على بعد حوالى ستة أمتار من الباب الخلفى للوزارة، لا تزيد مساحته على 8 أمتار مربعة، ومحاط بجهات أسمنتية لا يزيد ارتفاعها على المتر، بينما هناك بعض من الأحذية المتهالكة ملقاة على الأرض بجوار باب المقام، وفى جانب الحائط الأمامى فتحت نافذة من الخشب لا تزيد على ثلاثين سم، استطعت أن أنظر بداخلها لأرى التابوت الحديدى والذى خيل إلي أنه ربما كان لطفل.

أنا التى لا تزور الأولياء إلا لماماَ، لا أعرف ما الذى أصابنى أمام هذا الضريح، ووجدت نفسى أحدث الشيخ حمادة لأخبره أننى لم أنتو زيارته لا اليوم ولا أى يوم آخر، ولا أعرف لماذا تسهّلت لى الأمور بالوصول إليه، ولا أعرف سر هذه السكينة التى وصلت إلى صميم روحى فى هذا المكان.

تركت منطقة الشيخ على، بكل ما فيها من معقول ولا معقول، وخرجت إلى شارع 26 يوليو الرئيسى حتى أستطيع التنفس وإكمال العمل.

فى هذا الشارع تبدأ المأساة مرسومة على الوجوه، وإن كان الحديث مازال يتصف بالرضا، بداية من العقار رقم خمسة ميدان الانتخانة من شارع 26 يوليو حيث توقف الهدم، وحيث سوف يستأنف أيضاً مع بداية الأسبوع القادم، جلس الحاج صلاح عبدالحميد أمام مخبزه «آلافرنجى» كما أطلق عليه، والذى تطل واجهته على شارع 26 يوليو، المخبز عبارة عن دور واحد لا تعلوه أية مبانٍ، ومساحته حوالى مائة متر.

الحاج صلاح يبدو عليه أنه فى نهايات العقد السادس من عمره عندما أخبرته أننى من جريدة «الوفد» قال: «أنا لا أقرأ سوى جريدة الوفد، فأبى كان وفدياً وأنا أيضاً»، فقلت له: «هذا رائع».

 ثم قال: «أنا هنا منذ خمسة وخمسين عاماً، وهذا المخبز بناه الخواجه «ماسبيرو»، وهناك رخصة قديمة باسمه عمرها يقارب مائة وأربعين عاماً، ثم باعه لأكثر من وسيط، وفى النهاية قسمه الله لى، فلماذا يتدخل البشر فيما قسمه الله لى من رزق؟ هذا المخبز أكل منه كل وجهاء هذه العاصمة، فعاملو وزارة الخارجية والتليفزيون وكذلك كل جرائد وسط البلد «فطارهم كل يوم من عندنا»، ليس لدى أى اعتراض، هذا أمر الله، وكما يقولون هى المصلحة العامة، لكن هذا المخبز كان يساوى أكثر من خمسة ملايين جنيه، بينما التعويض لن يزيد بحال عن نصف مليون جنيه، وكل أمنيتى أن توفر الدولة لى ولعمالى مخبزاً آخر فى المدن الجديدة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، أو حى الأسمرات، وأنا على استعداد لجدولة الفروق المالية، أنا مش ضد مصلحة البلد، لكن الظلم حرام.

انتهى اللقاء مع الحاج «صلاح» وعدد من الأهالى الذين التفوا حولنا إلى قول رجل واحد جاء على لسان عوض محمد صاحب ورشة دوكو سيارات، « السكن مش مهم، يودونا الأسمرات واللا الأخضرات، أن شالله حتى نروح الأحمرات، المهم أكل العيش، يوفروا لنا محلات بديلة نصرف منها على بيوتنا».

تركت الحاج صلاح وأكملت السير فى الشارع الذى بدا بحق وسط البلد، بعده كانت العمارة الكائن بها محل «باتا» للأحذية، والتى لم يبد على وجه العامل فيها أى تأثر عندما سألته عن الهدم المنتظر لهذه العمارة، ليخبرنى بلا مبالاه: «معرفش حاجة، جايز العمارة هتتهد وجايز لأ، على كل حال أحنا شركة حكومية ومرتباتنا ماشية»، بينما انشغل فى قياس أحد الأحذية لإحدى السيدات، فوجدت أن لا فائدة من سؤاله حتى عن اسمه هو أصلاً مش من البلد دى!!!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل