المحتوى الرئيسى

"شيخ جاكسون".. كيف يفتح الفن جروحنا وكيف يداويها؟

09/25 15:40

قبل شهور روى أحد الأصدقاء الأعزاء في حسابه على موقع فيس بوك رحلته الشخصية التي خاضها من الشاب السلفي الملتزم الذي كان عليه وقت الدراسة الجامعية، إلى الإنسان المعتدل رب الأسرة المتفتح كما هو الآن. المدهش في رواية الصديق ـ الذي لن أذكر اسمه احتراماً للخصوصية ـ اعترافه بأن السبب الرئيسي لتغيير مسار حياته كانت أغاني محمد منير التي حركت داخله مشاعر حب وتسامح من المستحيل أن يكون مصدرها حراماً.

الحكاية السابقة الآتية من الواقع قد تبدو في مساحة هذه السطور ساذجة أقرب للسطحية، لكن واقع الأمر أن صاحبها أبعد ما يكون عن الوصف، وأن تأثير الفن على المشاعر ـ بما في العبارة من سنتمنتالية ـ كان قادراً على تحويل دفة مصير إنسان وجعله أكثر تقديراً للحياة. حسناً، أثر الفن هذا هو جوهر التميز الذي يحمله فيلم "شيخ جاكسون" للمخرج عمرو سلامة، والذي اختاره مهرجان الجونة السينمائي ليكون فيلم افتتاح دورة المهرجان الأولى.

لا أتحدث هنا عن أثر الهوس بملك البوب مايكل جاكسون والذي أحيت وفاته ما ظنه بطل الفيلم قد مات داخله من مشاعر جاهد طويلاً لقتلها بنفسه كي "يتطهر" من ماضيه البعيد عن "الالتزام" الديني، وإنما قد أتجاوز حدود الفيلم لأقول أن السينما لعبت دورها في رحلة مماثلة خاضها مخرج الفيلم الي قال صراحةً في كلمة تقديمه للفيلم أنه احتاج 35 سنة من عمره حتى يصير قادراً على صناعة فيلم كهذا.

ما قاله سلامة ليس مبالغة ترويجية، ولكنها حقيقة يصرخ بها الفيلم في وجه كل من تابع أفلام المخرج السابقة الأربعة، والتي كانت في أكثر محاولاتها للصدمة أفلاماً آمنة، تضع قدماً نحو التحرر ثم تردها سريعاً خوفاً من رد الفعل (أو المسؤولية الأخلاقية ربما). أفلام لا غبار على إتقان صاحبها لصنعة، وعلى رغبته في مقارعة المسكوت عنه، لكنها بقيت مجرد رغبة لا أكثر.

في "أسماء" تُطرح صورة مرضى الإيدز الاجتماعية بجسارة في بداية الفيلم، قبل أن يعود الفيلم للأمان سريعاً بالكشف عن إصابة البطلة للعدوى بصورة شرعية أقرب للتضحية منها للخطأ، لتدخل أسماء مجدداً حظيرة الخطاب الشعبوي الذي ـ بدون فيلم ـ سيقبلها على مضض لتفهمه دوافعها، بينما سيظل حامل المرض جراء الإدمان أو العلاقات غير الشرعية موصوماً كما هو، أي أن الفيلم مارس بشكل أو بآخر ما يفترض أن يلوم المجتمع عليه.

كذلك في "لا مؤاخذة" ومجدداً بعد بداية جريئة حول التمييز الطائفي الذي يدفع طفل لإخفاء ديانته في المدرسة خوفاً من التنكيل به، ينخرط الفيلم في مواقف نابعة من الاختلاف والتمييز الطبقي خففت كثيراً من قيمة الأزمة لأن المشاهد يشعر بأن أزمة البطل سببها كونه ثرياً قبل أن يكون مسيحياً، فلو كان مسيحياً فقيراً لاعترف بديانته دون مشكلة تذكر. أي أن الجرأة لدقائق ثم الاحتماء بأمان الطرح كانت هي سمات أفلام عمرو سلامة السابقة.

"شيخ جاكسون" هو النقيض تماماً من هذه السمات. فيلم تخلص صاحبه أخيراً من قيود الأمان ومخاوف ما سيقوله الآباء والجدات بعد الفيلم، وانخرط من اللحظة الأولى حتى الأخيرة في محاسبة الذات/ البطل عن محاولة دامت عقوداً لخنق الإنسان داخله. نعم نقول الإنسان لأن من يكون البكاء لا الخشوع هو هدفه من التعبد، ومن يجابه شكوكه بإدانة للآخرين في صورة وعظة يلصقها خلسة على حائط مترو الأنفاق، لا يمكن إلا أن يكون في معركة مع إنسانيته. ولا يوجد تعبير أفضل ـ وأخف ظلاً ـ عن هذا من الطفلة التي تدفعها فطرتها لسماع الأغاني الغربية المبهجة، بينما تنظر شذراً لوالديها وهم يحاولان إقناعها بنشيد سقيم سمج بديلاً لبيونسيه نولز!

مشاعر الطفلة التلقائية هي ذات القوة التي تحرك والدها الشيخ/ جاكسون (أحمد الفيشاوي وأحمد مالك في أفضل أدوارهما على الإطلاق)، هي أغاني منير التي أعادت صديقي لصوابه، وهي السينما التي يخوضها عمرو سلامة كما ينبغي لصانع أفلام يريد أن يكون مؤثراً: صادمة جارحة، خارجة عن حدود الأمان النفسي، تخرج أمعاء صاحبها وتفتش عن المؤلم داخله، تُصارح المشاهد وإن أذت مشاعره بسخريتها مما يعتبره ـ لسبب ما ـ غير قابل للمساس والمراجعة.

رحلة ناعمة داخل دائرة التشوه

أذكى ما في "شيخ جاكسون" هي قدرته على فعل ما سبق من مكاشفة للذات دون صراخ أو متاجرة. الفكرة قد توحي لمن يسمعها بالسذاجة (الشيخ السلفي ومايكل جاكسون كصورتين متطرفتين للمحافظة والتسيب). لكن واقع الأمر أن سلامة تمكن من الدخول بنعومة لفكرته، نعومة مرجعها مزج السخرية بالتفهم على طول الخط. فإذا اعتبرنا تشوه صورة الأب (ماجد الكدواني) كانت المحرك الأول لرحلة جاكسون نحو المشيخة، وقيود صورة الشيخ الملتزم الممتلك لاحترام الجميع إلا نفسه هي ما يجذبه لإنكار ما يتحرك داخله من مشاعر وتساؤلات، فإن الفيلم يطرح القوى المعادية للبطل بقدر راق من التفهم للدوافع.

عالم السلفيين كاريكاتوري بطبيعته لمن يعيش خارجه، طريقة ملبس وحديث واستمالات إقناعية وفكرية بل وفنية آتية من زمان ومكان آخرين، ارتضت مجموعة أن تطبقها كوداً داخلياً بينها. كود يتمكن المخرج من طرح تفاصيله التي قابل كل منا بعضها في حياته بصورة تفجر الضحكات لكن لا تتحول أبداً لاستهزاء أو إهانة، ففي النهاية الخال السلفي (محمود البزاوي) والذي يمثل صورة الأب البديل للبطل، هو شخصية بالغة الإيجابية والحميمية، صاحبة منطق ولغة غير منفرة جديرة بالحب لا الكره.

كذا الأب على انحلاله وسلطويته، يتعمد الفيلم أن يُقدمه من البداية بلمحات من الإيجابية: يرفض التخوف الهستيري من ناظرة مدرسة ابنه التي وجدت التلميذ يكتب رسالة إلى الله، ويدافع عن ابنه عندما يتعرض للضرب، يحاول أن يكون مربياً وفق قدراته العقلية المحدودة والمسئولية المخيفة التي ألقيت على عاتقه بتربية طفل يتيم. وحتى أكثر تفاصيل الفيلم ضعفاً وصعوبة على التصديق (مصير الأب وشكل الحياة التي لا نعرف كيف بلغها)، تأتي لإكمال قوس التفهم. هذا فيلم لا يضم أشراراً أو أخياراً، الشر فيه هو هذا الضعف الإنساني داخل كل منّا، والذي يدفع بعضنا يميناً والبعض يساراً وفق المؤهلات الفردية لكل شخص، وكأنها حلقة مستمرة من محاولة البحث عن نقطة ارتكاز تؤدي بصاحبها في مساره أم يخل بارتكاز آخرين، فكما فعل الأب والخال في البطل، يفعل هو الآخر في زوجته وابنته اللتين تعيشان حياة محافظة تصرخ أفعالهما في كل لحظة أن السبب الوحيد لانتهاجها هو حبهما للأب، وأن اللحظة التي سيقرر فيها التخلي عن تزمته ستكون النقطة التي تطلقان فيها شكل حياتهما وللأبد.

بهذا ينجح "شيخ جاكسون" في مهمته الرئيسية ـ ومهمة أي فيلم جاد ـ وهي أن يطرح علينا أسئلة، أسئلة جريئة لا تنتهج طريق الأمان، ولا تلقي علينا مواعظ حول ضرورة الاعتدال أو تلعب بكارت "كلنا مخطئين" الذي يدمنه أساتذة المتاجرة والتمييع. هذا فيلم يُسائل الذات قبل الغير، يتفهم ضعف نفوسنا ويلومه في آن واحد، وينتصر للفن ـ والموسيقى تحديداً ـ كأداة فعالة في اكتشاف الإنسان لمساحة الصدق داخل نفسه.

"شيخ جاكسون" هو فيلم نضج coming of age يأتي متأخراً في حياة الشخصية الرئيسية والمخرج على حد سواء، ويجعلنا نسعد أخيراً بمولد فنان ناضج تمكن بعد عدة محاولات من صناعة فيلم يشبهه ويدفعنا للوقوع في حبه وحب أنفسنا.

"شيخ جاكسون" جوهرة تورنتو الخفية لإظهار التناقض في العالم الإسلامي.. هكذا وصفته الصحافة العالمية

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل