المحتوى الرئيسى

الكاتب الكبير صبرى موسى لـ«الوفد» : الصحراء علمتنى الزهد.. واحترام الجنود

09/24 01:21

المرض وطد علاقتى بالليل.. لكنه منعنى من القهوة

لا أجد اليوم كاتب سيناريو يستطيع أن يملأ روحى

بعض الشباب يستطيع عمل رواية عظيمة لو امتلك اللغة

تبرأت من سيناريو «قاهر الظلام».. وقطعت شوطًا كبيرًا فى سيرتى الذاتية

لأول مرة أعى معنى أن يشبه الكاتب أبطاله، أن يخرج «نيكولا» من بين الأوراق، وأتحدث إليه. أن يخرج من عزلته الاختيارية لأجرى معه حوارًا صحفياً. ترددت كثيرًا عندما قررت أن أذهب إلى كاتبنا الكبير صبرى موسى خاصة وأنا أعلم بمرضه، تساءلت كثيرًا عن مدى استعداده للمقابلة، فأنا أعلم أنه يكاد يكون فى عزلة عن رؤية الآخرين، لا يحب أن يراه أحد فى مرضه، وإن كان يستقبل بعض أصدقائه المقربين إليه بين الحين والآخر.

 صبرى موسى كاتب متفرد من الزمن الجميل ورائد من رواد الرواية العربية، وتعد سيناريوهاته ملحمة إبداعية، رائد أدب الصحراء، أطلق عليه المثقفون أيوب الثقافة، لما تحمله من مرض على مدار خمسة عشر عاماً، دون شكوى أو ضجيج، اختار أن يعيش عالمه الروحانى الخاص به وحده، يتكفل بعلاجه، رغم أنه عضو فى نقابة الصحفيين والسينمائيين، ومن مؤسسى اتحاد الكتاب، وعضو الاتحاد العالمى للصحافة، والاتحاد العالمى للكتاب. وصلت أعماله للعالمية، وكتب عنه أشهر الكتاب العالميين. علمته الصحراء قيمة الوطن، فعشق مصر وضحى بكل ما يعتبره غيره حياة من أجلها، الكتاب هو صديقه الذى لا يفارقه، حالة من الرضا بما قسمه الله له تعلو وجهه.

عندما تتحدث إليه، تشعر أنك أمام نيكولا بطل روايته الفذة «فساد الأمكنة» وفى لحظات أخرى، يشبه «هومو». دخلنى الفخر والسعادة بأننى التقيته. لا أدعى أن اللقاء كان سهلاً فكان يحتاج إلى جهد الانتظار للرد على السؤال. بدأنا فى الظهيرة وانتهينا فى المساء، فكان لا بد من التوقف أحيانًا حتى يتناول دواءه، أو يلتقط أنفاسه، وفى مرات كان يطلب منى أن أعطيه وقتًا ليفكر حتى اكتمل فى النهاية الحوار.

وفى طريقى إلى منزل المبدع الكبير، ظللت طوال الطريق أراجع فى ذهنى شخصياته وأماكنه؛ «نيكولا» و«إليليا» والجبل الذى دُفنت فيه خطيئة لم تقع، و«فساد الأمكنة» التى ما زالت تطبع وتنفد كل يوم. «هومو» وكبسولته الفضائية وحقل سبانخه الأخضر، نصف متره الذى حظى بأبطال لم يحظوا بأسماء، لكننى دربت نفسى على التفاؤل بألا تخذلنى هذه الشخصيات، وتتبخر من رأسى فور لقائه.

كان الموعد فى الواحدة ظهراً، ووصلت فى الواحدة إلا عشر دقائق تقريباً، فضلت أن أنتظر هذه البضع، كى أدق الباب فى الموعد المحدد تماماً، وكنت مازلت أراجع شخصياته فى ذهنى.

دققت الباب، فُتح واستقبلتى السيدة زوجته بترحاب وألفة، ثم أستاذنتْ فى الدخول إلى الكاتب الكبير، كى تساعده فى الخروج إلى غرفة المكتب. انتهزت اللحظات أتفحص المكان الذى يعيش فيه صبرى موسى، ففى كل ركن فى البيت مكتبة، تحمل آلاف الكتب العربية والعالمية، وكذلك أشرطة الفيديو، أما الجدران فقد خلع عليها الرجل كل الذكريات التى عاشها فى حياته، فامتلأت على آخرها باللوحات، وكان أهمها برواز لأفيش فيلم البوسطجى.

ثم ظهر الكاتب الكبير وأشار لى بيديه مرحباً، وقبل أن يعتدل فى جلسته، بادرته قائلة: لقد قرأت لك «فساد الأمكنة» و«حادث النصف متر» و«السيد من حقل السبانخ» و... فأشار لى بيديه فيما يعنى أن أهدأ، وقالى لى: وما رأيك فيها؟ فبادرته ثانياً: رائعة ومبهرة و...، فأشار لى مرة أخرى بأن أهدأ ثانية. فقررت أن أدخل إلى الحوار مباشرة، فسألته: هل تحب السبانخ؟

ضحك ضحكة عالية، وقال لى هل من أجل هذا السؤال أتيتى لعمل حوار معى؟ فأخبرته أننى عندما قرأت «السيد من حقل السبانخ» راهنت نفسى أن هذا الكاتب كان طفلاً معذبًا مع السبانخ، مثل أغلب الأطفال المصريين، فابتسم وقال لى، إذن فقد خسرتِ الرهان، فأنا من عشاق السبانخ.

هذه الحيلة لم تفْ بالغرض، إذن سوف أدخل مباشرة إلى درة عقده الإبداعى، فسألته: ماذا تعلّم صبرى موسى من الصحراء؟

ابتسم كاتبنا ابتسامة خفيفة وقال لى: يا عزيزتى هذا سؤال يسأله لى الصحفيون منذ عدة عقود، ثم نظر إلى زوجته ولسان حاله يقول: ما هذه النهلة التى أتحفتنى بها؟ فتدخلت السيدة أنس فى محاولة طيبة منها لتهدئة الأجواء التى بدت فى طريقها إلى التلبد: نهلة صديقتى ومعجبة جدًا بأعمالك.

التقطتُ أنفاسى وحدثتُ نفسى: لقد حاولتُ أن أبدو مثقفة، فظهرتُ مدعية، وحاولتُ أن أظهر خفيفة الظل، فبدوت بلهاء، فليس أمامى إلا أن أعود إلى طبيعتى، وأتحدث إلى الرجل فقط كقارئة، قرأتْ وفهمتْ بعضًا من أعماله، ولم أقرأ بعضها، ولم أفهم البعض الآخر، واستشعرتُ أن صبرى موسى ليس فى حاجة إلى محررة ثقافية تأتى إليه؛ لتخبره أنها قرأت كل أعماله، فهو يعلم تمامًا أن كل أعماله ما زالت تقرأ.

وقبل أن أبدأ الحوار، نظر إليّ وقال: على الرغم من أن سؤال «ماذا علمتنى الصحراء؟» أجبت عنه كثيرًا من قبل، إلا أننى أتصور أننى اليوم أمتلك إجابة مختلفة.

بعد كل هذا العمر، أستطيع أن أقول إننى أعطيت الصحراء فى شبابى لتعطينى هى فى أخريات أيامى، فأهم ما علمتنى الصحراء كان الزهد، ما جعلنى أتقبل الحياة مريضًا لأكثر من خمسة عشر عاماً، ليس فى حياتى سوى هذا الكرسى المتحرك، وتلك المكتبة العميقة وهذه الشاشة الملونة، وهذه الزوجة الطيبة. ونظر إلى السيدة أنس، التى لمعت فى عينيها دمعة وظهرت على شفتيها ابتسامة.

> على كل حال فـ«فساد الأمكنة» ما زالت تعطى صبرى موسى حتى اليوم، فهل تعلم أنها و«السيد من حقل السبانخ» مقررتان فى إحدى كليات الآداب فى قسم النقد؛ مادة علم الجمال؟

- نعم؛ علمت عندما حاول عدد من الطلاب، الاتصال بى، وأخبرونى أن الدكتور رمضان البسطويسى قرر الراويتين عليهم، وكانوا يودون عمل حلقة نقاشية معى حول العملين.

> ذلك يعنى أنك مازلت على صلة بدوائر الشباب؛ قراءً وكتاباً؟

- بالتأكيد فقد كنت رئيس لجنة التحكيم فى جائزة «كتاب اليوم» حتى وقت قريب، وبالتالى كنت قريبًا منهم ومن إبداعاتهم.

> وما تعليقك على كتابات هذه الأجيال؟

- كثيرون منهم يمتلكون أفكارًا جديدة وجيدة، قليلون جدًا منهم من يمتلك اللغة، لديهم مشاكل كثيرة فى طريقة السرد، فبعضهم لديه أفكار رائعة، ولو استطاع معالجة اللغة لديه وطريقة السرد، يمكنه عمل رواية عظيمة.

> ومن وجهة نظرك، لماذا يواجه الشباب مشاكل فى اللغة الآن؟

- طبيعة العصر الذى يعيشه هؤلاء الشباب، فالسرعة طالت كل شىء فيهم، حتى الموهبة.

- القراءة طبعاً، أن يقرأ الكاتب أكثر مما يكتب، ويطالع الكتابة المحلية والعالمية أيضاً، ويحرص على حضور الندوات والحلقات النقاشية، وأن يعطى العمل حقه حتى يصبح صالحًا للنشر، فيمكن أن يأخذ العمل عامًا أو عامين أو أكثر، لا يهم، فهناك كتاب عالميون صنعوا مجدهم الأدبى من خلال رواية وحيدة أو روايتين، فليس مهمًا أبدًا أن تنشر رواية كل عام.

> آخر رواية قرأها الكاتب الكبير صبرى موسى كانت...؟

- آخر ما قرأته كان رواية «ميت رهينة» للدكتورة سهير المصادفة، والرواية كانت رائعة، فالمصادفة كاتبة مميزة، تمتلك مشروعًا سرديًا باحثًا عن الهوية المصرية، منذ روايتها الأولى «مس إيجيبت» ووصولاً لروايتها الأخيرة.

> لقد خاضت الروائية سهير المصادفة تجربة الصحراء، فى روايتها «رحلة الضباع» فلماذا دائمًا الصحراء ملهمة للمبدعين؟

- لأن الصحراء كلما أعطيتها سوف تعطيك، فمنْ يخوضون تجربة الكتابة عن الصحراء، يعرفون قيمة الوطن، قيمة أن يكون عندك وطن، تعيش فيه مطمئناً، لقد علمتنى الصحراء أن أقدر كل من يرتدى الزى العسكرى، هؤلاء الجنود الذين يعيشون على الحدود مضحين بالمدينة، وبكل ما تحمله من فتنة وجمال.

وهؤلاء هم من يعيش فى الصحراء ويعانى العطش، وينفد غذاؤه ويبحث عن وسيلة مواصلات تنقذه من حرقة الشمس، ويرى رجال التعدين وهم يبحثون عن كنوز مصر فى رمالها، وتنقذه عربة جيش وهو تائه فى الصحراء وتحدث صداقة بينه وبين الجنود، من يشاهد الشروق والغروب بشكل أرحب مما نشهده فى المدينة، لا يملك إلا أن يحب هذا الوطن، فانا أعشق هذا البلد وحراسه.

> هذا عن القراءة فماذا عن الكتابة؟ هل يمكن أن ننتظر شيئًا جديدًا من صبرى موسى؟

- أنا لا أكتب منذ فترة وأكتفى بالقراءة، لكننى كنت قد كتبت جزءًا كبيرًا من سيرتى الذاتية، تحت عنوان «فنجان قهوة قبل النوم» ولكن لا أعرف حتى الآن هل سوف تسمح الظروف بنشرها أم لا.

- كنت أعشق القهوة والتدخين والسهر، كانت هذه هى طقوسى أثناء الكتابة، لكن المرض وقف بينى وبينها، فأصبحت لا أشرب سوى فنجان واحد من القهوة معتدل السكر فى اليوم، أما التدخين فقد توقفت عنه تماماً، لكننى مازلت أصحو طوال الليل وأنام معظم النهار، فلم يستطع المرض أن يحول بينى وبين السهر، على العكس فقد وطد الألم العلاقة بيننا.

> هذا عن القهوة فماذا عن الخبز، هل تعلم أننا نعانى مشكلة فى القمح ونستورد خبزنا؟

- نعم، وكتبت كثيرًا فى هذا الشأن، فالوادى الجديد مساحته نصف مساحة مصر تقريبًا، ويشغل الصحراء الجنوبية التى تمتد من أسوان، وما وراء بحيرة السد العالى إلى السلوم غربًا، وحدودنا مع ليبيا مرورًا بكل ما يطل على الجنوب الغربى من محافظات وأقاليم، وكانوا يسمونه رغيف الامبراطورية، وكانت تلك المساحة مغطاة بحقول القمح، وقد كتبت مقالات عديدة عن قمح الوادى، وبدأت بعض أحلامى تحقق، بزراعة الدولة للقمح بالفرافرة ضمن مشروع المليون فدان، ولو تكررت فى أماكن أخرى من الوادى لأصبحنا من مصدرى القمح واكتفينا ذاتيًا.

> وأنت صاحب أقوى سيناريو فى تاريخ السينما المصرية، بشهادة النقاد، عن فيلم «البوسطجى» هل مازلت تتابع المشهد السينمائى حتى الآن مثلما تتابع حركة الكتابة؟

- السينما المصرية سينما عظيمة لا تقل إبداعًا عن سينما هوليوود، والفن السابع من أهم الفنون، لكننى أعتقد أنه الآن فى حاجة لمساعدة الدولة، هذا على مستوى السينما كصناعة، لكن على مستوى كتابة السيناريو، بمنتهى الصراحة، لا أجد حتى الآن كاتب سيناريو يستطيع أن يملأ روحى، فأغلبها كتابات مبتسرة، وينقصها شىء.

> فى رأيك لماذا كل الأفلام التى حملت توقيعك ككاتب سيناريو، مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم والشيماء وغيرها مثلت علامة فى تاريخ السينما المصرية؟

- أنا سعيد بكل أفلامى، لكل فيلم كتبته حكاية، والسينما عالم إبداعى رائع، والكاتب الكبير يحيى حقى هو أول من وضع بذرة جميعة الفيلم، وشاركت معه فى تأسيسها، وحرصنا أن نرى جميع التجارب السينمائية فى العالم، كما أن رحلاتى فى الصحراء وتصويرى لها بكاميرا ثمانية ميلى، جعلنى أعشق الصورة.

> هل أفسد المخرج أعمال صبرى موسى فى السينما؟

- أثناء كتابة السيناريو أكون أنا سيد العمل، وأريد تنفيذ عملى كاملاً دون تعديل، ولكن لكل مخرج رؤية، وعندما يتحول الورق إلى صورة أكون مجرد فرد فى منظومة يشترك فيها المخرج والمصور والمنتج، وكل منهم له رأى، وأحيانًا تنتصر آراؤهم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل