المحتوى الرئيسى

فساد التمويل فى مراكز الأبحاث الأمريكية

09/21 13:37

نشرت مجلة New Republic مقالا للكاتب الأمريكى «جون جودس» الذى تناول فيه نقد جوجل لمركز الأبحاث الأمريكى New America بسبب البيان الأخير الصادر من قبل الباحث «بارى لين» ــ رئيس مبادرة «الأسواق المفتوحة» بالمركز ــ والذى أشاد بالغرامات المفروضة على شركة جوجل من جانب الاتحاد الأوروبى، وهذا المثال يظهر قضية فساد التمويل فى مراكز الأبحاث الأمريكية. 

استهل الكاتب مقاله بالذكر أن مركز الأبحاث الأمريكى New America يتعرض للجدل خاصة بعد قراره الأخير فى أواخر الشهر الماضى من جانب رئيسة المركز «آن مارى سلوتر» ضد المناهض للاحتكار الباحث «بارى لين» مؤسس برنامج «الأسواق المفتوحة» بعدما نشر بيانا على موقع المركز يؤيد فيه الغرامات المفروضة على شركة جوجل بقيمة 2.7 مليار دولار وذلك لمكافحة الاحتكار، بل دعا منظمى مكافحة الاحتكار الأمريكية باتخاذ إجراءات مماثلة. يناهض «لين» هيمنة الشركات العملاقة فى مجالات الاتصالات والتكنولوجيا على السوق مما أدى إلى تزايد النقد الليبرالى، ولكن سرعان ما اختفى هذا البيان من على موقع المركز. 

باختصار، وفقا لصحيفة التايمز والمراسلات الصادرة عن New America: جوجل و«إريك شميدت»، الرئيس التنفيذى لشركة Alphabet ــ الشركة الأم لشركة جوجل ــ والتى تعتبر من الجهات المانحة الرئيسية لـNew America، ولقد شغل «شميدت» منصب رئيس إدارة لهذه المؤسسة. وكان لين وبرنامجه ينتقدان عمالقة التكنولوجيا، ونشر فى يونيو تأييدا لحكم الاتحاد الأوروبى لمكافحة الاحتكار ضد جوجل. ولقد أعرب ممثلو الشركة عن استيائهم من «سلوتر»، واتهمت لين بأنه يحاول إضعاف المؤسسة ككل. 

لقد أكد «لين» على أنه طرد من المؤسسة بسبب استسلام الرئيس التنفيذى «سلوتر» للضغط من قبل جوجل، بينما لا يوجد أى دليل على أن ممثلى جوجل طالبوا بطرده من المؤسسة أو إيقاف لبرنامج «الأسواق المفتوحة». ولكن يبدوا أن ذلك بسبب أن جوجل من أكبر الممولين لتلك المؤسسة وليست كما قالت «سلوتر» بسبب مشكلة «نقص الزمالة». النقد موجه إلى «سلوتر» بسبب أنها لم توجه تحذير إلى «لين» بشأن تصريحاته بتأييد العقوبات المفروضة على جوجل من جانب الاتحاد الأوروبى وكذلك برنامجه المناهض للاحتكار. 

يضيف الكاتب أن هذا الجدال الدائر حول مؤسسة New America يبرز مشكلة المصداقية التى تواجه الكثير من مراكز الأبحاث الأمريكية. فبدلا من أن تقوم بتعزيز الثقة العامة، أصبحت تتميز بتزايد انعدام الثقة. 

يمكننا أن نربط الأحداث التى وقعت فى تلك المؤسسة بالتحول فى مراكز الأبحاث الأمريكية على مدى القرون الماضية. برز مصطلح «مراكز الفكر» فى عهد ولاية كيندى الذى اعتمد بشكل كبير على أبحاث مؤسسة راند، بينما يرجع ظهور المؤسسات البحثية إلى عام 1916 عندما أسس المحامى «روبرت بروكينجز» معهد البحوث الحكومية والتى عرفت فيما بعد بـ«مؤسسة بروكينجز». 

يعتبر «بروكينجز» واحدا من أبرز رجال الأعمال الأثرياء الذين باتوا مقتنعين أنه من خلال تطبيق العلوم الاجتماعية يمكن وضع سياسات حكومية من شأنها أن تنهى الصراعات المتصاعدة بين الأحزاب والطبقات وأيضا تلعب دورا مهما فى تحقيق السلام. وهذه المؤسسات لعبت دورا هاما فى عهد كل من «روزفلت» و«ويلسون».

أراد بروكنجز أن يكون معهد أبحاث مستقلا ومتحررا من أى مصلحة سياسية أو مالية، وكذلك الباحثون العاملون فيه يتميزون بالموضوعية. وعندما أسس أندرو كارنيجى مؤسسة «كارنيجى» للسلام الدولى عام 1910 وضع قيود على مسألة التمويل. فهذه المؤسسات البحثية تميزت باستقلالها الفكرى، والدليل على ذلك عندما اشتكت coal company عام 1933 من رئيس مركز بروكنجز ــ الاقتصادى الكلاسيكى ــ «روبرت مولتون» من دراسة توصى بتأميمها؛ فجاء رد «مولتون» كالتالى: «نحن مهتمون فقط بمعرفة ما الذى يحقق الرفاهية العامة». 

واستمرت شهرة المراكز البحثية بالاستقلال الفكرى فى الستينيات، عندما رحب كيندى بشكل واضح بمراكز الفكر فى نقاشات السياسية، ولكن سرعان ما تحولت تلك المؤسسات بالانحياز وعدم الاستقلالية. 

هناك ثلاثة تطورات ساهمت فى تغير وتحول مراكز الأبحاث من الاستقلال والموضوعية إلى الانحياز، التطور الأول: فى بداية الاربعينيات وأوائل السبعينيات بدأ الجمهوريون المحافظون ورجال الأعمال بتأسيس مراكز بحثية ذات أهداف اقتصادية وسياسية معينة. فعلى سبيل المثال تأسيس مؤسسة The American Enterprise Institute (AEI) فى عام 1943، والتى فيما بعد أصبحت الذراع السياسية للحملة الانتخابية للمرشح الجهورى للانتخابات الرئاسية «بارى غولدووتر».

أما التطور الثانى: فى بداية السبعينيات بدأت الشركات من توسيع عمليتها فى مجال الضغط، فلقد قاموا بإنشاء أو إيجار مكاتب فى واشنطن لممارسة الضغط، كما عملت على إنفاق مبالغ هائلة كتمويل على الدراسات التى تؤيد وجهة نظرهم. ولقد ساهم ذلك فى نمو مؤسسات مثل AEI، ولكن تدفق الأموال أدى إلى ظهور عشرات من المؤسسات الأخرى، والتى ادعت الكثير منها الحياد العلنى. وشملت هذه المؤسسات ( Center for Strategic and International Studies (CSIS و Institute for International Economics والذى عرف فيمات بعد (PetersonInstitute)، فضلا عن مراكز الفكر الأقدم. وفى ظل التطورات الجديدة فى واشنطن، أصبحت المراكز الفكرية القديمة حريصة على التمويل، حتى على حساب استقلالها الفكرى. 

وأخيرا التطور الثالث: مراكز الفكر قديما كانت تتكون من عدد صغير من الباحثين وكأنهم يعملون داخل الجامعة، ولكن مع تصاعد AEI ومؤسسة Heritage حدث ذلك التطور، فأصبح هدف مراكز الفكر استقطاب أعداد كبيرة من الباحثين سواء من داخل الولايات المتحدة أو من خارجها ومن ثم ظهرت الحاجة إلى أموال ضخمة للقيام بذلك مما أدى إلى ظهور فروع كثيرة لمراكز الابحاث فى معظم دول العالم. 

نتيجة لقيام الممولين بتمويل عدد من المؤسسات البحثية طالبوا بدورهم فى التأثير على عدد من الدراسات البحثية بحكم تمويلهم إلا أن بعض المؤسسات البحثية تحاول إبعاد الممولين عن التأثير فى الدراسات والأبحاث وإبقائهم على أسس تجارية. ولكن العلاقة بين مراكز الأبحاث والممولين أدت إلى ظهور العديد من الفضائح على مدى الثلاثين سنة الماضية، حيث أكثر من 12 مؤسسة بحثية أمريكية تلقت عشرات الدولارات من الحكومات الأجنبية فى السنوات الأخيرة، كما دفعت مسئولين فى حكومة الولايات المتحدة لتلبى سياسات تعكس فى كثير من الأحيان أولويات الممولين مثل: Atlantic council.

تعتبر مؤسسة New America من أكثر الأمثلة التى تعكس تأثير الممولين على الكثير من نتائج الدراسات البحثية وكذلك على الباحثين. تأسست هذه المؤسسة عام 1999 على يد «تيد هالستيد» و«مايكل ليند» والتى كانت تهتم بالدراسات التقدمية. وفى بدايتها كانت تسعى لتتجاوز الانقسامات الحزبية السائدة، والتعبير عن استيائهم من نظام الحزبين، وكانت تعمل على تعيين باحثين وفقا لشروط محددة والتى تضمن الموضوعية والاستقلال فى العمل، كما أصدرت مجموعة من الكثب المثيرة للاهتمام.

فى ظل التنافسية بين مراكز الأبحاث الأخرى، قامت New America بتأسيس فروع فى نيويورك وكاليفورنيا، وأقامت مشروعات وبرامج ممولة مثل برنامج الأسواق المفتوحة للباحث «لين»، ولقد أثير جدال فى عام 2012 عندما أدرج مشروعا ضد الكينزية (حملة إصلاح الديون) بتمويل من المصرفى «بيتر بيترسون»، قد اتهم بالتخلى عن رؤيته الراديكالية لصالح مبادئ الحزب الجمهورى، وكما يظهر الجدل حول لين، فإن معظم البرامج والمشاريع يحدث حولها صراعات بين الممولين والباحثين. إذا كان لين، الذى أنشئ مبادرة جديد «المواطنون ضد الاحتكار»، قد حصر جهوده حول شركات النفط، فإنه من المشكوك فيه أنه كان قد واجه نفس الصراع مع «سلوتر».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل