المحتوى الرئيسى

«المسامَح المسامِح!» | المصري اليوم

09/17 10:48

استكملنا فى المقالة السابقة الحديث عن «البابا شنودة الأول» الخامس والخمسين فى بطاركة الكرسىّ المَرقسىّ، وما واجهه من أتعاب داخلية واتهامات كاذبة أدت إلى سَجنه أكثر من مرة من دون ذنب، كذلك شهد أتعابًا خارجية خاصة من والى «مِصر» على الخراج «أحمد بن مُحمد ابن المدبر» الذى ضاعف الضرائب على المِصريِّين حتى امتلأت السجون من أعداد غير القادرين على دفع ما عليهم! وازداد فقر الشعب المُدقِع وتزايدت آلامه وأتعابه.

علِم البابا «شنودة الأول» بما فعله «ابن المدبر» من فرض ضرائب على الشعب وعلى الرهبان، فملأ الحزن قلبه، وبكى بكاءً مرًّا على تلك الشدائد التى تمر بـ«مِصر» وبالكنيسة. طلب «ابن المدبر» لقاء البابا «شنودة الأول» ليجعله ضامنًا لدفع الضرائب، فلما علِم البابا ذلك ترك مكانه، وقال: «لعله، إن لم يجدنى، ينسى»! ثم غيّر هيئته وملابسه، وغادر متخفيًا فى أحد الأديرة البعيدة مع شماسه الخصوصىّ الذى كان أيضًا كاتبًا له يسجل كل شىء. إلا أن «ابن المدبر» وجد أنه لن يستطيع جمع الضرائب من دون وجود البابا البطريرك، وعندما لم يتمكن من معرفة مكان البابا، أرسل نوابه إلى جميع الكنائس وأمر بأخذ ما بها من أموال، وبإخراج جميع المقتنيات التى يمكن بيعها، ثم سلب الكهنة، وألقى القبض على بعض منهم مودعًا إياهم فى السجن، ثم أمر بإغلاق الكنائس عدا واحدة، وفرض الضرائب على الرهبان.

ويذكر لنا المؤرخ «ابن المقفع» أن البابا ظل مختفيًا قرابة ستة أشهر، ثم وصلت إلى مسامعه أخبار الضيقات التى يتعرض لها أبناؤه، فعلِم أن غضب «ابن المدبر» يتزايد فشقّ عليه أن يكون هو سببًا فى ألم رعيته، فقرر أن يسلم نفسه للوالى. بدأ «البابا شنودة الأول» فى الانتقال من مكان إلى آخر حتى وصل إلى «مِصر» («الفسطاط»)، واستقر فى منزل أحد الأقباط، حيث كتب رسالة إلى «ابن المدبر» يطلب إليه الأمان، فأجابه فى خطاب: «إن حضرت عندى قبل أن يقبض عليك جندىّ، فأنت مطلَق السراح ومسامَح، وإن قبض عليك أحد، أفعلْ بك كل ما أضمرت به لك، وأكثر منه»!! قام البابا «شنودة الأول» لتوه متجهًا إلى قصر «ابن المدبر» ليلاً فى ثيابه الفقيرة، فالتقاه صباح اليوم التالى مع كاتبه، وتحدث إليه «ابن المدبر» برفق، وأعلمه أنه لن يناله سوء بسبب حضوره إليه باختياره، ثم تركه محبوسًا!! وبعد ثلاثة أيام، طالبه بدفع مبلغ سبعة آلاف دينار، فأخذ الأساقفةُ والقُسوس يجدُّون فى جمع المبلغ من الشعب، ولكنهم لم يتمكنوا من جمع سوى أربعة آلاف قدموها إلى البابا الذى سلمها إلى الوالى فأطلق سراحه، بعد أن أخذ عليه عهدًا بدفع مثلها كل عام.

وكان بعد موت «الخليفة المنتصر» أن شبت صراعات وحُروب بين: «المعتز»، و«المؤيد»، و«المستعين»، استمرت ثلاث سنوات، وانقطعت الصلة بين «مِصر» و«بغداد»، وسادت الفوضى والاضطرابات فى «مِصر»، حتى إن القبائل التى وفدت إلى «مِصر» قامت بالاعتداء على المِصريِّين فى كل مكان، ونهبوا الأديرة ومنها: «دير أنبا شنودة بسوهاج»، و«دير الملاك غبريال بالقلمون بالفيوم»، و«دير أنبا باخوم بطما»، وقتلوا الرهبان، واعتدَوا على الراهبات ثم قتلوهن!!! وذُكر أن «البابا شنودة الأول» قد ذهب إلى «دير القديس مقاريوس»، وحزِن حزنًا شديدًا لِما رآه من تخريب يجرى فى الدير، وبينما هو هناك عاد «البربر» للإغارة على الدير، فخرج إليهم البابا البطريرك وحيدًا أعزل، وطلب منهم أن يأتوا إليه ليقتُلوه، فلما أبصروه وقورًا شجاعًا تراجعوا من أمامه وغادروا!! ثم قرر البابا بناء حصن فى الأديرة لحماية الرهبان عند وفود هجمات، وقيل إنه ساهم بنفسه فى بناء ذلك الحصن إذ كان يجمع الحجارة ويبنيها بيديه.

ظل «البابا شنودة الأول» صابرًا على الضيقات، إلى أن سمح الله له ببعض الراحة عندما انتهت الصراعات وصارت الخلافة إلى «المعتز»، فيذكر المتنيح «القَس منَسَّى يوحنا» أنه فى أيام حكم الخليفة «المعتز بالله»، أوفد البابا إلى الخليفة رجلين من كبار الأقباط هما «الأَرخُن ساويرُس» و«الأَرخُن إبراهيم»: «ليَبْسُطا (يعرضا) له ما ذاقته «مِصر» من المر والعلقم، لجَور وُلاتها وظلم حكامها، ويرجواه بأن يرحم بلادهما ويقيم فيها نصاب العدل والشفقة.. فلما مثُلا بين يدَى الخليفة، أحسن استقبالهما، وأجاب مطلبهما وأعطاهما أمرًا يقضى بأن جميع الأراضى والكنائس والأديرة وأوانى المذبح التى سُلبت منهم أيام التعدى والاعتساف ينبغى أن ترجِع إليهم ثانيةً. فجاء الرسولان إلى «البابا شنودة» بذلك القرار، فكتب منه عدة صور، أرسل إلى كل أسقف فى القطر المِصرىّ صورة منها، طالبًا منهم أن يشكروا الله على هذه المنحة العظيمة، ويقدموا الثناء الواجب للخليفة، وقد تم ذلك فى «مِصر» و«الشام»، وعُمِّرت الكنائس فى كل أرض «مِصر».

وحدث ذات يوم أن جاءه جُنود مسلمون من «خُراسان»، طالبين لقاءه، وفتشوا عنه حتى عثروا عليه فى مدينة سخا بـ«كفر الشيخ»، وأخبروه أنهم جاءوا إليه كى يردوا مالاً كان أبوهم والى «مِصر» قد أخذه منه ظلمًا، وقبْل أن يموت طلب منهم أن يردوا المال إلى البابا وأن يسألوه أن يسامحه، أصر البابا على عدم استرداد المال، لكنهم ألحوا عليه إلحاحًا شديدًا، فكتب يقول: «الذى وصلتم لأجله فى حِل (أى سامحه وغفر له)»، فعادوا إلى بلادهم فرحين.

ظل «البابا شنودة الأول» يرعى شعبه حتى مرِض وتنيح عام 880م، بعد أن قضَّى على كرسىّ البطريركية قرابة واحد وعشرين عامًا، عمل فيها على رعاية شعبه أفضل رعاية: فقد قام برسامة آباء أساقفة بدلاً من الذين انتقلوا من هذا العالم، وفى أوقات الراحة والسلام حفر فرعًا من الخليج الذى حفره «الخليفة المتوكل» حتى يتمكن من نقل المياه العذبة إلى سكان «الإسكندرية» القاطنين على أطرافها، إذ كانوا لا يشربون الماء المالح، وأنشأ أنابيب لنقل المياه إلى أهل الإسكندرية، وقد ساعد هذا الفرع فى توفير المياه لسقى الأرض فزادت خُصوبتها. وفى أثناء زيارة رعوية له لتفقُّد شعبه فى بلدة «إبريس»، حفر بئر مياه عذبة بـ«مريوط»، بعد أن شكا إليه أهلها من بُعد المياه العذبة عنهم. وقد كرم الله ذلك الأب بحدوث كثير من العجائب بصلواته، منها: أنه بعد أن كانت الأمطار منقطعة ثلاث سنوات على مدينة «مريوط» فجفت الآبار وأجدبت الأراضى، رفع «البابا شنودة الأول» صلوات كثيرة إلى الله طالبًا إلى مراحمه أن يتحنن على خليقته، فاستُجيب له إذ بدأت الأمطار رذاذًا ثم صارت كالسيل المنهمر حتى امتلأت البقاع والكُروم والآبار. وقد عانى «البابا شنودة الأول» آلام النقرس التى كانت تمنعه فى أحيان كثيرة من إتمام الصلوات وحضور الأعياد، و... وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل