المحتوى الرئيسى

مأساة العراق تتوالى فصولا: الانفصال الكردى يهدد الدولة ووحدة الشعب

09/12 21:30

لم يقدر للعراق أن يعيش «حالة طبيعية»، على امتداد تاريخه الطويل الذى يتباهى أهله بأن التاريخ الإنسانى قد بدأ به ومعه وفيه، إلا خلال فترات قصيرة، أما باقى زمانه فقد كان «كربلائيا»، تغطيه الدماء، وتتناوب عليه «العهود» عبر بحار من دماء أبنائه..

يكفى أن نستذكر عهد صدام حسين الذى امتد بين 1968 و2003، وما حفل به من حروب ومغامرات عسكرية، فضلا عن التصفيات فى الداخل التى شملت بعض أبرز قيادات حزب البعث (الحاكم، نظريا)، من دون أن ننسى الحروب ضد الخارج (الحرب على إيران التى استمرت لسبع سنوات طويلة، ثم حرب اجتياح الكويت التى انتهت بتدمير العراق، فضلا عن الحروب المتقطعة ضد أكراد العراق مسقطة مسلسل الاتفاقات التى عقدت ثم نقضت كما تشهد مذبحة حلبجة..).

ولقد انتهى عهد صدام حسين بكارثة وطنية وقومية نتجت عن الاحتلال الأمريكى للعراق الذى دمر معالم حضارته، وأسقط دولته، ونهب متاحفه ومكتباته ذات العراقة التاريخية وحل جيشه وتعامل مع شعبه كطوائف ومذاهب وأعراق، زارعا أسباب الفتنة التى سوف تدمر وحدة شعبه وأساس دولته، وتشيع الفوضى فى «أرض السواد» التى كانت الأغنى فصارت – بأهلها – الأفقر والأشد بؤسا والأعظم تخلفا..

الأخطر أن الاحتلال الأمريكى قد تعامل مع العراقيين كطوائف ومذاهب وشيع وعناصر مختلفة (عرب سنة وشيعة، كرد وصابئة وأزيديين ومسيحيين – أشوريين وكلدانا... إلخ). 

ولقد استفاقت أسباب الفتنة التى كان قد زرعها عهد صدام حسين خاصة، ومن حكم قبله عامة: سلم الاحتلال الأمريكى الشيعة مقاليد الحكم، مدغدغا شعورهم بالظلم والإبعاد عن موقع القرار، مع أنهم الأكثرية، ورعى المشروع الكردى الذى كان فى منزلة الأحلام بالاستقلال الذاتى ضمن إقليمهم، قبل أن يغريهم تعثر مشروع إعادة بناء الدولة العراقية على قاعدة وطنية برفع شعار الانفصال.. فى حين انطوى أهل السنة على مواجعهم بخسارة السلطة المطلقة، ولم يتردد العديد من كبار الضباط والموظفين فيهم من الالتحاق بالمنظمات الإرهابية («داعش» أساسا وبعض التنظيمات المحلية الطائفية..).

وهكذا، فما إن هلت تباشير الانتصار على عصابات الإرهاب المسلح بالشعار الإسلامى فى العراق، كما فى سوريا، حتى غطت الأفق بوادر أزمة خطيرة تهدد المشرق العربى بمزيد من التصدع بل التمزق فى كياناته السياسية..

فليس سرا أن هناك أزمة ثقة بين شيعة العراق، الذين أقبلوا على السلطة كالمفجوع، فأفسدوها، وبين السنة الذين كانوا بالأمس حكاما ومتحكمين دائمين فغدوا الآن فى موقع «الأقلية» التى تطالب بنصيبها فى السلطة (والثروة)..

ثم إن الأكراد الذين كانوا قد ارتضوا من قبل، الصيغة الاتحادية، يتذرعون الآن بفساد السلطة فى بغداد و«انقاص حصتهم فيها»، ليطالبوا بالاستقلال بإقليمهم وتحويله إلى «دولة» موازية للعراق (العربى).

أما شيعة العراق فمنقسمون، كالعادة.. والصراع بين قادتهم ينذر بمخاطر جدية تكاد تضيع النصر الباهر الذى حققه الجيش العراقى مع التنظيمات الحليفة (الحشد الشعبى وغيره) على عصابات الإرهاب، بعنوان تحرير الموصل، وهى ثانية المدن فى العراق بعد بغداد، ثم تحرير تلعفر، والتقدم فى اتجاه الحدود العراقية – السورية فى حين تتقدم القوات السورية (مع حلفائها) من الجهة الأخرى، مما يوحى بقرب نهاية «داعش» وخلافته التى دمرت الكثير من معالم الحضارة والمدنية فى كل من العراق وسوريا (وجهات أخرى).

العراق الآن فى دائرة الخطر، مرة أخرى..

فمن الواضح أن رئيس إقليم كردستان مسعود البرازنى يتذرع باليأس من الإصلاح وفشل التجربة الاتحادية، و«استمرار ظلم الأكراد»، للتوجه إلى إعلان استقلال «إقليمه» كدولة ذات سيادة فى الخامس والعشرين من سبتمبر الجارى.

أما السلطة المركزية فتعتبر هذا التصرف خروجا على الوحدة الوطنية وعلى الاتفاقات التى أعطت للإقليم الكردى نوعا من الاستقلال الذاتى.

كذلك فهى ترى فى هذا التصرف ليًّا لذراع السلطة المركزية التى تعانى كثيرا من الأزمات السياسية والأمنية الناجمة بمعظمها عن المواجهة الطويلة والمكلفة لعصابات «داعش» التى كانت قد تمكنت فى السنوات الثلاث الماضية من احتلال أكثر من نصف مساحة العراق.. وإن الانتصار كان مكلفا، وقد شغل بغداد والحكومة المركزية عن كل ما عداه.

ولا تنسى السلطة فى بغداد أن تشير بأصابع الاتهام بالتقصير بل وبالتواطؤ إلى الحكومات العراقية السابقة بعنوان المالكى، كما إنها تستريب بالدور الأمريكى (رغم الموقف الرسمى الذى لم يظهر حماسة للانفصال).. كذلك فهى تعترف أن ثمة تشجيعا تركيا، برغم أن تركيا ستكون أعظم المتضررين، لأن أكرادها سيتحركون مطالبين بحكم ذاتى أو «إقليم» أو «كيان ما»، وكذلك أكراد إيران.

هى مأساة «الشعب» الموزع، تاريخيا، على أربع دول هى: العراق، تركيا، إيران وسوريا.

فالمسألة الكردية ليست طارئة، بل هى قديمة جدا، وقد مرت بأطوار مختلفة، فيها حروب متقطعة وهدنات، وفيها هجمات بالأسلحة الكيماوية أيام صدام حسين، وفيها اتفاقات وتسويات أبرزها تلك التى عقدت بين «العهد الجديد» ومسعود برازانى.

وأذكر للمناسبة، أننى التقيت مصطفى البرازانى (أبومسعود) فى «جلالا» بالمنطقة الكردية فى شمالى العراق، فى منتصف يوليو عام 1970، وفى ظل إعلان صدام حسين (السيد النائب والحاكم الفعلى للعراق فى ذلك الوقت) عن مشروع الاتحاد الفيدرالى بين بغداد والإقليم الكردى.

وكان البرازانى الأب سعيدا بهذا الإعلان..

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل