المحتوى الرئيسى

«أحمد ماهر والحسين الجامعى».. حكاية رحلة «الراقص مع الكلاب» بحثاً عن مستشفى يسعفه

09/12 10:50

طفل صغير يصرخ من شدة الألم، يتكئ بإحدى يديه على امرأة أربعينية، يحاولان معاً أن يشقا صفوف المرضى وذويهم الذين ملأوا كل ركن من أركان مستشفى أحمد ماهر التعليمى بحثاً عن الشفاء، السيدة تمسك بيد الطفل وتجلسه على أحد المقاعد فى قسم الاستقبال ثم تتركه وتمضى فى طريقها خارج المستشفى، بينما يظل الطفل يصرخ مستنجداً لعل صوته يصل إلى أحد الأطباء فينهى ما يشعر به من ألم.

الطفل هو «عبدالرحمن» الذى انتشرت قصته قبل شهور فى وسائل الإعلام تحت عنوان «الراقص مع الكلاب»، ليجسد مأساة طفل سكن الشارع بعد أن توفيت والدته وطرده والده بعد أن تزوج بأخرى، يعود هذه المرة ضحية ولكن لسائق تاكسى صدمه بسيارته وتركه ومضى، حادث سير وقع فى منطقة عابدين أمام مرأى ومسمع من بعض المارة هناك، لترأف بحال الصبى سيدة فتصحبه إلى مستشفى أحمد ماهر لإسعافه، وتقرر أن ينتهى دورها بمجرد أن تجلسه على أحد المقاعد فى المستشفى.

«الوطن» التقت «عبدالرحمن» مصادفة أثناء جولتها داخل المستشفى لرصد الأوضاع بها، وصاحبنا الطفل ذا الثلاثة عشر عاماً خلال رحلة طويلة -رصدناها بالصوت والصورة- دامت ما يقرب من 6 ساعات فى محاولة لإسعافه وحجزه فى كل من مستشفى أحمد ماهر التعليمى والحسين الجامعى. بكاء «عبدالرحمن» وهو يجلس على المقعد لفت انتباه «حسام حسن»، شاب جاء يزور صديقاً له محجوزاً لتلقى العلاج فى المستشفى، توجه إليه فسأله عن سبب بكائه فأجابه الطفل بأنه يشعر بألم شديد فى قدمه اليمنى بعد أن صدمته سيارة وفر سائقها هارباً، سأله «حسام»: «فيه حد معاك من أهلك؟»، فأجابه «لا محدش يعرف حاجة عنى»، توجه الشاب إلى غرفة الطبيب وأبلغ بحالة «عبدالرحمن» فطلبوا منه الذهاب لحجز تذكرة حتى يتمكنوا من الكشف على الطفل، فأبلغهم أنه لا يوجد أحد من أسرة الطفل معه، فجاءه الرد «يبقى مش هينفع نكشف عليه لأن لازم حد يحجز تذكرة ببطاقته».

الطفل صدمته سيارة وشاب يتبرع ويحمله بين يديه لعدم توافر كراسى متحركة خلال رحلة البحث عن «سرير»

لم يفكر «حسام» كثيراً وهرع إلى شباك التذاكر وأخرج بطاقته الشخصية لينهى الإجراءات المطلوبة، انتظار دام لما يقرب من 10 دقائق أمام غرفة الكشف، لم يجد «حسام» أمامه إلا أن ينحنى ليرفع قدم الطفل المصابة بيديه بشكل مستقيم فى محاولة لتخفيف آلامه، إلى أن جاء دوره فى الكشف فحمله بين يديه ووضعه فوق سرير بإحدى غرف الاستقبال.

طبيب شاب جاء إلى «عبدالرحمن» وطرح عليه بعض الأسئلة عن مكان إصابته ونوع الألم الذى يشعر به وما إذا كان يعانى من آلام فى أماكن أخرى بجسده، وبعد أن أجاب الطفل عن كل أسئلة الطبيب، طلب الأخير من الشاب أن يحمل الطفل بين يديه مرة أخرى ويذهب به إلى غرفة الأشعة ليجرى له أشعة على قدمه، نظر إليه الشاب متسائلاً «هو مفيش حد هنا يشيله ولا حتى كرسى متحرك؟»، سؤال لم يلفت انتباه الطبيب الذى عاد ليجلس على مكتبه مرة أخرى، «حسام» روى أن والدته توفيت فى المستشفى ذاته منذ ما يقرب من 8 سنوات، رحلة مؤلمة خاضتها السيدة الخمسينية مع آلام الكبد، ولمدة شهرين كاملين ظلت محجوزة لتلقى العلاج فى المستشفى، إلا أنها توفيت بانفجار فى الكبد، يقول «حسام»: «المستشفى هى هى، ما اتغيرتش، ولو فيه تغيير فهو طفيف جداً، محدش حاسس بيه، ومفيش اهتمام بحد، ولو الولد ده أنا ما دخلتوش ببطاقتى محدش كان هيعبره أصلاً».

انتهى «عبدالرحمن» من عمل الأشعة ثم عاد محمولاً بين ذراعى «حسام» مرة أخرى إلى غرفة الكشف، لكن الطبيب قرر أنه يحتاج إلى أشعة أخرى، فأعاد الشاب حمله مرة أخرى ذهاباً وإياباً من غرفة الأشعة، وأخيراً تم تشخيص الحالة على أنها «كسر فى القدم يحتاج لإجراء عملية وتركيب مسمار»، قالها الطبيب وهو ينظر إلى ورقة يكتب فيها طلبات علينا إحضارها من الصيدلية لإجراء «جبيرة» للطفل»، ثم أعطاها إلى الشاب، وقال له «الحاجات دى هتجيبها من الصيدلية اللى بره»، صرخات «عبدالرحمن» التى لم تنقطع لم توقف تلك الأحاديث الجانبية بين طاقم التمريض الذين كانوا يتبادلون الشكوى فيما بينهم بعد أن نال منهم التعب، على حد تعبيرهم، بسبب كثرة المترددين على المستشفى، فقاطعناهم بسؤال «هى المستشفى كلها مفيهاش رباط ضغط عشان نعمله جبيرة»، فأجابت الممرضة بأريحية «هو رباط بس اللى بتجيبوه وإحنا بنكمل الباقى»، إلا أنها لم تكد تكمل حديثها حتى فوجئنا بأحد الممرضين يسأل مريضة تقوم بعمل «جبس» فى يديها: انتى معاكى العليقة؟ بدأ أحد الممرضين فى عمل «الجبيرة» لـ«عبدالرحمن»، ثم جاء الطبيب ليعلنها صراحة «للأسف معندناش مكان فى المستشفى عشان نحجزه ونعمل العملية، هتضطروا تاخدوه وتروحوا تشوفوا أى مستشفى تانية تبع التأمين الصحى، عشان يعملوا له العملية»، وتابع «احنا العمليات كلها عندنا محجوزة، والمشكلة إننا داخلين على إجازة العيد ومستحيل نلاقيله دور فى العمليات دلوقتى».

طبيب فى «أحمد ماهر»: «مش هينفع نحجزه عشان أجازات العيد».. وفى «الحسين الجامعى»: «قعدوه بره لحد ما نشوف أماكن»

«عبدالرحمن» أصيب يوم الأربعاء الموافق 23 أغسطس الماضى، أى قبل إجازة العيد بما يقرب من 9 أيام، إلا أن الطبيب أصر على موقفه «مفيش مكان عشان العمليات هيكونوا إجازة، وعاد ليؤكد «منقدرش نقولكم روحوا بيه على فين.. عشان مفيش تنسيق بين المستشفيات خصوصاً فى إصابات العظام».

انتهت فترة بقاء «عبدالرحمن» داخل مستشفى أحمد ماهر، ولكن لم تنته آلامه بعد، فالطفل ظل يبكى بشكل متواصل من شدة الألم، البعض نصحنا بالتوجه إلى مستشفى الحسين الجامعى لقربه المكانى من مستشفى أحمد ماهر، وبالفعل خرج «عبدالرحمن» محمولاً بين ذراعى حسام فى طريقنا إلى «الحسين الجامعى».

ممر طويل يفترشه بعض المرضى وذويهم داخل قسم الاستقبال بالمستشفى، إحدى السيدات كانت تفترش الطريق بينما يتكئ ابنها ذو العشر سنوات برأسه على يديها فى انتظار إذن بالحجز داخل المستشفى، بعد أن أكدت الأشعات التى أجريت عليه ضرورة إجرائه لعملية جراحية فى يديه جراء حادث مرورى تعرض له، لم تكن هذه حالة تلك الأم وحدها، فكثير من المرضى وذويهم كانوا يفترشون نفس الممر فى انتظار فحوصات أو أشعات، وآخرون كانوا فى انتظار رأى الاستشارى أو كما يسمونه «الدكتور الكبير» الذى سيبت فى حالتهم الصحية وفى طريقة العلاج.

طفلة صغيرة كانت تبكى محاولة إقناع والدتها بحاجتها لدخول دورة المياه الموجودة فى ذاك الممر، فما كان من الأم إلا أن أخذتها لترى بنفسها سوء نظافة الحمامات، فاقتنعت الطفلة بعد أن وضعت يديها على فمها فى محاولة لمنع وصول تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من دورات المياه والتى تسللت إلى أنفها الصغير قبل أن تطأ قدماها «عتبة» دورة المياه تلك. وفى ذلك الممر كان على «حسام» أن يظل حاملاً «عبدالرحمن» بين يديه أيضاً، فبالرغم من أن اثنين من أفراد الأمن سألانا عن الحالة لنستطيع المرور إلى داخل المستشفى وأبلغناهما بأنه حادث مرورى، إلا أن هذا لم يجعلنا نحظى بكرسى متحرك لنقل الطفل الصغير إلى داخل المستشفى.

طبيب شاب آخر استقبل «عبدالرحمن» فى غرفة الكشف، سألنا عن الحالة فروينا له ما حدث، فطلب من الممرض أن يقوم بفك الجبيرة ليتمكن من عمل أشعة أخرى على قدم الطفل، خاصة أن مستشفى أحمد ماهر لم يسلمنا أى أشعة، وإنما ورقة كتب فيها تشخيصهم للحالة فقط، الرحلة ذاتها كانت من نصيب «حسام» فى حمل الطفل ذهاباً وإياباً إلى ومن غرفة الأشعة، وكان عليه قبلها أن يسجل بيانات الطفل ودرجة قرابته به، وحين تأكد من أن المستشفى لن يقبله حتى يأتى أحد من أسرته، لم يجد أمامه مفراً إلا أن يبلغهم بأنه شقيقه حتى يمضوا فى إجراءات استقبال وعلاج «عبدالرحمن».

عميد «طب الأزهر»: سأراجع كل السلبيات.. وسنعمل على تخصيص أماكن لانتظار المرضى

وبعد أن خرجت نتائج الأشعة، كان على الطبيب الشاب أن ينتظر رأى الاستشارى بعد أن أرسل له تفاصيل الحالة على «الواتس أب»، وبعد أن قام الممرض بعمل «جبيرة» ثانية لـ«عبدالرحمن» لحين البت فى حالته، انتظرنا لما يقرب من ساعة كاملة بالخارج لحين وصول رأى الاستشارى الذى أبلغنا الطبيب أنه مشغول بإجراء إحدى العمليات الجراحية، ولم نجد أمامنا إلا «دكة خشبية» موضوعة أمام باب المستشفى فأجلسنا عليها «الطفل» الذى استسلم للألم وغط فى نوم عميق غير مكترث بحرارة الشمس الحارقة ولا لبعض الحشرات التى كانت تجول حوله.

فى إحدى غرف الاستقبال الأخرى كانت هناك شابة تحصل على جلسة «أوكسجين»، ترقد على سرير، بينما يمسكها من الناحيتين قريبتان لها ليتمكنا من التهوية عليها بورقة أو منديل، وسألت إحداهما الممرضة: «هو مفيش هنا مروحة حتى لأنها بتعرق من كتر الحر، وهى أصلاً مش عارفة تتنفس؟ نظرت إليها الممرضة مبتسمة: «بتعرق من الحر لا ألف سلامة عليها»، ومضت تستكمل حديثها مع ممرضة أخرى. أخيراً جاء قرار الاستشارى بضرورة إجراء عملية جراحية لـ«عبدالرحمن»، ولكن عاد السؤال مرة أخرى حول إمكانية وجود سرير لاستقبال الطفل من عدمه، الطبيب الشاب قال لنا «مفيش مكان عندنا بس ممكن تستنوا لو فيه حالة هتخرج هندخله مكانه»، ساعتان أخريان كان علينا انتظارهما وفى النهاية قررنا الذهاب إلى مدير المستشفى لنشكو له وجود طفل مصاب جراء حادث مرورى وانتظاره لما يقرب من 3 ساعات على «دكة خشبية» أمام باب المستشفى، فأمر بالسماح له بالدخول لحين خروج إحدى الحالات.

أخيراً حصل «عبدالرحمن» على سرير بقسم العظام بالطابق الثالث فى المستشفى، وطلب المستشفى من الشاب «حسام» التبرع بالدم، فوافق على الفور، وبعد أن تبرع بالدم حصل على علبة عصير من الممرضة أحضرتها من ثلاجة داخل بنك الدم، إلا أنه رفضها بعد أن تأكد من انتهاء صلاحيتها، وشرب أخرى كان قد اشتراها لنفسه من خارج المستشفى.

أجريت لـ«عبدالرحمن» العملية الجراحية فى اليوم التالى لوصوله إلى المستشفى، وخرج بعدها بثلاثة أيام بصحبة عمه وجده، بعد أن أمره الأطباء بأن يتردد على المستشفى أسبوعياً لمتابعة الجرح حتى يتعافى تماماً، انتهت رحلة معاناة الطفل، ولكن معاناة المرضى الذين يترددون على «أحمد ماهر» و«الحسين الجامعى» لا تزال مستمرة.

من جانبه نفى الدكتور محمد مصطفى، رئيس لجنة إدارة مستشفى أحمد ماهر التعليمى، عدم استقبال الحالات بسبب إجازات الأعياد، مؤكداً أن الحالة الوحيدة التى لا يستطيع فيها المستشفى قبول حالة هى عدم وجود أماكن لها، وتابع «مصطفى»: «كان يجب من البداية أن يتم نقل الطفل بعد إصابته عن طريق سيارة إسعاف حتى يتم التأكد من وجود أماكن فى المستشفى قبل نقله إليه»، وعن عدم استخدام كراسى متحركة فى نقل الطفل خلال فترة وجوده فى المستشفى، قال «مصطفى»: «هذا أمر غريب فالمستشفى به كراسى متحركة كثيرة جداً لدرجة أننى أحياناً أقول لهم أنا بقيت حاسس إن عندنا جراج كراسى متحركة».

وشكا رئيس لجنة إدارة المستشفى من نقص فى أعداد الحكيمات والعمال، قائلاً «الحكيمات عددهن لا يتعدى 4 فقط فى الاستقبال كله، وهذا رقم قليل جداً ويجب أن يزيد عددهن على الأقل ليصل إلى 10، أما العمال فمعظمهم أعمارهم قاربت الستين ويعانون من أمراض مزمنة فكيف لهم أن يستطيعوا حمل مريض، والمشكلة أن التعيينات فى الوزارة متوقفة، وأشار مصطفى إلى أن عدد المترددين على قسم الاستقبال فى المستشفى يتراوح بين 1000 و1500، إضافة إلى 2000 يترددون على العيادات الخارجية يومياً، فيما يتم إجراء ما يقرب من 350 عملية جراحية أسبوعياً.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل