المحتوى الرئيسى

بحب السيما

09/12 10:22

وما قاطعتها إلا حبًا لها وما اعتزلتها إلا حزنًا عليها!! إنها السينما، صندوق الدنيا، الشاشة الفضية التي تعكس الحياة بألوانها من الوردي للنيلي وتحكي كل تفاصيلها النهاري والليلي.

"بحب السيما" ومِن الحب ما قتل، وياويلتي من القتل عندما يتلبس في روح الافتقاد ويتجلى في شَكْل الحنين.. ذاكرتي مكتظة بمشاهد ولقطات، حوارات وصراعات، قفشات وكلمات علّمتنا وعلَّمت فينا، حفرت بالأبيض والأسود تاريخا ذهبيا لِمِصْر تشاهد فيه بوضوح الشوارع الفسيحة والمقاهي العريقة والحارات الأصيلة بناسها البسيطة، مِصْر الجميلة التي تعاني الاحتلال تارة والفساد مَرَّة، تشكو هوانها على من تحبهم وتنصت لشكاوى مَن يحبونها، هَذَا وذاك مرسوم بإبداع فنانين صَنعِْتْهُم صناعِة البهجة والدَمعة.

تترات أفلام تعُج بالعظماء، كُل اسم كفيل بصناعة عَمَل يؤَرَخْ بذاته ولكن لا مكان للذاتية، فالقلوب عامرة بالمحبة والنفوس عامرة بالثقة واليقين أنَ يدُ الله مع الجماعة، أسماء تلألأت في سماء الفن فأنارت للمجتمع طُرقا لم يسلكها وتَطَرَقت تناقِش عوراته دون أن تخدُش حياءه.

هذا كان حال السينما في مِصْر صاعِدة واعدة واستمر الحال مِن هزيمة لانتصار لانفتاح والسينما ترصُد وتُحلل، تواجِه وتقيم، تضرب صافِرة الإنذار عندما يداهمنا إعصار مخدرات أو يداهم مجتمعنا مَرَض كالإيدز، فمن ينسى ناقوس الخطر الذي دَقَه "شاويش نصف الليل"، فوجَه رسالة للمجتمع أجمع أفيقوا فالخطر يحيط بالصالِح قبلْ الطالِح، ونظرات الذُعر في عيون أبطال "الحُب في طابا" بعد إصابتهم بمرض الإيدز الذي انتقل إليهم عن طريق عَلاقات آثمة مَعَ الفتيات الإسرائيليات كانت أبلَغْ مُعَلِم لمجتَمَع أكبر هواجسه في ذَلِك الوقت هو الإصابة بالبلهارسيا!!

هكذا كانت السينما نجاحات وراء نجاحات حتى وإن تخللتها بعض الكَبوات كالأفلام التي تَم تصويرها في لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلا أنها كانت المرآة العاكسة لشعب يعاني الهزيمة و"كَسر الخاطِر"، فانعكس ذَلِك عليه بما يشبِه التوهان وانعدام التّوازن.

ثم كانت الكبوة الثانية في تاريخ السينما وهي ما أُطلِق عليه أفلام المقاولات وكانت ذات سَمْت معين وخلطة مقادير لا يخلو منها أي فيلم مِن غنوة ورقصة وسيجارة وكأس وبنت حلوة وولد بعضلات، وحتى هذه السَقْطَة كانت تُعبّر عَن صَدمَة حضارِية تَعَرَّض لها المُجتَمَع إثر انفتاحه على ثقافات أخرى طَرَقَت بابُه مِن خلال جهاز الڤيديو، فأصبَح الفيلم الأمريكاني هو النموذج الذي يحاول صنّاع السينما التشّبُه بِه دون مراعاة مدى ملاءمة هذا الفِكر للمجتمع المصري.

وبالرغم مِن ذَلِك كان سلاحا ذا حدين، إذ أثرى مكتبة الفيديو ليس في مِصْر فقط وَلَكِن في الدول العربية أيضًا، حيث كانت أشرطة الفيديو في ذَلِك الزمان لا تقل أهمية عَن الماء والهواء، فكان الفيلم المِصري بمثابة جواز مرور للهجة المِصرية، وهذا ما مَهد الأرض للتعلُق الوجداني بمِصر، فانعكَس ذَلِك على معدلات سياحية مُرتفعة وصلت في بعض الأوقات لنِسب إشغالات تتجاوز 100٪‏ في فنادق القاهرة.

ومَرت الأعوام وكانت الألفية الجديدة هي إيذان بميلاد سينما جديدة أُطلِق عليها "سينما الشباب" تعتمِد على النجم الأوحد وبجواره فِرقَة مِن "السَنيدَة" دورهم لا يتعدى إلقاء نكتة بايخة، وتدهورت حالة السينما وأصبحت القاعدة الأساسية هي أفلام العشوائيات حيث الرجولة هي سيجارة "بُنِي"، والأنوثة في الفُجور والموسيقى أصبَحَتْ مهرجانات، عالم لا يشبِه المصريين ولا يُعبِّر عَن حال بيوتهم التي عِمادها السَتر ورجاءها الصِّحة وأملها راحة البال.

ولن نُنْكِر وجود عالم العشوائيات، ولكنّه جزء لا يُعَبِر أبدًا عَن واقع المصريين الطيبين، فأصبحت النغمة الأساسية لإيقاع السينما هو النشاذ والنغمة الأصلية نادرة الوجود، مع كُل مجموعِة أفلام هابطة قد تُصادِف فيلما ناجحا يهمسُ لَك "لا تيأس" إن الْبَاطِل كان زهوقا.

وجاء فيلم "الكِنز" دليلًا على ذَلِك إذا أُحسِن استغلاله قد يَكُون نقطة تحول جديدة في مسار السينما المصرية لتعود لريادتها مَرَّة أخرى، فهو بمثابة اعتذار مِن شخصيات أثرِت سلبًا على الهُوية المِصرية، فأبهرتنا بأداء يرتقي إلى تِلْك الشخصية، كان الكِنز الحقيقي هو وجود كُل هذا الكم مِن النجوم في عمل واحد ليكون مثالًا حيًا أنه كُلمّا زادت النجوم في السماء كلما ازداد وهَجُها وتلألأ بريقُها.

مِصْر أرض خصبة الأفكار والمواهب والطاقات، بوابِة النجومية والشهرة والانتشار، تِعْداد سُكانها يصل لأكثر من رُبع سكان الْوَطَن العربي، لذا فالفن أمانة في عُنقها وعلى القائمين عليه أن يصونوا تِلْك الأمانة.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل