المحتوى الرئيسى

شاعر البؤس والصعلكة (3) | المصري اليوم

09/07 06:51

ثم تمضى بعد ذلك حياة عبدالحميد الديب مأساة ومهزلة فى وقت واحد. فقد عرف ألوانا من الضيق والفقر، أقصى ما عرفه الفقراء المعدمون، فى مدينة كبيرة، وعرف فى الوقت نفسه حياة لا تخلو من طرافة ومتعة، فقد حرص بعض علية القوم من وزراء وأدباء على التلطف معه، وكسب وده، ومد يد المساعدة إليه بالقليل، فكانت له معهم مواقف، مدحهم وهجاهم، وتردد على مجالسهم ودورهم ثم هجرهم. وبقى آخر الأمر على حاله من الفقر والخمول، لم تنشر له صحيفة كبيرة قصيدة، ولم يُكتب عنه مقال، ولم يُعترف به بين الشعراء الكبار أو الصغار.

فكان شعره يُنظم ويلقى، وتتناقله الألسن، ويُبدى المعجبون إعجابهم به، ويُظهر القادحون سخطهم عليه فى الشارع، وعلى قوارع الطرق، وفى المقاهى، وأندية الصحف، بين ضحك الضاحكين، وهزل الهازلين، وكؤوس الخمر تدور، وأكواب الشاى تُشرب، والقادمون والراحلون، يفدون ويرحلون: تشيعهم وتستقبلهم القهقهات والنكات، وصيحات الترحيب والتوديع. وعبدالحميد الديب، بين كل هذا كله، يتلقى الطعنات ويردها، ويشعر بالمهانة حينا.

وبالسرور والسعادة حينا، إذا ظفر بكأس، أو بسيجارة أو كوب شاى، أو بعبارة تشجيع، أو بمعجب جديد. ثم يخرج بعد ذلك ليستأنف سيره فى الشوارع باحثا عن نادٍ آخر، تختلف فيه عن سابقه الوجوه، والمشارب والأذواق، ولكن لا يختلف هو حظه منه، فقد يكون الأول للأغنياء، بينما يضم الثانى الشبان الذين لا يفضلون الديب كثيراً سعة رزق أو علو مكانة أو شهرة.

وقد حاول الديب أن يجد فى تجواله وتنقله عملا فلم يوفق، لا لأن الأبواب أوصدت فى وجهه كما يظن، ولا لأن حساده أرادوا الكيد له كما كان يردد فى شعره، ولكن لأنه لا يريد أن يعمل، ولا يحتمل أن يبقى فى مكان واحد لساعات، يواصل جهداً منتظماً فلا تصدقه حينما يقول مثلا:

بين النجوم أناس قد رفعتهمو إلى السماء فسدوا باب أرزاقى

يا أمة جهلتنى وهى عالمة أن الكواكب من نورى وإشراقى

أعيش فيكم بلا أهل ولا وطن كعيش منتجع المعروف أفاق

وكنت نوح سفين أرسلت حرما للعالمين فجازونى بإغراق

وقد أجاد فى وصف حياته البائسة تلك كما أجاد فى قدح من أساء إليه أو تكبر، وهنا يصف غرفته الفقيرة التى سكنها:

أفى حجرتى يا رب أم أنا فى لحدى ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد

تساكننى فيها الأفاعى جريئة وفى جوها الأمراض تفتك أو تعدى

أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها فأرجله أمضى من الصارم الهندى

تحملت فيها صبر أيوب فى الضنا وذقت هزال الجوع أكثر من غاندى

ثم يأتى هذان البيتان اللذان أودعهما خلاصة شكواه من البؤس وقد ذاعا على الألسن وشاعا فى المجالس:

وهام بى البؤس حتى كأنى عبلة والبؤس عنتر

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل