المحتوى الرئيسى

هكذا كان الحجّ في ثلاثينيات القرن العشرين

08/23 13:38

حزم الرجل حقائبه وانطلق في أول رحلة حج بعدما اعتنق الإسلام وسمى نفسه "عبد الله". وخلالها، دوّن مشاهداته التي لفتت انتباهه كرحالة إنكليزي في المقام الأول.

مقدمات عديدة ساقت هاري سانت جون بريدجر فيلبي إلى إعلان إسلامه، منها ولادته في سيلان (سيرلانكا الآن) حيث كان أبوه يعمل في تجارة القهوة، والتحاقه في شبابه بقائمة الخدمات المدنية لدى حكومة الهند البريطانية، ما أدى إلى اختلاطه بالمسلمين.

في الهند، درس اللغة البنجابية والأوردية، وتعلم اللغة العربية والقرآن الكريم، ما خوله أن يكون ضمن البعثات المتجهة إلى البصرة عام 1915 وشبه الجزيرة العربية عام 1917.

عُرف الأفارقة بلفظة عامية هي "تكروني" وجمعها "تكارنة"، وهي مسمّى لقبائل مختلفة تنتشر بين السودان ونيجيريا.

رغم إسلامهم، فقد كانوا يحتفظون ببقايا غريبة من عاداتهم التي ربما تتنافى مع تعاليم الدين، بحسب ما رأى فيلبي.

فأثناء وجوده في جبل عرفات، مر بمجموعة من النساء يحفرن حفراً صغيرة في الرمال ليدفن فيها خصلات من شعرهن، مما كان يتقطع أثناء التمشيط، اعتقاداًً منهن بأن دفن شعرهن في الأراضي المقدسة يهبهن متعة المحبة الدائمة.

وشاهد أيضاً صفوفاً متلاصقة من مئات الأفارقة وسط مدينة الخيام ينظرون باتجاه جبل الرحمة، وهم يترنمون بأدعيتهم الخاصة في سرعة فائقة.

وفسّر فيلبي ذلك بأنه "ربما كانوا في العهود السابقة يفعلون ذلك على قمة الجبل التي حيل بينهم وبينها في ظل الحكم السعودي، الذي ينهي عن أداء مثل هذه الأشياء بصفة عامة باعتبارها بدعاً تتنافى مع السنة النبوية".

ومما أثار دهشة الرجل الإنكليزي أكثر هو أن معظم هؤلاء الإفريقيين يمضون سنوات في رحلتهم من ديارهم إلى مكة. وبصفة عامة فإنهم "يعملون أثناء الطريق، مخترقين القارة الإفريقية، وأحايين كثيرة يقضون بضع سنين في مزارع القطن بالسودان".

شارك غردمجموعة من الإفريقيات يدفنّ في الرمال خصلات من شعرهن ومشاهدات أخرى من الحج عام 1930

شارك غردمشاهدات من الحج عام 1930 دوّنها الرحالة الإنكليزي هاري سانت جون بريدجر فيلبي في كتابه "حاج في الجزيرة العربية"

ويروى قصة لقائه برجل وزوجته كانا قد بدآ رحلتهما ومعهما طفل واحد، فأصبحوا أسرة تضم ستة أطفال بعد انتهاء رحلة الحج التي استغرقت 14 سنة.

والتقى أيضاً برجل عجوز قوي البنية، ادعى أن عمره 120 سنة، وأنه قضى ما لا يقل عن سبعين سنة في الطريق من لاغوس إلى جدة، مرجعاً ذلك إلى أنه أمضى عمره كله في دراسة الدين والفلسفة، وأن رحلته شملت إقامات طويلة في المراكز العلمية المختلفة التي كانت في طريقه.

كان للمصريين طقوسهم الخاصة. خلال تجوله، لاحظ فيلبي "اصطفاف عدد كبير من الرجال والنساء ـ الواضح أنهم فرقة من نوع ما ـ خلف منشد لهم، مديرين ظهورهم لمكة ووجوههم لجبل الرحمة، وهم يرددون في وحدة تامة العبارات التي ينشدها رئيسهم ويلوحون بمناديلهم نحو الجبل".

والواضح أن هذا كان أحد الطقوس الموروثة من زمن المحمل (كانت مصر ترسل المحمل السنوي في موسم الحج حتى انقطع ذلك بعد إنشاء الدولة السعودية)، بحسب تفسير فيلبي للمشهد.

لم يأبه أحد لما يفعلونه، لأن فيالق السعوديين كانت على الجانب الآخر من الجبل وكانوا بعيدين جداً عن الأعين.

من بين هدايا المسجد الحرام بمكة والتي كان يأتي بها المحمل المصري (انقطع في عام 1926 وعاد بعد الصلح بين مصر والسعودية عدة مرات للدلالة على تحسن العلاقات)، كانت الكسوة السوداء المطرزة بالحرير المفصلة على حجم الكعبة المشرفة.

وبحسب ما ذكره فيلبي، "في كل عام وفي اليوم التالي ليوم الحج، تحل الكسوة الجديدة محل سابقتها، التي تصبح مكافأة لسادن الكعبة (القائم على أمورها من نظافة وعناية)، الذي يقطعها إلى مربعات صغيرة تباع بيعاً مجزياً للحجاج".

لم يكن هدف الحائط الذي بُني حول البئر أثناء رحلة فيلبي حماية الماء من التلوث فقط. فقد كان ضرورياً أيضاً بسبب انتحار بعض الأشخاص برمي أنفسهم فيه، توهماً منهم بأن ذلك يضمن لهم دخول الجنة.

وكان كثيرٌ من الحجاج يأتون بالأكفان التي يودون أن يُكفنوا بها ليغسلوها في ماء زمزم، ولكن ليس في البئر نفسه بطبيعة الحال.

ودافع الكاتب عن مياه البئر بعد أن شكك فيها كثير من المستشرقين وقالوا إنها لا تصلح للاستخدام، مثل المستكشف الفرنسي ريتشارد فرانسيس بيرتون. وقال: "حقاً لهذا الماء طعم مرّ قليلاً، ولكنه من أخف الأنواع، وإذا ما تركه المرء إلى حين من الوقت في جرة من الطين، فإن طعمه يكون جميلاً ومنعشاً ومفيداً وبهيئة مريحة للعمل الداخلي للجسم".

أعيد بناء مسجد الرسول بأمر من السلطان العثماني عبد المجيد الأول من 1849 حتى 1860. ولكن، أثناء زيارة فيلبي، كان المسجد قد تحول إلى حالة من الخراب الشديد نتيجة الإهمال وقلة المال لصيانته.

ولكن منذ عام 1934 شُرع في إصلاح البناء بطلب من طلعت حرب، مدير بنك مصر، وعلى نفقته.

وحينما زار فيلبي المسجد عام 1935 كان العمل على قدم وساق في المآذن وبالداخل، ما جعل المسجد يبدو آنذاك أقرب إلى ساحة بناء وورشة نجار منه إلى مكان للعبادة.

لم تكن النساء يستطعن دخول مقبرة البقيع إلا ليُدفنّ فيها. "وهن أحياء ممنوعات من زيارة المقبرة، بينما هذه الزيارة للرجال جزء لا يتجزأ من برنامج زيارة المدينة، بما في ذلك مقابر أولئك النسوة اللواتي احتللن أماكن في التاريخ الإسلامي"، كتب فيلبي.

كل ما كانت تفعله النساء هو الوقوف في مقبرة صغيرة خارج حدود البقيع، ولكنها مطلّة عليه، وتوجيه السلام المأثور وقراءة الفاتحة.

وجاء المنع في سياق الجدل الذي كان مثاراً في بداية الحكم السعودي حول زيارة القبور. كان رجال الشرطة يقفون في الحرم والمقبرة لمنع أي إسراف في التعبير عن بعض المشاعر أمام مقابر الأعلام.

وكان لهدم السعوديين للقباب بين عامي 1925 و1935 أثر نفسي لم يكن متوقعاً يوماً. عندما رآها فيلبي في عام 1930، بدت محزنة، لما كانت عليه من إهمال بحيث لا يتصور المرء أنها كانت ستجذب أحداً لزيارتها لولا أنها كانت جزءاً من البرنامج.

بعد ذلك بثلاث سنوات أثمرت زيارة عبد الله السليمان، وزير المال السعودي، للمدينة عن إصلاح حال القبور. "وضعت في مواضع الرأس والحدود حجارة من البازلت، وأزيلت أي أشياء قد تؤدي إلى تقديسها"، كما روى فيلبي.

على هامش رحلة الحج، لاحظ فيلبي أن سكان المدينة المنورة العاديين بل وبعض الموسرين درجوا على تنظيم نزهات متكررة إلى بساتين النخيل الخارجية أو الأماكن التي تستحق الزيارة، فيركبون لها الحمير، وفي أحايين قليلة الخيل والجمال.

ويبدو أن الحالة العامة للهبوط الاقتصادي الذي لازم انخفاض عدد الحجاج في هذه السنوات بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، لم تشجع السكان ليتخلوا عن خيول الأيام الخوالي من أجل المركبات الجديدة.

كانت رحلات الريف مقصورة على فصول معينة. "تنتقل الأسرة إلى بستان نخيل بعيد تملكه، أو تستأجره من وكيل أو من صاحبه المقيم في مكان ناء، وتقيم فيه شهراً أو شهرين"، كتب فيلبي.

أثناء ذلك الوقت "تكثر زيارة الناس غير المحظوظين الذين حبسهم العمل أو أي شيء آخر في المدينة، كما يقوم رب الأسرة أو أحد الذكور بزيارة المدينة لإنجاز بعض الأعمال من حين لآخر ليوم أو يومين أو آخر الأسبوع"، أضاف.

في هذه البساتين يجلس الذكور من العائلة وضيوفهم يقطعون الوقت ويتحدثون في السياسة والمشكلات الاقتصادية، ويصلّون في الأوقات المعلومة، وفي أحايين كثيرة يستمعون للموسيقى التي لا يستمعون إليها في الرحاب المقدسة.

على الضفة اليسرى من مجرى وادي العقيق بالقرب المدينة المنورة، كان يوجد مطار سلطانة (أقامته الدولة العثمانية لتهبط عليه الطائرات الحربية في الحرب العالمية الأولى) الذي أصبح مهجوراً. وفي عام 1936 زارته طائرات شركة بنك مصر لترى مدى إمكانية تقديم خدمات جوية للحجاج المصريين.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل