المحتوى الرئيسى

رحلة «كتب الإرهاب» من المطبعة إلى الرصيف.. حكايات تنشر لأول مرة (تحقيق)

08/20 22:07

كيف يصبح الإنسان إرهابيًا؟.. هذا هو السؤال الأسخن على الساحة أمام العمليات الإرهابية التى تضرب العالم الآن.

إجابة السؤال بديهية، وهى أن العنف الدينى لا يصدر إلا عن عقيدة، والعقيدة تبنى على فكرة، والفكرة تنتقل بالكلام، والكلام فى الكتب.

وفى ظل تقاعس الجهات المعنية بإصلاح الخطاب الدينى، ربما لأنها أقل جرأة أو أضيق أفقا من الاضطلاع بالمهمة على أكمل وجه، فإن الخطاب المحرض على العنف سيستشرى، لأن جذوره لاتزال «باقية وتتمدد».

وبينما تكتوى الجهات الأمنية بنار التعامل المباشر والعنيف مع نتاج الخطاب الإرهابى، فى صورة جماعات مسلحة وانغماسيين، وخلايا تكفيرية، فإنها لا تجد إلى جانب عملها المعتاد من وسيلة لسد باب الريح إلا مصادرة الكتب المحرضة على العنف، ومنع تداولها.

وسيلة المصادرة، وإن كانت ضرورية، يمكن اعتبارها بائسة، بل عكسية، من زاوية أخرى، لأن مصادرة كتاب ما تعد فى حد ذاتها دعاية لهذا الكتاب، ومن ثم فإن العاملين فى مجال النشر، بدءا من الطباعة وانتهاء بالبائع، يعرفون جيدا كيف يستغلون عبارة «محظور تداوله» ليضاعفوا أرباحهم من الكتاب الممنوع.

هذا الكلام ليس جزافيا، بل هو واقع لمسته «الدستور» وهى تجرى هذا التحقيق، انطلاقا من قائمة بـ٤٠ كتابا، حددها ضباط جهاز الأمن الوطنى، لمصادرتها وتتبع ناشريها وبائعيها، كونها تحتوى على مواد تنظيرية للإرهاب تحت مسمى «الجهاد»، بل تتجاوز التنظير إلى مراحل متقدمة من تنظيم العمل الإرهابى، وتعليم وسائل الالتحاق بالجماعات الإرهابية، وكيفية تصنيع المتفجرات، والتخفى عن أعين الأمن.

وفى السطور التالية، نرصد أضلاع المنظومة التى يمكن تسميتها «سوق الكتب المحظورة»، من يطبعها، ومن يوزعها، ومن يبيعها، وكيف يسمح بطباعتها، لنجيب عن سؤال أخير: لماذا لا تستطيع الدولة السيطرة على الكتب المحظورة؟.

قائمة بالكتب المحظورة.. ما يحتاجه المتطرف من الإبرة للصاروخ

فى البداية، حصلت «الدستور» على قائمة بـ٤٠ كتابا، أعدها ضباط الأمن الوطنى، لتتبع بائعيها سواء على أرصفة الشوارع أو أمام محطات المترو، وكذلك المكتبات والتجمعات الكتابية الشهيرة، بعدما وجدوا أنها عامل مشترك فى إفساد عقول الإرهابيين الذين ألقوا القبض عليهم، كما عثروا على نسخ منها فى أوكار التكفيريين التى داهموها.

قائمة الكتب بالفعل توفر للشاب ما يحتاجه ليصبح إرهابيا «من الإبرة للصاروخ»، ومن أبرزها «فى ظلال القرآن» للمنظّر الإخوانى سيد قطب، و«فضل الجهاد وأصله» لخليفته يوسف القرضاوى، و«إدارة التوحش» لأبى بكر ناجى، و«حرب المستضعفين» لروبرت تابر، و«البشرى المهدية لمنفذى العمليات الاستشهادية» لأبى الحسن الفلسطينى، و«برنامج صناعة الإرهاب» لأبى عبيدة عبدالله، و«الكواشف الجلية فى كفر الدولة السعودية» لأبى سعيد العراقى، ومجموعة ملازم بعنوان: «تساؤلات وشبهات حول المجاهدين وعملياتهم».

وشملت القائمة أيضًا «دعوة أهل الجهاد إلى الاجتماع والاتحاد»، و«زاد المسافر»، و«أسئلة حول العذر بالجهل»، و«أسئلة عن جند الطاغوت وموالاة الكفار»، و«أسئلة عن لبس الصليب»، و«ملحمة الحرب»، و«متى تجوز مخالطة جند الطاغوت؟ ومتى يكون هجرهم؟»، و«ما حكم من يحرس الأمريكان؟»، و«ما حكم العمل فى المصالح الحكومية؟»، و«حكم دخول التجنيد الإجبارى فى الجيش المصرى؟»، و«هل يجوز لبس الكرافت؟»، و«هل نواصل التظاهر ضد مبارك؟»، و«صهيل الجياد فى جمع مصادر الجهاد»، و«برنامج أسرار المجاهدين لتشفير الرسائل».

المصادر الأمنية التى زودتنا بهذه القائمة، ذكرت أن «الأمن الوطنى» يحاول أن يستخدم أسلوبا وقائيا للحد من انتشار المطبوعات التى تستخدمها التنظيمات الإرهابية لملء عقول الشباب بأفكارها ليكون تجنيدهم سهلا بعد ذلك.

وأشارت إلى أن هناك تنسيقا بين الأمن الوطنى ورؤساء مباحث الشرطة على مستوى المحافظات، لرصد هذه الكتب وبائعيها وموزعيها، إلى جانب الاتفاق مع أصحاب المكتبات ومكاتب التصوير وإمدادهم بقائمة الكتب المحظورة، لمتابعة حركتها فى السوق، والإبلاغ الفورى عن الراغبين فى شرائها أو تصويرها أو طباعتها، واستغلال كاميرات المراقبة لتوثيق هذه العملية.

وأضافت المصادر أن تقارير ضباط الفحص الفنى بوزارة الداخلية، كشفت عن وجود كتب شديدة الخطورة، توثق عمليات تصنيع القنابل والأحزمة الناسفة، بداية من المواد الكيميائية حتى عملية التفجير، فضلا عن العثور بين أحراز الإرهابيين على كتب تشرح كيفية تحديد المستهدفين من رجال الجيش والشرطة، وتفصل عمليات التتبع والتخفى وطرق إجراء المقابلات بين عناصر التنفيذ حتى إتمام مهامهم.

الكارثة أن هناك نسخا إلكترونية من هذه الكتب، متاحة على الإنترنت، عثر عليها فى أجهزة اللاب توب الخاصة بالمتطرفين المقبوض عليهم، ونوهت المصادر بأن نحو ٢٠٠ متهم بالإرهاب فى الأحداث الأخيرة، كانوا يمتلكون على أجهزتهم موسوعة من كتب «الجهاد» تدعو إلى قتل من يحتكم إلى «القوانين الوضعية» التى يصنعها البشر بدلا من الاحتكام إلى قوانين السماء التى أنزلها الله، وعليها شروح لمنظّرين إرهابيين من أمثال أبومحمد المقدسى وأبومصعب السورى وأبوقتادة الفلسطينى.

البيع على الأرصفة وفى محطات المترو

جولة عشوائية فى ٤ من محطات المترو بالقاهرة، وكذلك منطقة سور الأزبكية بالعتبة، وشارع العزيز بالله فى الزيتون، أثبتت أنه لا عناء فى العثور على هذه الكتب، وإذا قال البائع إنها غير موجودة، فإنه يستدرك سريعا: «بس ممكن أجيبه لو عايز»، ولكن بمبالغ كبيرة بالطبع.

أمام محطة مترو «البحوث» فى حى الدقى، يفرش أحدهم الكثير من الكتب على الرصيف، فتقدمنا إليه وسألناه عن الكتاب الأول فى قائمة «الأمن الوطنى» الممنوعة من التداول، فأجاب بأن كتاب «فى ظلال القرآن» لسيد قطب، من السهل توفيره، ولكن بـ٦٠٠ جنيه، ومن الممكن ترك ١٠٠ جنيه كعربون، والعودة لاستلامه بعد يومين.

بالاستفسار من البائع عن أسباب ارتفاع سعر الكتاب لهذه الدرجة، قال إن الكتاب ممنوع الآن من التداول، والنسخ الموجودة منه فى السوق قليلة جدًا، لذلك فإن سعره ارتفع من ٤٠ جنيهًا للجزء الواحد إلى ٦٠٠ جنيه، ملقيا باللوم على أصحاب المكتبات المسئولة عن توزيع الكتاب، الذين استغلوا وجود إقبال على شرائه، مشيرًا إلى أن حقوق النشر والطبع كانت لـ«دار الشروق»، وتبيعه الآن الكثير من المكتبات الإسلامية فى منطقة الأزهر.

لم يختلف الأمر كثيرا أمام محطات جمال عبدالناصر (الإسعاف)، وأنور السادات (التحرير)، وسعد زغلول (السيدة)، إذ أجمع الباعة على أن هذه الكتب ممنوعة من التداول، ولا يمكن بيعها على مرأى ومسمع من الجميع، إلا أنهم على استعداد لتوفير أى كتاب منها ولكن بضعفى السعر على الأقل، خصوصا كتب القرضاوى وسيد قطب، كما أن بقية كتب القائمة يمكن إيجادها بسهولة فى سور الأزبكية والمكتبات الإسلامية المجاورة لمشيخة الأزهر بمنطقة الدراسة.

فى منطقة سور الأزبكية بالعتبة، تقمصت محررة «الدستور» دور باحثة فى جامعة الأزهر، وبدأت بالسؤال عن بعض الكتب التى كانت سببًا فى تحول كثير من الشباب إلى «دواعش»، ومنها كتاب «فى ظلال القرآن» لسيد قطب، وعند أول بائع كان الجزء الخامس فقط هو الموجود، وسعره ٥٠ جنيهًا، لكن البائع قال إنه قادر على توفير بقية الأجزاء، وسيكون سعر المجموعة كاملة ٤٥٠ جنيها، وهى طبعة دار الشروق الصادرة عام ٢٠٠٩.

وبمجرد السؤال عن كتاب آخر من القائمة، هو «إدارة التوحش.. أخطر مرحلة سوف تمر بها الأمة» لأبى بكر الناجى، سارع البائع بالقول: «ولا عمرك هتلاقيه.. دا كتاب داعش.. اللى يبيعه يتشنق.. هتلاقيه ع النت»، ولم يختلف رده عن رد ٥ بائعين مجاورين، كلهم متخصصون فى بيع الكتب الإسلامية.

أحد باعة الكتب بمحطة مترو «سعد زغلول»، أرشدنا إلى مكتبة «د. س» أمام مشيخة الأزهر بالدراسة، قائلا إنها الأكثر شهرة فى بيع كتب الإخوان، وبمجرد دخولنا إليها سألنا عن بعض الكتب الموجودة بالقائمة، إلا أن البائع قال: «دى كتب ممنوعة ومحدش يقدر يبيعها دلوقتى.. بس ممكن نجيبلك فى ظلال القرآن»، وبسؤاله عن سعره أجاب بأنه يصل إلى ٦٠٠ جنيه، مشيرًا إلى أنه موجود حاليًا لكنها الطبعات الأخيرة التى تبقت بعد الإعلان عن منع تداول الكتاب.

وأشار صاحب المكتبة، إلى أن باقى أسماء الكتب المترجمة غير متوافرة فى أى مكان خصوصا فى الوقت الحالى، موضحا أن تلك الكتب اختفت بعد ثورة ٣٠ يونيو، مقترحًا إرسال أسماء تلك الكتب عبر «واتس آب» لمحاولة إيجادها.

وقبل المغادرة سألناه عن كتب «القرضاوى»، فقال أصحاب المكتبة إنها موجودة فى مكتبة قريبة من محكمة عابدين، فتوجهنا إلى هناك، وقلنا للبائع إننا نريد شراء كتاب «فقه الجهاد وفضله»، فأجاب قائلًا: «ما تِحبسوناش»، وبعد قليل من التفاوض، قال إن مجموعة كتب «القرضاوى» موجودة عنده، لكنها الطبعات الأخيرة التى كانت موجودة لديه بالفعل، وقد توقف عن بيعها بمجرد منع تداولها، مضيفًا أن سعر الكتاب المشار إليه زاد من ٣٥٠ جنيها إلى ٥٠٠ جنيه.

وترغيبا فى شراء الكتاب، قال البائع إن كتب «القرضاوى» الموجودة لديه تبدو كالجديدة، فهى تتمتع بالملمس «الشمواه» ونظافة الصفحات، مشيرًا إلى أن الباعة لا يستغلون أزمة منعه من الأسواق، لكنهم يريدون تحقيق مكسب منه بعدما بارت تجارة هذه الأنواع من الكتب، ولم تعد تطبع بنفس الكمية، لكنه استدرك: «إن طلبت منى مجموعة معينة من الكتب، يمكننى الحصول عليها من أى مكتبة أخرى»، موضحًا: «لو جبته من مكان تانى باخد نسبة ٢٠٪».

مطابع سرية غير مرخصة تتولى طباعتها

حديث البائع أمام محكمة عابدين عن وجود نسخ جديدة من بعض الكتب القديمة، الموقوف تداولها، أثار تساؤلًا منطقيًا عن مصدر هذه الطبعات الجديدة، وهكذا تحددت الوجهة التالية للتحقيق، وهى البحث عن المطابع التى تنسخ هذه الكتب، التى بالتأكيد لن تكون مرخصة.

وخلال التحقيق، تبين أن إنشاء مطبعة سرية، ليس صعبًا، فكل المطلوب هو ماكينة طباعة واحدة، وشقة صغيرة أو بدروم فى منطقة بعيدة عن أعين الرقابة، وهو ما فعله، محمد فتحى، المطبعجى الذى اختار شقة فى دور أرضى بإحدى العمارات السكنية بمنطقة بولاق الدكرور.

فتحى قال إن الطباعة مهنة مربحة جدًا، لذلك هناك الآلاف من تلك المطابع بالمناطق العشوائية، خصوصًا أن إنشاء المطبعة لا يتكلف الكثير، كما أن الإجراءات القانونية يسيرة للغاية، لا تتجاوز استصدار سجل تجارى وبطاقة ضريبية فقط.

وبسؤاله عن عدم الحصول على ترخيص من غرفة الطباعة، أجاب: «مش عاوزين وجع دماغ، والحكومة تكبس علينا كل شوية، إحنا كده مدارين، إحنا ما بنعملش حاجة غلط، بنطبع كروت ودعوات أفراح وكتب أساتذة جامعة وعلب دواء».

الهروب من «وجع الدماغ» لم يكن السر الوحيد فى حرص المطبعجية على استخراج ترخيص من غرفة الطباعة، فقد ذكر شاهين محمد (اسم مستعار) صاحب مطبعة بمنطقة شبرا الخيمة، أنه إذا كانت طباعة المنشور فى المطبعة المرخصة تتكلف ١٠ قروش، فإن طباعة المنشور فى المطبعة غير المرخصة تتكلف ١٠٠ قرش، لأن غير المرخصة تطبع أى شىء دون تدقيق ودون فواتير أو أى مستندات رسمية قد تقع فى أيدى الحكومة.

ولفت شاهين إلى أن كل صناعات «بير السلم» الفاسدة والمغشوشة تعتمد على الطباعة بشكل أو بآخر فى إحدى مراحلها، وقال: إنه أحيانًا لظروف السوق يطبع كتبًا دينية إسلامية ومصاحف، مشددًا على أنه يرفض طباعة أى منشورات تخص جماعة الإخوان الإرهابية، لكنه يعرف آخرين يقبلون.

خالد عبده، الرئيس السابق لغرفة الطباعة باتحاد الغرف التجارية، ذكر أن أصحاب المطابع يتهربون من ترخيص مطابعهم، ويكتفون بعمل سجل تجارى وبطاقة ضريبية فقط، ويعتمدون على أنه فى حال مرور موظفى الحى ستكون رشوة قدرها ١٠٠ جنيه فقط كفيلة بإبعاد أعين الدولة عنهم، وإذا ضغط موظفو الأحياء على أصحاب تلك المطابع، فيكن الحل البديل هو الحصول على وصل مؤقت لتجديد العمل، رغم أن ذلك ليس ترخيصًا من الأساس.

عبده أضاف أن الدولة لا تعرف عن تلك المطابع وأصحابها أى شىء، لأنهم غير مسجلين بشعبة المطابع فى اتحاد الصناعات، مشيرًا إلى أنه يوجد فى مصر ٤ آلاف مطبعة مرخصة من الغرفة، بينما يبلغ عدد المطابع غير المرخصة نحو ٧ آلاف، كلها تعمل «تحت بير السلم»، وتهدد الأمن القومى المصرى.

رئيس غرفة الطباعة السابق، قال شاكيًا: «طالبت بتعديل القانون رقم ٣٤ لسنة ١٩٧٩ الخاص بإنشاء السجلات التجارية، ووضع بند فيه ينص على إلزام كل من يريد إنشاء مطبعة بأن يتجه أولًا قبل الحصول على السجل التجارى والضريبى إلى شعبة الطباعة بغرفة الصناعات، ويسجل مطبعته وموقعها وبيانات القوة العاملة بها، حتى يمكن مراقبته وإبلاغ الجهات المختصة عنه فى حال عمله بطريقة مخالفة، وعلى الأقل يكون مرصودًا لدى أجهزة الدولة، وهو ما سيكون سهلًا على أصحاب المطابع كذلك، لأن الأوراق المطلوبة لترخيص المطبعة لا تزيد على عقد إيجار شقة ووصل للكهرباء وبطاقة ضريبية فقط.

الرقابة والتفتيش غير مُفعَّلين بحكم القانون

بحثنا عن الجهات الرسمية المنوط بها الرقابة والتفتيش على المطابع، واتضح أنها تابعة لوزارة الداخلية، وتتمثل فى إدارة التزييف والتزوير التابعة لمباحث الأموال العامة، وأيضًا مباحث المصنفات، ويحصل رجال هاتين الجهتين على المعلومات الخاصة بالمطابع من غرفة الطباعة، ويبدأون التفتيش عليها، لمعرفة ما إذا كانت تطبع أموالًا مزورة أو منشورات وكتبًا تهدد الأمن القومى.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل