المحتوى الرئيسى

«فتنة تونس».. رصاصة طائشة في جسد مريض

08/19 21:50

يقول العالم الفرنسى الكبير جوستاف لابون أستاذ القانون: «مبادئ المواريث التى نصَّ عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف.. ويظهر من مقابلتى بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنجليزية، أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات اللواتى يزعمن أن المسلمين لا يعاشروهن بالمعروف حقوقاً فى المواريث لا نجد مثلها فى قوانيننا».

وعلى مدار عقود طويلة حصلت المرأة التونسية على مميزات عديدة بالمخالفة للشريعة الإسلامية، فى ظل القواعد التى أرساها نظام الحبيب بورقيبة، وعبرت عنها مجلة ـ قانون ـ الأحوال الشخصية التى صدرت عام 1956، وتضمنت منع وتجريم تعدد الزوجات، وإلغاء حق التطليق من جانب الرجل ومنحه للمحكمة وإلغاء حق الطاعة، وإباحة الإجهاض والاعتراف بالتبنى.

وفى 13 أغسطس الجارى وخلال كلمته التى ألقاها بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطنى للمرأة، ومرور 61 عاماً على إصدار مجلة الأحوال الشخصية، فجرت دعوة الرئيس التونسى الباجى السبسى بالمساواة بين المرأة والرجل فى الإرث، وإباحة زواج النساء التونسيات بأجانب غير مسلمين فتنة حادة داخل المجتمع التونسى، الذى انقسم ما بين مؤيد ومعارض فى موقف لم تشهده تونس من قبل.

الدعوة التى جاءت بالمخالفة لما استقر عليه الفقه الإسلامى المستند إلى نصوص القرآن والسنة، تزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم، وتمتد آثارها إلى خارج الحدود القطرية التونسية لتشمل العالم الإسلامى أجمع.

«الوفد» تناقش الفتنة التونسية من جوانبها المختلفة وانعكاساتها على الواقع الداخلي، وتأثيراتها الإقليمية.

كلمة «السبسى» للشعب.. قفزة إلى المجهول

فى 13 أغسطس وجه الرئيس التونسى الباجى السبسى كلمة للشعب بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطنى للمرأة، وبمرور 61 عاما على إصدار مجلة الأحوال الشخصية كأول قانون أصدره الحبيب بورقيبة، والذى اعتبر نساء تونس مواطنات كاملات الحقوق والواجبات، مشيرًا إلى التزم تونس بذات النهج الإصلاحى، وذلك بمصادقة مجلس نواب الشعب على القانون الأساسى فى 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، لتصبح الأولى عربيا التى تصادق على قانون شامل لمناهضة العنف والدولة 19 على مستوى العالم.

ومضيفاً بعد استعراضه لإنجازات المرأة التونسية أن واقعها مازال يتميز بالظلم والتمييز، ولذا وجب السعى لتحقيق المساواة بين النساء والرجال لأنها أساس العدل، وأنه من الطبيعى تطوير التشريعات بما يتلاءم وتطور المجتمع وفق تراثه الإصلاحى التى أثمر مجلة الأحوال الشخصية، وأسس لكل الإصلاحات اللاحقة والمستقبلية على درب الاجتهاد والتنوير والتدبر السليم فى شئون الناس بما لا يتنافى فى شيء مع تعاليم الإسلام السمحة نصاً وروحاً.

كانت هذه هى مقدمة كلمته قبل أن ينطلق إلى القنبلة التى ألقاها، والتى قدم لها بأن الإسلام فى جوهره عـادل، ولا ينفى تطور معاملات المجتمعات لأفرادها وبهذا المعنى فهو صالح لكل الأزمنة.

ومشددا على أنه اعتبارا لمبدأ مواكبة التشريع للسياق الزمنى ولمتطلبات الواقـع المتغير، فإنـه يرى اليوم تطوير مجلة الأحوال الشخصية لتكريس المساواة بين المواطنات والمواطنين وفق ما دعا إليه ديننا الحنيف وما نص عليه الدستور الجديد فى فصله 21.

معتبرا أن الإيمـان ومبادئه وتعاليمه ثابتة، فيما الواقـع الاجتماعى متحول مما يجعل من القراءة المتحجرة للنص القرآنى خروجا عن الروح الحقيقية لدين انتصر وساد بين الناس بالعدل، وأثبت التصاقه بتطور الواقع وبالمحيط الذى يعيش فيه.

مستطردا بقوله لاحظنا بارتياح بروز توجه جديد فى العائلات التونسية للأخذ بمبدأ المساواة فى تقسيم الأملاك، بالاعتماد على الهبة فى حياة الوالدين وعلينا التفاعل مع هذا التوجه وتشجيعه وفقا للمنهج المقاصدى الحاث على الاجتهاد.

ثم أكمل مقدما رؤيته بالقول انه قد برز منهج اجتهادى يؤكد أن قاعدة للذكـر مثل حظ الانثيين إذا قرأناها وفق المقاصد الحكيمة وتاريخية النزول، إنما ترمى إلى تحديد السقف الذى لا يمكن النزول عنه فى واقع قبلى كان يتميز بإقصاء النساء من الميراث، باعتباره مقتصرا على الرجال بغرض الحفاظ على ملكية الأرض للقبيلة وعدم تشتيتها بتوريث النساء، ونفس هذا التوجه الاجتهادى المحمود يدفعنا للقبول بالمساواة على اعتبـار أن تحديد السقف الأدنى لا يمنع من المضى إلى الحد الذى يليه طلباً للمساواة وأخذاً بتطور سنن الحياة وشروطها.

وطبقا لهذا التفسير قال بضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية المتعلق بالإرث، استنادًا إلى المادة 2 من الدستور التى تنص على أن تونس دولـة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون، لأن أحكام الميراث أصبحت تمثل الجزء الشاذ فى مجلة الأحوال الشخصية لخروجها عن الفلسفة التحررية العامة الواردة فى المجلة والمبنية أساسًا على السعى نحو الحد من التمييز بين الجنسين.

ومنتهياً فى تفسيره إلى أن موضوع الإرث من مسائل الدنيا الفانية التى تركها الله الحكم العادل لاجتهاد خلقه، لذلك وجـب الحديث والاعتقاد والجرأة والاجتهاد فى المساواة بين الرجل والمرأة، بل وإقرارها إذ إن مشروعية المساواة ثابتة دينيا ودستوريا.

وواصل الرئيس التونسى كلمته مفجرا قنبلة جديدة بدعوته لإلغاء ما يعرف بمنشور 73، والذى اعتبره يشكل عائقا أمام حرية زواج التونسيات بأجانب، مستندا إلى أن المادة 6 من الدستور تقر بحرية المعتقد والضمير وتحمل الدولة مسئولية حمايتهما.

علماء تونس: مخالفة خطيرة وطعن صريح في ثوابت الدين

شن علماء ومشايخ جامعة الزيتونة ودكاترة في الشريعة بتونس في بيان لهم، هجوما شرسا علي الدعوة الرئاسية للمساواة في الإرث، وزواج المسلمة بغير المسلم، واعتبروا ذلك مخالفة خطيرة للإسلام تؤدي إلي تفريق فريق المجتمع، وطعنا صريحا في ثوابت الدين الذي أكد الدستور التونسي على أصالة الانتماء إليه، سواء في توطئته القائلة «وتعبيرا عن تمسّك شعبنا بتعاليم الإسلام»، أو في فصله الأول الذي نص صراحة على أن «دين الدولة الإسلام»، وبين في فصله السادس أن «الدولة راعية للدين، وتلتزم بحماية المقدّسات».

وقال البيان إن الإسلام في شريعته على «ثوابت» بينة وقطعية ومجمع عليها لا مجال لتبديلها، و«متغيّرات» يمكن للمتخصصين من العلماء الاجتهاد فيها، ومن هذه «الثوابت» أحكام المواريث، التي تكفّل الله سبحانه بتفصيلها وبيانها في كتابه العزيز، ولم يدع أمرها لأحد من البشر، بخلاف بعض مسائل الدين، فقد قال جلّ شأنه  في آية مُحكمة قطعية الدلالة: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»، وفي بيان عظمة هذه الآية يقول الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي في أحكامه «اعلموا أن هذه الآية: ركن من أركان الدين، وعمدة من عُمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات».

وأشار البيان إلي أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس على إطلاقه، لأن شريعة الإسلام عادلة في تقسيم التركات، حيث يوجد أكثر من ثلاثين حالة ترث فيها المرأة مثل الرجل، وأكثر منه، أو ترث هي ولا يرث معها الرجل شيئا. في مقابل أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل، وذلك لاعتبارات معروفة تقوم أساسا على درجة القرابة، وموقع الجيل الوارث، وأعباء تكليف الرجل بجملة من النفقات، التي تم إعفاء المرأة منها حتى وإن كانت ثرية ،وهو تقسيم ربّاني للتركات وكله حكمة وعدل ورحمة لكلا الجنسين. وقد أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم بالتزام أحكام القرآن في هذه المواريث بقوله، كما في صحيح مسلم: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله»، وحذّرنا ربّنا سبحانه في ختام آياتها من مخالفة شرعه قائلا: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

وفيما يتعلق بزواج المسلمة بغير المسلم ، قال البيان « هو مُحرّمٌ بالكتاب والسنة والإجماع، وارتباطها به يُعتبرُ زواجا باطلا، ويجبُ التفريق بينهما لقول الله عزّ وجلّ: «وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا» ، كما قال الحق تعالى في بيان عدم حلّ نساء المسلمين للكفّار «لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ»، وقال الإمام القرطبي المالكي في كتابه الجامع «وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام».

ونوه البيان الي انه في الفتاوى التونسية 2-926، أجاب مشايخ الزيتونة سنة 1950 عن حادثة زواج فتاة تونسية برجل غير مسلم، بالقول «هذا الزواج باطل بطلانا أصليا في الشريعة الإسلامية، ولا ينبغي أن يُطلق عليه اسم الزواج، بل هو سفاحٌ محْض، لأن أئمة المسلمين قد أجمعوا مِن عهد الصحابة إلى اليوم على أن من شروط صحة عقد النكاح أن يكون الزوج مسلما».

ورفض البيان بقوة موقف مفتي الجمهورية التونسية السيد عثمان بطيخ الذي تراجع فيه عن فتواه الصادرة في 2016، التي حرم فيها المساواة في الميراث قائلا: «لا يجوز الاجتهاد في هذه المسألة، لأن النص القرآني صريح في ذلك وحسم فيها.. وأوصى بعدم الخوض في هذا الموضوع لأنه سيفتح المجال للمتطرفين لاستغلاله ضد تونس بدعوى أنها خارجة عن شرع الله، والبلاد في حاجة إلى التهدئة».

كما طالب البيان السيد رئيس الجمهورية، باعتباره المسئول الأول عن رعاية الدين وحماية المقدسات إلى التراجع عن هذه الدعوة الخطيرة لتغيير أحكام الميراث القرآنية وإباحة زواج المرأة التونسية بغير المسلم، لمخالفة ذلك لشرع الله تعالى مخالفة صريحة، ومصادمته للدستور التونسي في فصله الأول بالخصوص، الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام.

وكانت مجلس جامعة الزيتونة قد أصدر بيانا حول القضية ، عقب اجتماع بمشاركة نخبة من أساتذة الجامعة فى مختلف الاختصاصات، جاء فيه أن أصول أحكام المواريث من المحكمات الثابتة بالأدلة الصريحة ولا مجال للنظر والتأويل والاجتهاد فيها ، كما أن زواج المسلمة بغير المسلم مما انعقد الإجماع على تحريمه، وأوصى البيان باستشارة أهل الاختصاص ودعوة المفتى أن يبين الحكم الشرعي بيانا صريحا فى المسالتين المذكورتين أعلاه.

المؤيدون: تلغى كل أشكال التمييز ضد المرأة وتتفق ودستور البلاد

تصدر حزب حركة نداء تونس الحاكم، صفوف المؤيدين لدعوة الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى للمساواة بين المرأة والرجل فى الميراث.

 وأكد، فى بيان له، مساندته التامة للإجراءات الهادفة إلى إلغاء كل أشكال التمييز الظالم ضد المرأة، مشدداً على تجنيده جميع إمكانياته لضمان إنجاح الحوار حولها بما يكفل ترجمة هذا التوجه الإصلاحى إلى منظومة تشريعية، تحقق الغايات الإصلاحية المستهدفة بالتوازن بين الالتزام باحترام مبادئ العقيدة الإسلامية السمحاء، وبين ما نص عليه الدستور ويبيحه الاجتهاد وتؤكده قيم العصر ومنظومة حقوق الإنسان الدولية.

بينما أصدر حزب العمال بياناً قال فيه، إن المساواة التامة والفعلية هى هدف مشروع، آن الأوان لتحقيقه بما فى ذلك المساواة فى الإرث وفى إدارة العائلة وإلغاء كل القوانين والمواد التمييزية التى تجاوزها العصر، مؤكداً أن مرجع التشريع هو الدستور والقانون الوضعى الإنسانى، وأن دعاوى اعتماد الشريعة وخلطها المقصود والتعسفى مع الدين من قِبل بعض القوى الظلامية، انحراف باهتمامات التونسيين وتخريب لوعيهم وممارستهم المدنية التقدمية من أجل مواصلة حرمان تونس ونسائها من التقدم بداعى الخصوصية الثقافية والحضارية، التى تختفى وراءها النوازع الأكثر رجعية ومعاداة للمساواة خاصة بين الجنسين.

وأشاد محسن مرزوق، رئيس حزب مشروع تونس بمبادرة الرئيس، وقال إن «السبسى» تحدث فى مقام تاريخى شاهق يندرج فى المسار التاريخى للحركة الإصلاحية العصرية التونسية ومدارس الاجتهاد.

واعتبرت الجبهة الشعبية، فى بيان لها، دعوة رئيس الجمهورية، أمراً يهم الجبهة الشعبية لكنه يظل منقوصاً ما لم يتخذ بسرعة شكل مبادرة تشريعية تكرس المساواة التامة والفعلية فى قواعد واضحة تعدل الأحكام الحالية لمجلة الأحوال الشخصية، وفى غيرها من التشريعات، مؤكدة أن المساواة ليست مسألة قانونية وتشريعية فقط، بل تبقى مبتورة ولا معنى لها إذا لم يتم تغيير المناخ الاقتصادى والاجتماعى بشكل جذرى بما يمكن المرأة من التمتع بصورة فعلية بكامل حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية.

واعتبرت راضية الجربى، رئيسة الاتحاد الوطنى للمرأة، أن المساواة فى الإرث بين الرجل والمرأة قابلة للتنفيذ طبقاً للدستور والقانون الأساسى المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، وأنه نتيجة منطقية لتطور دور المرأة فى المجتمع واعتراف بحقوقها.

ومن جهة أخرى، أصدرت 9 منظمات وجمعيات بياناً اعتبرت فيه أن دعوة رئيس الجمهورية تعد خطوة إيجابية، يجب أن تتبعها خطوات أخرى، وأنها تتناغم مع دستور البلاد الداعى صراحة إلى تكريس المساواة التامة بين المرأة والرجل، ومع المعاهدات والمواثيق الدولية التى صادقت عليها تونس، ورفعت عنها تحفظاتها، كان من أبرز الموقعين عليه النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، واللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان فى تونس، والمنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية.

المعارضون: مخالفة واضحة لنصوص القرآن القطعية

تصاعدت المعارضة بشكل كبير في أعقاب إطلاق الرئيس السبسي لدعوته، حيث نظمت جمعيتا الأئمة من أجل الاعتدال ونبذ التطرف، وهيئة مشايخ تونس، مؤتمراً صحفياً في العاصمة تونس، أكد فيه نورالدين الخادمي وزير الشئون الدينية السابق أن «الإرث في الإسلام حكم من الأحكام الشرعية، وأن القرآن الكريم فصل مسألة المواريث، وتحديدا في سورة النساء، وهي لا تقبل أي اجتهاد، وهو حكم قطعي لا يجوز المساس به أو الاجتهاد فيه من منطلق القاعدة الفقهية التي تقول إنه لا اجتهاد مع النص القرآني، وأنهم تبنوا الموقف الشرعي من قضيتي المواريث وزواج المسلمة من غير المسلم وأن موقف الأئمة من القضية لا يعني عدم قبولهم الاجتهاد في المتغيرات».

بينما انتقد حميدة سعيد مفتي تونس السابق الدعوة الرئاسية قائلا «ما كنت أحسب أن أجلس في يوم أدافع فيه عن فكرة إسلامية كانت لمدة 1400 عام من المسلمات، وإذ اليوم تسقط في المخالفات... وأن الدين الإسلامي يتضمن في شريعته على ثوابت بينة وقطعية ومجمع عليها لا مجال لتبديلها ومتغيرات يمكن للمتخصصين من العلماء الاجتهاد فيها، وأن من الثوابت أحكام المواريث التي تكفل الله بتفصيلها وبيانها في القرآن الكريم ولم يدع أمرها لأحد من البشر بخلاف بعض مسائل الدين، وأن النص القرآني المتعلق بالميراث قطعي، لا يحتمل التأويل والاختلاف، ولم يترك الباب مفتوحاً أمام الاجتهاد».

ومن جانبها وصفت الدكتورة فاطمة شقوت الأستاذة بجامعة الزيتونة والمتخصصة في علوم القرآن والتفسير الدعوة بالأمر الخطير، وكأن هناك تشكيكاً في الله عز وجل وانه أخطأ في التقسيم، وأن الميراث منظومة اقتصادية من شأنها أن تحقق العدالة الاجتماعية.

ووقعت خلال المؤتمر عريضة من 23 شخصية دينية رافضة للدعوة الرئاسية، من بينهم عمر اليحياوي شيخ جامع الزيتونة، وعبدالله الوصيف الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى.

واعتبرت أحزاب وشخصيات قومية في بيان لها شمل حركة الوحدويين الأحرار، وحركة المرابطين بتونس، وجمعية الوحدويين الناصريين، وحركة التكتل الشعبي من أجل تونس، وحزب الغد، وجمعية المقاومين وأبنائهم، وجمعية الوفاء للمقاومين، ومركز أسس للدراسات الاستراتيجية، إن المناداة بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وتشريع زواج المسلمة من غير المسلم، تطاول على القرآن وهدم لأحكامه المقدسة ظاهره تطوير للفكر الإسلامي وتحديث للمجتمع، وباطنه تخريب ممنهج للدين عامة والإسلام خاصة، الهدف منه استمالة للمرأة بقصد غايات انتخابية مفضوحة.

ومن خلال صفحته علي موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، هاجم حمادي الجبالي رئيس الوزراء التونسي السابق، دعوة السبسي باعتبارها تهديداً للسلم المجتمعي من حيث خطورة مضمونها الديني من جهة، وسلم أولويات الشعب التونسي من جهة أخرى.

وفي تصعيد خطير دعا رئيس تيار المحبة، الهاشمي الحامدي، إلي كتابة عريضة شعبية لسحب الثقة من رئيس الجمهورية وعزله بتهمة مخالفته الصريحة للفصل الأول من دستور البلاد، قائلا: «والله لن تغير هوية هذا الشعب يا باجي مهما ناورت وتلاعب بالكلمات ومهما تدثرت بدثار بورقيبة».

وشددت النقابة العامة للشئون الدينية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، في بيان لها أنه لا يجوز قطعاً إجراء أي تغيير أو اجتهاد في قضايا شرعية محسومة بنصوص قطعية الدلالة، وأن القرآن حسم بكل وضوح مسألة المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى لأن المواريث مقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال أو الزمان، وأنه لا يحل للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم إطلاقا.

«حركة النهضة»... بين التنازلات الشرعية والمكاسب السياسية

هل سعي الرئيس السبسي إلي خنق حركة النهضة التونسية، ومحاصرتها شعبيا وتفتيتها داخليا عبر هذه الدعوة؟ سؤال يتردد بقوة في الشارع التونسي، فالحركة التي فازت بـ69 مقعدا من جملة 217، واحتلت المرتبة الثانية بعد حزب «نداء تونس» الذي فاز بـ85 مقعدا ،أصبحت الآن الكتلة الأولي بالمجلس بعد انقسامات حزب  «نداء تونس»، وتشارك في «حكومة يوسف الشاهد» الحالية بثلاثة وزراء وثلاثة كتاب دولة.

وتصنف بأنها قريبة من جماعة  «الإخوان المسلمين»، خاصة وان رئيسها ومؤسسها «راشد الغنوشي» عضو بمكتب الإرشاد العالمي لجماعة  «الإخوان المسلمين».

التحليلات تشير إلي ان السبسي أراد وضعها في مأزق بين رفض الدعوة وخسارة قواعد انتخابية هامة من أصوات النساء التونسيات، أو قبول الدعوة وخسارة قواعدها والمتعاطفين مع المشروع الإسلامي، ولكن اللافت للنظر أن الحركة حتي هذه اللحظة امتلكت قدرة كبيرة علي المناورة.

ففي أعقاب الدعوة أعلن عماد الخميري الناطق الرسمي باسمها، أن الفكرة مجتمعية بامتياز، وتحتاج إلى لجنة لبلورتها، وأنها من حيث المبدأ ستناقش كتلة حركة النهضة مجلس نواب الشعب في كل القضايا التي تحال على المجلس، ولكن إلى حين عرض مبادرة تشريعية حول الفكرة التي عرضها رئيس الجمهورية يصبح من السابق لأوانه الحديث عن مواقف سياسية مع أو ضد، والتوجه العام لحركة النهضة حول هذا الموضوع هو أن هناك ثوابت متعلقة بأحكام الدستور وأحكامه في توطئته وجميع فصوله، وكذلك لا ينبغي أن تتعارض مع قيم الإسلام ومقاصده ، حتى نضمن وحدة التونسيين وعدم تقسيمهم.

بينما أعلن عبدالفتاح مورو نائب رئيس الحركة، والنائب الاول لرئيس البرلمان، أن قضية زواج التونسية بغير المسلم اختيار شخصي، وأنه يحق للمرأة أن تختار شريك حياتها حتى لو كان غير مسلم، وهو أمر مطبق دون إزالة المنشور ويرجع لإرادة الزوجة، وهي تعلم حكم الشرع في الزواج بغير المسلم، ومن حقها أن تختار تجاوزه أو احترامه، وإن تجاوزته فهذه مسألة شخصية وقضية أفراد، بينما قضية الإرث هي قانون عام سينطبق على كل الناس ويستوجب إعداد منظومة شاملة.

مشيرا إلي أن السبسي رجل حكيم ومدرك وفاهم، ودعوته وجهها إلى الإطار الديني وليس إلى الأطراف السياسية، ولكن كان عليه أن يتشاور مع الأطراف السياسية ومع الطرف الديني، لأن القضية ليست سياسية فقط.

مضيفا أن القضية مطروحة على مؤسسات الدولة، وفضيلة المفتي له رأي في الموضوع وأظنه محايدا، في حين أن القضية لم يطرحها السبسي كمشروع واضح المعالم، بل اكتفى بالتعبير عن شعار، وأن حركة النهضة ليست مفتيًا بل هي طرف سياسي يأخذ بعين الاعتبار المرجعية الإسلامية، ولا يريد الدوس على مقدسات الوطن لكنه منفتح للفهم والإدراك.

وشدد نور الدين العرباوي رئيس المكتب السياسي للحركة، علي أن ما جاء في خطاب رئيس الجمهورية مطروح للنقاش الطويـل وأن النهضة كحزب سياسـي ستكون شريكا فـيه في المجتمع ومؤسساته وتحت قبة البرلمان، وانه ينبغي علي اللجنة التي تم تعيينها في موضوع الحقوق الفردية، الاتصال بكل المعنيين والأخذ في الاعتبار رأي جميع التونسيين.

مؤكدا علي أن الحركة لا ترى أي إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أن هذه المسألة ستطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه.

تجاوز ثوابت العقيدة.. اختبار تاريخى للأزهر

لم يصدر عن الأزهر الشريف موقف رسمى من بيان دار الإفتاء التونسية، المؤيدة لدعوة الرئيس التونسى للمساواة بين المرأة التونسية والرجل فى الميراث، والسماح بزواجها من أجنبى غير مسلم.

ولكن فضيلة الأستاذ الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر الشريف، أعلن عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك ردًا على البيان ودعوة السبسى تحت عنوان « تبديد لا تجديد» ان « دعوات التسوية بين الرجل والمرأة فى الميراث تظلم المرأة ولا تنصفها وتتصادم مع أحكام شريعة الإسلام، فالمواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان، وهى من الموضوعات القليلة التى وردت فى كتاب الله مفصلة لا مجملة، وكلها فى سورة النساء، وهذا مما أجمع عليه فقهاء الإسلام قديمًا وحديثًا، ودعوات التسوية بين النساء والرجال فى الميراث بدعوى إنصاف المرأة هى عين الظلم لها لأن المرأة ليست كما يظن كثير من الناس أنها أقل من الرجال فى جميع الأحوال، فقد تزيد المرأة على نصيب رجال يشاركونها نفس التركة فى بعض الأحوال كمن ماتت وتركت زوجًا وأُمًّا وأخًّا لأم فإن الأم نصيبها الثلث بينما نصيب الأخ لأم السدس أى أن الأم وهى امرأة أخذت ضعف الأخ لأم وهو رجل، كما أنها تساويه فى بعض المسائل كمن ماتت وتركت زوجًا وأُمًّا فإن نصيب الزوج نصف التركة ونصيب الأم النصف الآخر فرضًا وردًا، كما أن فرض الثلثين وهو أكبر فرض ورد فى التوريث لا يكون إلا للنساء ولا يرث به الرجال فهو للبنات أو الأخوات فقط، فمن ماتت وتركت بنتين وأخًّا شقيقًا أو لأب فللبنتان الثلثان وللأخ الباقى وهو الثلث أى أن البنت تساوت مع الأخ وهناك العديد من المسائل التى تساوى فيها المرأة الرجل أو تزيد عليه وكلها راعَى فيها الشرع بحكمة بالغة واقع الحال والحاجة للوارث أو الوارثة للمال لما يتحمله من أعباء ولقربه وبُعده من الميت وليس لاختلاف النوع بين الذكورة والأنوثة كما يتخيل البعض».

 كما هاجم المطالبة بإباحة زواج المسلمة من غير المسلم قائلاً: «إن زواجًا كهذا الغالب فيه فقد المودة والسكن المقصود من الزواج حيث لا يؤمن غير المسلم بدين المسلمة ولا يعتقد تمكين زوجته من أداء شعائر دينها فتبغضه ولا تستقر الزوجية بينهما، بخلاف زواج المسلم من الكتابية لأن المسلم يؤمن بدينها ورسولها وهو مأمور من قبل شريعته بتمكين زوجته من أداء شعائر دينها فلا تبغضه وتستقر الزوجية بينهما، ولذات السبب منع المسلم من الزواج من غير الكتابية كالمجوسية لأنه لا يؤمن بالمجوسية ولا يؤمر بتمكينها من التعبد بالمجوسية أو الكواكب ونحوهما فتقع البغضاء بينهما فمنع الإسلام هذا الزواج، ولذا فإن تدخُّل غير العلماء المدركين لحقيقة الأحكام من حيث القطعية التى لا تقبل الاجتهاد ولا تتغير بتغير زمان ولا مكان وبين الظنّى الذى يقبل هذا الاجتهاد هو من التبديد وليس التجديد».

وأدى ذلك إلى هجوم غير مباشر على الأزهر الشريف، من قبل قياديين فى الحزب الحاكم فى تونس «حركة نداء تونس»، حيث قال برهان بسيس القيادى بالحزب، «إنه من المفيد التذكير بأن نقاشنا التونسى الداخلى يظل ظاهرة صحية ومطلوبة مهما بلغ حجم اختلافاتنا تجاه قضايا مثيرة للجدل مثل المساواة فى الإرث أو زواج المسلمة بغير المسلم.. وإن مقترحات السبسى قضايا تهم مجتمعنا التونسى فقط وليس من حق أحد الدخول فى هذا النقاش.

عثمان بطيخ.. «الشيخ» على خطى السلطان

 لا تحمل الصفحة الرسمية لديوان الإفتاء بتونس سيرة ذاتية للشيخ عثمان بطيخ، مفتي الجمهورية، إلا إشارات بسيطة تشير إلي ارتباطه المعنوي بجامع الزيتونة، واتسامه بالاعتدال، وأنه التحق بالتعليم الثانوي بمعهد الزيتونة، وواصل تعليمه العالي في المدرسة العليا للقانون، وعمل بعدها قاضيا عدليا بالمحكمة الابتدائية، ثم التحق بكلية الشريعة وأصول الدين وحصل فيها علي الإجازة، فالدكتوراه، وتولي بعدها تدريس مادة الفقه المقارن بالكلية.

وفي عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، تولي بطيخ منصب المفتي الجمهورية التونسية عام 2008 واستمر به بعد الثورة، حتي عزله الرئيس السابق المنصف المرزوقي بطيخ عام 2013، بعد إعلان بطيخ رفضه لدعوات «الجهاد» في سوريا لأنها ليست أرض جهاد لأن شعبها مسلم والمسلم لا يجاهد المسلم، ووصفه النقاب بأنه لباس طائفي. 

ثم عاد في عهد الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي ليتولي وزارة الشئون الدينية في حكومة الحبيب الصيد عام 2015، حتي عينه السبسي كمفتي مرة أخرى عام 2016، وعرف خلال هذه السنوات بمعاركه مع التيار الإسلامي في تونس ممثلا في حزب النهضة والسلفيين، كما هاجم زيارة للداعية وجدي غنيم إلى تونس داعيا إلى «تجنب استضافة الدعاة المتشددين تجنبا لإثارة الفتنة في المجتمع التونسي».

وأثار بيان المفتي عثمان بطيخ بتأييد دعوة الرئيس التونسي بمساواة المرأة التونسية بالرجل في الميراث، وإباحة زواجها من الأجنبي غير المسلم، حملة هجوم شديدة عليه.

حيث ارتفعت الأصوات تطالب بإقالته أو تقديم استقالته، وقال الكاتب العام لنقابة الأئمة التونسية الفاضل عاشور، في تصريحات له إن ديوان الإفتاء «دخل في حملة انتخابية مبكرة لجهة سياسية معينة،...وأنه لا يجوز تحويل المؤسسة الدينية إلى منبر سياسي...وأننا طالبنا دار الإفتاء بمراجعة موقفها، أو أن يقدم فضيلة المفتي عثمان بطيخ استقالته، إذ عليه ألا يبيع آخرته بعرض من الدنيا».

ووصفه البعض بـ«مفتي السلطان»، وان بيانه مثير للاشمئزاز في مضمونه التملقي، ومناقض بشكل كامل لموقف سابق، وأنه متقلب في مواقفه ويجب عزله، وأن موقفه كان يجب أن يكون موقفا رصينا ومسئولا يرحب فيه بطرح رئيس الجمهورية موضوع المساواة في الإرث للتفكير، مع الحرص بأن تكون محصلة الاجتهاد في هذا الباب غير متعارضة مع الإرادة الإلهية.

وزاد من حدة الغضب أن المفتي أعلن في مايو 2016 في تصريحات له، ردا علي تقدم النائب البرلماني عن الكتلة الديمقراطية الاجتماعية مهدي بن غربية، بمبادرة تشريعية جديدة تدعو للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة عبر تعديل قانون الأحوال الشخصية بأن «طرح موضوع المساواة في الميراث ليس مناسبا اليوم أو غدا...وأنه لا مجال لتغيير القرآن أو تحريفه.. وأن الآية القرآنية المتعلقة بالمواريث بينة وصريحة، ولا تحتمل التأويل أو الاجتهاد وواضحة في قوله تعالى «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، ولا مجال للاجتهاد باعتبار أن المسألة محسومة في العالم الإسلامي.

وأنه يجب ضرورة احترام الشريعة، لأن الله قام بتولي قسمة الميراث تفاديا لما قد يحصل من خلافات وإشكاليات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل