المحتوى الرئيسى

ترك ابنا معاقا و«بنت عايزة الستر».. سلك كهرباء ينهي حدوتة «تاجر السعادة» ببولاق

08/19 14:22

رجل ذو 68 عاما، لم يقنط أبدا من رحمة الله، الذي لا ينسى عباده ويرزقهم ولو ما يكفيهم من شحيح القوت، كان يبيع السبح بمنطقة الحسين، حتى صادف عاملا بمطعم، رق قلبه لحاله فتوسط له قبل 4 سنوات للعمل معه بمطعم شهير، حتى وهن الرجل الذي شارف على السبعين من العمر، فاصطحبه العامل لمساعدته على عربة مكرونة يسترزق منها بشارع ترعة الزمر ببولاق الدكرور، حتى شاء القدر أن يموت عم "حسن صقر" صعقا بالكهرباء وهو يغسل العربة محل عمله.

مأساة عم حسن ما زالت غنية بالإنسانية المدمية للقلب، التي ربما تدفع كثيرين للخجل من أنفسهم من كثرة النعم التي هم فيها، وربما لعدم سعيهم لآخر نفس كما فعل الرجل الطيب، وأخيرا الخجل من عدم البحث عن أمثاله للالتفات إليهم ومساعدتهم في تلك الحياة الطاحنة التي لا ترحم.

"الرجل الشقيان" توفيت زوجته قبل زمن، تاركة له بنتين وولدين أحدهما "أرزقي" ينظف لهذا محله، يمسح سلم عمارة لذاك، يحمل مواد بناء "يوم شغال وعشرة لأ" كما يقولون، والثاني مأساة تتنفس لمدة 29 سنة، إذ إنه شاب قعيد مبتور القدم اليسرى، يعاني من العمى بإحدى عينيه والثانية ضعيفة، علاوة على أمراض الالتهاب الحاد بالبنكرياس وحصوات المرارة، بينما نجح عم "حسن" في أن يزوج ابنته الكبرى وكان يسعى لتجهيز الثانية لسترها كما يقولون، لكنه مات قتيلًا لقاء لقمة العيش.

وفي شارع ترعة الزمر بجوار موقف عربات نصف نقل المتجهة بالبشر إلى منطقة صفط اللبن، ما زالت عربة المكرونة التي كان الرجل العجوز يعمل عليها قائمة، نظيفة تماما كما تركها، وما زال سلك كهرباء الموت موصلا بها، وسط رهبة مطبقة وكأنها ذكرى الموت ودموع الحسرة في قلوب العاملين بالمكان، رغم كثرة الحركة ومراجيح الأطفال الذين كانوا يشترون مكرونة "عم سعيد".

ففي كشك بقالة "حنكش" المقابل العربة المهجورة، يقول أحمد السيد صاحب الكشك: "عم حسن راجل طيب وغلبان، كبير في السن وحركته على قد حالها، بقاله شهر واحد بس شغال هنا، لكن سعيد صاحب العربية يعرفه من زمان وبيعطف عليه وبيشغله على قد مقدرته".

وتابع: "الراجل العجوز بيشتغل 12 ساعة من الظهر لحد نصف الليل، وآخر اليوم بيغسل العربية، لكنه نسي فصل سلك الكهرباء الموصل إليها قبل تنظيفها للمرة الأخيرة، وكان واقفا على ماء والحوائط مبلولة وسرت الكهرباء وصعقته، مات لوحده شقيان الله يرحمه، ولحد تاني يوم لما الشرطة جت الصبح بعد رفع الجثة بالليل كانت العربة مليئة بالكهرباء، كلما وضعوا مفك اختبار الكهرباء بمكان بها كان المفك ينير.. هو قدره كده ولله الأمر" اختتم صاحب الكشك حديثه.

وعلى مقعد خشبي مقابل العربة شوهد الأسطى علاء مشرف موقف صفط لـ«التحرير» قصة عم حسن مع "سعيد" بائع المكرونة، قائلا: "عم حسن أغلب من الغلب وأطيب من الطيابة كان بيبيع سبح في الحسين لما قابل سعيد، وعرف ظروفه وعرض عليه يشتغل معاه بأجر بدل موضوع السبح دا، ومن ساعتها من أربع سنين شغله عامل نظافة في مطعم كبير وبعدين جابه على عربية المكرونة يشتغل عليها على قده يغسل صحون ويغسل العدة والعربية آخر النهار".

 ويتابع «كان فيه طيبة نادرة عمره ما غلط في حد ولو حد غلط فيه يرد عليه باحترام وطيبة، كل الناس كانت بتحبه، وسعيد كان بياخده بيته يقعد شوية، حتى أم سعيد جت جري لما عرفت إنه اتكهرب وفضلت تعيط وتترحم عليه من غلبه وطيبته».

ورفض سعيد صاحب عربة المكرونة الحديث، ليس خوفا من أحد حسبما تيقنا، إذ لم تتهمه أسرة الفقيد بشيء، ولكن انفعالا وحزنا ومحبة في "عم حسن" ورأفة بظروف أسرته، وقال لـ"التحرير": "مش أنا اللي لقيته وشغلته ربنا هو اللي بعته في طريقي، أدلكم على أهله، واللي فعلا عنده رحمة ومهتم يساعدهم، دا راجل شقيان على ولد كفيف وبنت متجوزتش وحتى ابنه الكبير على باب الله، وساكن إيجار محتاجين أكل وشرب وعلاج مش كلام ومانشيتات ربنا أعلم بحاله وحالهم الله يرحمه".

وتبين أن "عم حسن" كان يسكن فى عقار متواضع بمنطقة فيصل، لكن تبين عدم وجود أولاده، فمحمد نجله الأكبر، 35 سنة، أخذ شقيقه إسلام، 29 سنة، إلى المستشفى يحاول إيداعه للعلاج دون جدوى، إذ ترفض المستشفيات استقباله، رغم تدهور حالته بسبب الالتهاب الحاد بالبنكرياس والحصوات علاوة على كون إسلام عاجز مبتور الساق اليسرى ويعاني عمي إحدى عينيه وضعف بالثانية.

 ويقول "محمد" الواقف بشقيقه على باب المستشفى والمتحرك فى أروقتها للبحث عمن ينجد أخاه: «أمنا ميتة وأبونا هو اللي كان ساندنا، ساكنين إيجار جديد بعد ما صاحب البيت القديم افترى علينا وطردنا من شقتنا الإيجار القديم بمنشأة ناصر، ودلوقتي إحنا في سكن إيجار جديد غالي بيخلينا كل شوية فى مكان حسب حالنا، وجيرانا القدام الدولة سكنتهم في مساكن تحيا مصر، هما طردونا بس لسه معانا عقد الإيجار مش عارف أعمل إيه نفسي أعالج أخويا ونلاقي سكن مش غالي، وأستر أختي اللي أبويا كان بيشقى علشان يجوزها "دينا 20 سنة».

وسأل محمد «التحرير»: "مافيش معاكو صورة لوالدى وهو متوفى، أنا ماشفتوش، وهو ماعهوش تليفون فماكانوش عارفين يوصلولنا ونشروا صورته وهو ميت على النت، لحد لما واحد معرفة شافها ووصل لنا، إحنا استلمناه من المشرحة بعد يومين من موته ودفناه علطول ماشفتوش».

وشرح الابن الأكبر أن أباه كان "ترزيا" وصفه بالشاطر، يقوم بتطريز العبايات والملابس العربية، وخاصة الليبية منها، محددًا: «لبس شيوخ القبائل والوزراء والليبيين الأغنياء اللى بيطلعوا بيها فى التليفزيون»، لكن للأسف السياحة وقف حالها وحاله معاها، فحاول يبيع بخور وسبح بس ماعرفش يثبت فى مكان، مستطردًا: «منهم لله كانوا عايزين يدفعوه أرضية مكان وقفة رجله وطبعًا ماعرفش، لحد لما قابل "عم سعيد" وشغله عامل نظافة فى مطعم، وبعدين على عربية».

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل