المحتوى الرئيسى

حكايات بطل.. من داخل مقابر "منسي" في ذكرى الأربعين

08/17 18:01

كتبت- نانيس البيلي: صديقه: قال لزملائه في سيناء "مش عايز أتكفن ادفنوني زي ما أنا وماتعملوليش عزاء" صوب مقابر العاشر من رمضان بمنطقة الروبيكي، الواقعة على طريق مصر الإسماعيلية الصحرواي، انطلقنا في تمام الثالثة عصر الأربعاء، برفقة اثنين من أصدقاء وزملاء الشهيد "أحمد صابر منسي"، لزيارة قبره في ذكرى الأربعين.. يقول زملائه إن زيارتهم للشهيد اليوم دون مناسبة، لأنهم يفعلون ذلك بشكل شبه يومي منذ استشهاده، كما أنهم ينفذون وصيته بعدم إقامة عزاء أو ذكرى أربعين له "كان قاعد مع ضباط وقالهم أنا مش عايز أتكفن، ادفنوني زي ما أنا ومحدش يعملي عزا" يصف الرائد "محمد وديع" حديث منسي لزملائه خلال خدمته بسيناء قبل فترة قصيرة من استشهاده. "ده قرار إنه مش هيعدي كده، مش عشان هو منسي، عشان رفض فكرة إننا نبقى رقم ونتنسي" يقول "وديع" عن سر تكثيف زملائه نشر قصص بطولته وحياته والتعامل مع استشهاده بشكل مختلف عمن سبقوه في نيل الشهادة، ويضيف زميل آخر لمنسي برتبة مقدم، متحفظًا على ذكر اسمه لوضعه كقائد برفح وحساسية كشف هويته أمام التكفيريين، أن توثيق بطولة "منسي" ستكون بداية حقيقية لتأريخ قصة كل شهيد يجود بدمائه دفاعًا عن أرض الفيروز. صديقه: كان يتمنى الشهادة وهو يقاتل لإلحاق أكبر خسائر بالعدو 40 كيلومترا هي المسافة بين مقابر العاشر من رمضان ومنطقة مصر الجديدة بالقاهرة، طوال الطريق لم تنقطع الأحاديث بين الرجلين عن "الشهيد الخالد"، يتذكر "وديع" أمنية "منسي" بنيل الشهادة وهو يقاتل في المعركة وألا يموت غدرا بعبوة ناسفة "كان بيدعي ويقول يارب لما أموت ما أموتش بعبوة، كان عايز يموت بيقاتل زي ما استشهد، عشان يوقع منهم ناس ويبقى وهو بيموت بيخسّر الإرهابيين عدد". يلتقط أطراف الحديث زميله، ويضيف "ميموتش الموتة دي غير بطل مقبل على الشهادة"، موضحًا أن قائد الكتيبة يمكنه البقاء في مكتبه وتحريك الجنود "ده ميري وقانوني واللي مطلوب منه" بينما بسالة "منسي" جعلته يتقدم صفوف المعركة ويقاتل كتفًا بكتف وسط جنوده وضباطه، يقطع حديث الرجلين اتصال هاتفي من إيطاليا، لضابط سابق بالصاعقة من زملاء الشهيد، يسأل عن سباق الجري "الضاحية" الذي ينظمه زملاؤه لـ"منسي" خلال الأيام القادمة ويطلب من صديقه "وديع" الاحتفاظ بـ"تيشرت" السباق الذي يحمل صورة الشهيد لحين عودته بعد أيام. قرابة 35 دقيقة استغرقناها للوصول إلى مقابر العاشر من رمضان، من مدخل خاص دلفنا، مقابر نظيفة وكبيرة المساحة، تقع مدافن "آل منسي" بمنتصف أحد شوارعها، تبدو حديثة العهد حيث كُتب أعلاها تاريخ 2010، وبحسب زملائه مدفون بها "منسي" ووالده فقط، داخل المقبرة قبعت لافتة مميزة مستندة على منتصف أحد الجدران، وتحمل اسم الشهيد ومرسوم عليها شعار "فرقة السيل" والتي أهداها لروحه زميله القبطي "جون لمعي" بعد أسبوع من دفنه. أمام بوابة المقبرة الموصدة بـ"جنزير" وقف ثلاثتنا نقرأ "الفاتحة" على روحه الطاهرة، ولدقائق مكثنا صامتين نتمتم له بأدعية الرحمة، قطع حالة السكون حديث صديقه "وديع" قائلاً إن عدد من زملائه أخبروه بقدومهم آخر اليوم لزيارة قبره "بعد ما يخلصوا شغلهم" وإن هناك آخرون زاروه في الصباح الباكر كما اعتادوا "زي ما قلتلك، أصحابه مفيش يوم مبيرحوش يقروله الفاتحة، وبينفذوا وصيته إن مفيش عزاء ولا أربعين"، مشيرا إلى أن مفاتيح المقبرة مع شقيق الشهيد الرائد رضا، وأنه ربما يأتي آخر اليوم لزيارته. صديقه: يوم دفنه كان مهيبا وأكثر من 1000 بني آدم التفوا حول قبره لم تغب مشاهد الجنازة المهيبة للشهيد عن ذاكرة أصدقائه، يتذكرها كأنها الأمس، فيشير "وديع" بينما نجلس أمام مقبرة الشهيد، إلى العدد الهائل من الحضور الذين تخطوا المئات وأغلقوا الشوارع المحيطة بالمقبرة "أكتر من ألف بني آدم كانوا متروسين في طرق المقابر"، ويروي أن الشقيق الأكبر للشهيد عجز عن الدخول إلى المقبرة لحضور دفنه من العدد الكثيف داخل وخارج المدافن "خدته ونزلته بنفسي تحت عند أوضة الدفن لحد الجثمان ما جه". يصمت قليلا ويقول إن تعبيرات الوجوه المختلطة ما بين الحزن وعدم تصديق الفاجعة لم تغب عن مخيلته إلى الآن "تعبير الناس كان صعب، محدش كان مصدق ولا مستوعب إن منسي مات"، ويضيف أنه يتذكر جيدا تعبيرات وجه زميلهم وهو يشاهد جثمان الشهيد "منساش شكل وش المقدم يوم مالتلاجة اتفتحت على منسي وهو ملفوف بالعلم"، يلتقط زميله أطراف الحديث ويوضح إن هول المصاب أفجعه رغم اعتياده على مشاهدة جثامين الشهداء بحكم خدمته بسيناء "مكنتش متخيل إن منسي يموت، محدش كبير على الموت طبعًا، بس الموضوع كان صعب لما حصل". قبل مغادرتنا للمقبرة، شرح الصديقان لـ"مصراوي" تفاصيل دفن الشهيد "منسي" داخلها بحكم حضورهما المراسم، فيشير "وديع" إلى دفنه داخل حجرة واحدة مع والده طبيب الأطفال الذي توفى قبله بسنوات قليلة، وأن زملاءه وأصدقاءه اقترحوا على أسرته أن تغلق غرفة الدفن على الشهيد ووالده فقط ولا يدفن غيرهما معهما، على أن تفتح الغرفة الآخرى المخصصة للرجال لدفن الآخرين، ويوضح زميله أن المدافن يصلون إليها عن طريق سلم يتوسطها، وأنها مكونة من غرفتين للرجال على اليمين ومثلهما للسيدات بالجانب الأيسر. "معلش يا فندم طولنا، بنشرحلها بس" قالها "وديع" مخاطبًا الشهيد منسي داخل مقبرته، ومداعبًا "محررة مصراوي" التي طلبت البقاء لدقائق أخرى وأخذت تسترسل في الأسئلة، وعن سبب ذلك الاقتراح، أوضح أنه باعتباره شهيد سيبقى جثمانه كاملاً "لأن الراجل ده بجسمه مش هينفع نفتح عليه"، وتابع زميله أن بطل الصاعقة إبراهيم الرفاعي، شهيد حرب أكتوبر، دفن بنفس الطريقة "مدفون بأفروله ومدخلوش حد بعديه أوضة الدفن". بعد حوالي 40 دقيقة، غادرنا مقبرة "منسي"، كانت رحلة العودة، تواصلت حكايات سيرة الشهيد، يشدد على زملائه أهمية كتابة وتوثيق حياته وبطولته لتخليد معركة استشهاده والمرحلة الحالية التي تعيشها مصر في محاربة الإرهاب الخسيس "منسي بالنسبة ليا رامي حسنين وخالد مغربي وشبراوي وغيرهم، كل دول بالنسبالي منسي خلدهم" يقول "وديع"، ويضيف زميله أن توثيق سيرة منسي على لسان المقربين سيحكي مرحلة كاملة مثلما وثق إبراهيم الرفاعي أحد أهم المعارك البطولية في تاريخ مصر "زي ما الرفاعي أرّخ لشهداء أكتوبر كلهم". زميله: التسجيل الصوتي اللي اتنشر لملازم أول لم يُصَب.. ومنسي صوته فيه بحة مميزة يصمت الرجلان قليلاً، قبل أن يتابع "وديع" متحمسًا أن القدر الإلهي تدخل في تسليط الضوء على اسشتهاد صديقهم من خلال مقطع التسجيل الصوتي الذي نشر خلال المعركة ونُسب خطأ له وما تلاه من بيان المتحدث العسكري الذي نفى صلته بمنسي "الفويس اللي اتنسبله وهو مش بتاعه ده حكمة من ربنا عشان استشهاده يوصل للناس، والناس تبدأ تدور عشان تعرف مين هو منسي"، يضحك زميله ويقول "أول ما نزلوا التسجيل ده على فيس بوك ده وسمعت الصوت قلتلهم أقسم بالله مش هو"، يلتقط أنفاسه ويضيف "قعدت أضحك لأني متأكد 100% مش هو، أنا حافظ صوته". يروي زميله أنه خدم معه لـ4 سنوات داخل كتيبة واحدة، وأن "منسي" كان لديه نبرة صوت مميزة لا تخطئها أذن من يعرفه جيدا "الظباط اللي اتكلموا وأكدوا إنه منسي لا يعرفوه ولا يعرفوا صوته".. وكشف عن تفاصيل واقعة التسجيل الخاطيء، قائلاً إنه قابل الضابط صاحب ذلك التسجيل بشمال سيناء بعد أيام من الهجوم الإرهابي، وأنه برتبه ملازم أول دفعة "107"، ووقت المعركة كان بمبنى آخر مجاور للمبنى الموجود به "منسي"، ولم تنل منه أي إصابات "لما قابلته كان لابس ملكي وكان سليم تمامًا". وعن كواليس التسجيل الصوتي، يوضح على لسان الضابط صاحب التسجيل "لم يكن بالمبنى غيره، بعدما استشهد أغلب زملائه بعد أكثر من ساعة من القتال، والتكفيريون واصلوا الهجوم بأعداد كبيرة جدًا"، يلتقط أنفاسه ويكمل أن الضابط لم يكن لديه جهاز لاسلكي يبلغ من خلاله العمليات فكان هناك لاسلكي واحد بحوزة قائد الكتيبة وهو الشهيد منسي، وأنه في نفس الوقت كان يفصله عن مركز العمليات بمدينة العريش مسافة كبيرة تبلغ حوالي 50 كيلومترا، لذلك اتخذ قرارا لحظيًا بالإبلاغ عن طريق برنامج "واتساب": "بعت على جروبات ضباط شمال سيناء إن أي حد يوصله الكلام ده يبلغ العمليات تبعتلهم دعم". الحديث الآن عند "وديع"، يُكمل "الضابط تحدث خلال التسجيل الصوتي بهدوء وثبات رغم المشاهد المروعة التي عايشوها لأكثر من ساعة ونصف قتال "ناس قليلة جدا بتتتكلم بالطريقة الثابتة والأعصاب الهادية بتاعة الضابط في المواقف دي، كان هادي وراسي وعارف إنه كده كده رايح وهيستشهد ومش مهزوز"، يصمت قليلا ويضيف أن المقاتل داخل المعركة يعايش هجوما شرسا من عدو جبان وغادر يستخدم أسلحة ثقيلة تفقد الإنسان العادي ثباته "مفيش حاجة اسمها أدوار وإن القائد ولا المجند هو اللي يبلغ، دي حرب فيها معركة شرسة، الواحد بيبقى شايف الموت بعينيه". ويضيف زميله أن القيادات استجوبت جميع أفراد الكتيبة بعد معركة كمين "البرث" خاصة حول التسجيل الصوتي "كل الناس اتسألت"، وأن الضابط بنفسه أبلغ قياداته أنه صاحب التسجيل "كمان زمايله عارفين صوته، وهو بعت التسجيل على واتساب برقمه، فحتى لو مقالش كان هيتعرف"، ويضيف وديع أنه بحكم معرفته بالشهيد منسي فإنه في حالة بقائه على قيد الحياة واضطراره لإرسال تسجيل صوتي سيكون أكثر ثقة وثباتًا رغم هدوء الضابط "منسي كان هيتكلم بكلمات أكثر هدوءً في الموقف ده". "منسي كان مأهل حمزة لتقبل فكرة الاستشهاد" يصف "وديع" مشهد صعود ابن الشهيد على عربة المطافئ بجوار جثمان والده الشهيد مرتديًا الزي العسكري، ويضيف أنهم لا يعلمون صاحب فكرة ارتدائه "أفرول" القوات المسلحة، لكن صديقهم الشهيد كان قريبًا جداً منه طوال حياته ويزرع داخله الانتماء وحب مصر، بجانب تحفيزه على ممارسة الرياضة "كان بيقوله لازم تبقى بطل"، ويكمل زميله قائلاً "دي حاجة مش غريبة، الراجل ده مختلف وكل مختلف هتلاقي ابنه طلع مميز". "مش عاوزين حمزة يكبر قبل الأوان" يقول "وديع" عن انتقادهم لظهوره المتكرر ببرامج التوك شو وتكريمه من الأندية والمؤسسات، بالإضافة إلى تعامل أسرته وعائلة والده معه بعد استشهاد أبيه، فيروي أنهم أضافوه على جروب خاص بضباط الصاعقة من زملاء الشهيد "اسمه رجالة منسي" يستهدفون من خلاله تنظيم فعاليات وأعمال خير للشهيد "قعدنا نهزر معاه شوية وفي مناسبة طلعناه عالمسرح وقعدنا نقوله بتجيب كام ضغط يا حمزة" قبل أن يخرجوه من "الجروب" لإبعاده عن الضغط النفسي المرتبط بذكرى زملائه مع والده، ويضيف زميله أنهم يريدون له حياة طبيعية كما أطفال سنه.. "مش عايزين نكبره بدري، هو غصب عنه هيكبر قبل الأوان لأنه أكبر إخواته وكام سنة هيبقى سند مامته" يقول "وديع". صديقه: نخطط لرسم جرافيتي لـ"منسي" بجميع المحافظات.. وفعالية "ضاحية" تنتهي أمام قبره لقراءة الفاتحة له أمام كوبري أكتوبر بمدينة نصر، انتهت رحلتنا القصيرة بصحبة زميلي "منسي"، يشير صديقه "وديع" إلى لافتة كبيرة معلقه أعلى الكوبري تحمل صورة الشهيد ومن ورائه رمز فرقة "السيل"، يضيف أنه علقها بنفسه قبل أسبوع، لحين رسم عدد كبير من "الجرافيتي" له بمحافظات مصر، وأنه اتفق مع زملائه وسيبدأ تنفيذها بعد أيام قليلة، بجانب تنظيم "إيفنت ضاحية" يرتدي خلالها المشاركون لافتات تحمل صورته وتنتهي عند قبره لقراءة الفاتحة لروحه، نلتقط صورا للشهيد تعلوها أحد أبيات الشعر "سلام على من يقاتلون في الليل، وفي الصباح بالأكفان قد عادوا".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل