المحتوى الرئيسى

مواجهة الفكرة بالفكر.. هى طوق نجاتنا الوحيد والأخير

08/16 15:26

حين قرر النبى «إبراهيم عليه السلام» الثورة على قومه، كان يتوقع أن منطق إعمال العقل سوف يتغلب على معتقداتهم الموروثة الخاطئة؛ فقام بتحطيم أصنامهم فيما عدا أكبرهم حجما ووضع الفأس على كتفه، لعلهم ينطقون بالحق ويعترفون بأنهم على ضلال، ولكن جاءت النهاية مخيبة لآماله وأتهموه بالكفر والتجرأ على آلهتهم المقدسة!

بهذه القصة التى تحولت إلى أشهر قصص الأولين فى تاريخ الأديان السماوية وحتى الموضوعة، وفى تاريخ من لا ينتمى إلى دين، بدأت أحداث رواية «مريم التجلى الأخير» للكاتب «إبراهيم عيسى»، الصادرة فى طبعتها الأولى عام 1993عن دار الهلال، ثم صدرت فى أحدث طبعاتها عن دار رواق للنشر عام 2010.

بدأ الكاتب بالقصة السابقة ولكنه وضع لها نهاية مختلفة؛ فلم يلقي القوم ب«النبى إبراهيم»  فى النار بل وقفوا ساخرين يضحكون ويتهمونه بالجنون، فأصنامهم سليمة لم تتحطم!

ومن هذه النهاية يقف بنا الكاتب أمام أول أهداف الرواية؛ فجمود الفكر الدينى والأخلاقى ليس فى مظاهر الدين أو بالمعنى الأدق فيما نعبد، بل فى العقول التى تفكر وتتقبل وتنفذ ما تتعلمه وتتلقاه، بالإضافة إلى أن تلك النهاية وضعتنا أمام الواقع الذى مازلنا نحياه حتى الآن؛ بالرغم من التقدم الذى يشهده العالم  نأتى بأخطاء الأولين إلى حد التفوق عليهم، وإتيان ما هو أسوأ؛ وهو التعود والتعايش مع الأفكار الخاطئة وخلق الأعذار والمبررات لارتكابها ووجودها فى المجتمع ، حتى أصبحت محاولات المناقشة وحق الانتقاد تجاوز وتعدى على الحريات لدى البعض.

جاءت الرواية فى مجموعة من الفصول التى حرص الكاتب أن يبدأ كل منها بأبيات من قصائد متنوعة للشاعر الراحل «محمود درويش»؛ مما يعطى بعد آخر ونظرة أعمق للفصول من محتوى الأبيات.

تبدأ أحداث الرواية بالبطل يصف رحلته اليومية من المنزل إلى المجلة التى يعمل بها، «إبراهيم» الشاب الصحفى صاحب الجذور والنشأة الريفية التى تطارده فى كل خطوة يخطوها داخل المدينة، ما يأخذنا إلى نقطة هامة فى الرواية، وهى ارتباك السرد فى بعض المواقف؛ بمعنى أن يقف القارئ لحظة يفكر أين نقف الآن؟ فى قريته الصغيرة أم فى المدينة؟  

فالكاتب يتنقل بين الذكريات والواقع فى كل موقف يقابله، فيعقد مقارنة بين حياته الريفية وبين المدينة، ليعبر الكاتب عن التردد والتشتت الذى يصيب كل منا فى بداية حياته بين الصورة المثالية التى يكتسبها من التربية البكر وبين الواقع الذى يواجهه  فى حياته العملية ، حتى تكتمل الشخصية والمبادئ التى تلازمه لآخر لحظة يحياها.

حين يبدأ البطل فى وصف مقر وطقوس العمل داخل المجلة، نتوقع أننا بصدد صورة مختلفة وفقا لطبيعة العمل الصحفى الشهيرة؛ النشاط والعمل الدائم والبحث عن كل جديد فى كل مكان وكشف الحقائق، لنصطدم بواقع مختلف؛ فهى مؤسسة كباقى مؤسسات الدولة التى أصابتها أمراض المحسوبية  والصراع  حول المناصب بالإضافة إلى الروتين اليومى، حتى ملامح العاملين بها تكاد تكون واحدة فأبطال الرواية كثيرون بأسماء وصفات مختلفة، لكن بطبيعة متشابهة فيما يخص السعى نحو المنصب مهما كان الثمن، وتقديس معتقداتهم  وانتهاك حقوق الغير، فقد عبر الكاتب من خلالهم عن صورة متكاملة لوجوه المجتمع المختلفة.

من أهم أبطال الرواية «مى الجبالى»، زميلة العمل والتى يجمعها بالبطل قصة حب يقف أمامها الكاتب كثيرا، فهذه الفتاة المتحررة استطاعت أن تخلق بداخل البطل الرابط  الحقيقي الوحيد بينه وبين المدينة والعمل أيضا، كما وضعته أمام حقيقة نفسه؛ فهو لا يخلو من الجمود والتشدد تجاه بعض الأفكار، ويكتفى بالصمت والبعد والنفور من ما يرفضه من أفكار وشخصيات، دون سعى حقيقي للتغيير على أرض الواقع.

كما ساعدة هذه العلاقة البطل فى اكتشاف حقائق حتى عن نفسه، فهو لا يستطيع أن ينفصل عن الواقع من حوله أو يقاطعه، فهو جزء لا ولن يتجزأ من المجتمع مهما ساءت أحواله، وأضاف الكاتب من خلال هذه العلاقة نقطة هامة؛ وهى ضرورة أن يتصالح الإنسان مع مشاعره وتجاربه مهما كانت نهايتها.

تستمر يوميات «إبراهيم» بنفس الجمود والرتابة حتى يكلف بتغطية حادثة تجلى السيدة «مريم العذراء» فى كنيسة بمصر القديمة، لنقف طويلا أمام هذه الحادثة؛ فهى من الأحداث التى بقدر ما يتمسك بها رجال الدين يتشبث بها رجال السياسة والحكم إلى حد اختلاقها فى بعض الأحيان؛ لعلها تشغل المواطن عن معاناته  اليومية، وهذا ما يكشفه البطل من خلال اهتمام المسؤولين بتغطية الموضوع، بالإضافة إلى التجمع الهائل للمواطنين حول الكنيسة  دون فرق بينهم اجتماعي كان أو ديني، ينتظرون جميعا تجلى السيدة العذراء؛ فظهورها بشرى لأقتراب تحقيق آمالهم.

من أهم النقاط التى استوقفتنى عند اقتراب نهاية الأحداث؛ أسلوب السرد الذى يعبر عن شخصية كاتبه وتوقيت الكتابة؛ فالكلمات مباشرة وحادة وكثرة الوصف لكل موقف يواجهه، أوشعور يتملكه، تقول أن البطل فى بداية مشواره وقد تكون تجربة أولى للكاتب نفسه؛ لأننا ببساطة فى تلك المرحلة يصبح شغلنا الشاغل هو أن نسجل بعفوية كل ما نواجهه، والسرد خير من يدل على هذا الخاطر فى آخر سطور الرواية!

بالإضافة إلى البحث الذى توصلت من خلاله إلى حوارالكاتب، حين كان ضيف أحد حلقات برنامج «معكم»، بتاريخ 18 أكتوبر عام 2014، تحدث عن تجربة شخصية فى بداية مشواره الصحفى، مشيرا إلى أنه قد أعاد صياغة تلك التجربة فى رواية «مريم التجلى الأخير».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل