المحتوى الرئيسى

تاريخ من الزحلقة! | المصري اليوم

08/15 03:31

حضرة المحترم منصور أفندي على حسن

نُعيد لحضرتكم رفق هذا القطن الطبي الذي تلقته المعامل طرد بريد رقم 122 في 1/11/1946 والمطلوب فحصه للمواد الغريبة، وذلك لعدم اختصاص معامل الوزارة للفحص المطلوب. واقبلوا تحياتنا...

ما سبق هو نص خطاب مصلحة المعامل بوزارة الصحة المصرية سنة 1946 ردًا على مواطن مصري اشترى لفافة قطن طبي من صيدلية مشهورة بالقاهرة واكتشف بها مادة غريبة.

يقول منصور أفندي في خطابه للأديب الكبير توفيق الحكيم الذي نشره في مقالته الأسبوعية في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 11/1/1947: «لما قدَّمَ إليّ الصيدلي القطن المطلوب لاحظت أنه غير مصري الصناعة، بل فلسطيني صهيوني متجنلز، فرددت إليه لفة القطن راغبًا إليه استبدالها بقطن شركة مصر للغزل، لأنه النوع المصري الوحيد، ويجب أن نفضّله، ولكن الصيدلي اعتذر بعدم وجود الصنف المصري. ولمّا كان الوقت ليلًا والضرورة ملحة أخذت ذلك النوع وانصرفت به، على أني ما كدت أفتح اللفة حتى لاحظت بها قطعة كبيرة من القطن محتوية على مواد غريبة، فأخذتني العزة القومية، والرغبة في المحافظة على سلامة المجتمع ووقايته، فبادرت إلى إرسال تلك القطعة ذات المواد الغريبة إلى معامل الصحة».

وقد قرأنا ما كتبته مصلحة المعامل ردًا على طلبه، فهل اكتفى منصور أفندي بذلك؟

يبدو من مقالة الحكيم أن الرجل لم يقف عند هذا الحد، إذ كتب على لسانه:

«لم أستسغ خطاب المعامل، فأرسلت خطابًا شخصيًا إلى معالي وزير الصحة، فأجاب عليه سعادة وكيل الوزارة بالآتي:

حضرة المحترم منصور أفندي على حسن

بالإحالة إلى كتاب حضرتكم المؤرخ 30/11/1946 الخاص بطلب فحص عينة قطن للمواد الغريبة بمعامل الوزارة نحيط علم حضرتكم بأن هذا الفحص لا يقع في دائرة اختصاص المعامل المذكورة، ولهذه المناسبة نشير على حضرتكم بإرسال هذه العينة إلى مجلس مباحث القطن بالأورمان- جيزة.

وهو ما قام به منصور أفندي بالفعل، إلا أن مجلس مباحث القطن - ممثلًا في مدير قسم تربية النباتات- أفاده برسالة رسمية بتاريخ 25/12/1946 بأن المختص بهذا الفحص هو مصلحة الكيمياء التابعة لوزارة التجارة والصناعة!

يقول الحكيم: «وهنا وقف بالطبع ذلك المتحمس «للعزة القومية» عن المضي في طلبه وفترت فيه «الرغبة في المحافظة على سلامة المجتمع ووقايته» فقد أيقن أنه سيقذف به مع لفة قطنه من وزارة إلى وزارة وأنه سيمر حتمًا على مختلف المصالح والوزارات إلى أن يبلى القطن أو يذهب أثر المواد الغريبة أو ينفد صبره أو يضيق صدره أو تطير بقايا المشاعر الطيبة التي دفعته إلى الاهتمام بأمر يكلفه الوقت والمال وشغل البال، بإرسال طرود البريد وتحرير الخطابات، والأخذ والرد في سبيل غرض لا هم له فيه إلا الصالح العام».

اللطيف في الأمر أن الحكيم ـ رحمه الله- منح مقاله هذا عنوانًا شديد الطرافة وعميق الدلالة وهو «فن الزحلقة».

واستهله بشهادة عملية عاينها بنفسه وخبرها خلال عمله وكيلًا للنائب العام في مراكز وأرياف مصر. وحكى حكاية «الجثة التائهة» التي ما إن يكتشفها أهل «مركز» في النهر حتى يخلصونها من أعشاب الشاطئ ويدفعونها مع التيار «هدية كريمة» إلى مركز آخر فيصنع بها المركز الآخر ما فعله المركز الأول... وهكذا إلى أن ترسو الجثة على «بر السلامة» وهو حسب وصف الحكيم «الجهة التي لا تستطيع لهذه الجثة زحلقة، ولا منها هروبًا ولا فكاكًا ولا خلاصًا ولا فرارًا، فيلبسها (الاختصاص) كأنه (خازوق) تقبله مرغمة مذعنة وأمرها إلى الله!».

تحية تقدير للمواطن المصري منصور أفندي على حسن الذي سجّل أديبُنا الكبير توفيق الحكيم تفاصيل واقعته التاريخية في الغيرة الوطنية منذ أكثر من 70 سنة.

تقابل هذه التحية تلويحة اندهاش للمقدرة المصرية العظيمة على حفظ وتطوير فنون «الزحلقة»- حسب المصطلح الحكيمي العظيم- وتعميق جذورها في تربة المصالح الحكومية المصرية منذ «الجثة التائهة» مرورًا بمدير عام مصلحة المعامل بوزارة الصحة ووكيل وزارة الصحة ومدير قسم تربية النباتات بمجلس مباحث القطن الذين اعتنى كل منهم بالرد على المواطن المصري برسالة زحلقة رسمية واضحة ومفهومة وصولًا إلى مدراء ووكلاء ووزراء و... هذه الأيام الذين يعتقدون أن الرد على المواطنين، ولو برسالة زحلقة، ليس من ضمن مهام عملهم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل