المحتوى الرئيسى

الهروب بحثًا عن الأمان

08/11 01:58

يأتى الصيف بشمسه، وإجازاته، وجوه العام بالراحة والاسترخاء، فيزحف مئات الآلاف من المصريين إلى شواطئ الساحل الشمالى، بحثا عن السعادة لهم ولأبنائهم لأسابيع قليلة استعدادا للحياة الجافة القاسية فى القاهرة والإسكندرية ومعظم مدن مصر الكبيرة.

إلا أن مفهوم المصيف فى مجتمعنا تغير كثيرا عبر العقود الثلاثة الأخيرة، فتحولت السعادة من لحظات بساطة فى الرمال تحت الشمسية البيضاء والفريسكا، والمشى على شاطئ البحر فى الصباح الباكر، وركوب العجل وأكل الايس كريم والتنزه على كورنيش الإسكندرية أو رأس البر أو جمصة بعد الظهر.

أصبحنا نصيف فى قرى صغيرة، لها اتحاد ملاك، وكل قرية لها طابع اجتماعى حتى يهيئ سكانها جوا متناسبا مع ثقافتهم، فمن يرغب فى الأناقة والهدوء والجمال ويعانى طوال العام من القبح وقلة النظام والضوضاء، بالتأكيد سيكون شديد الحرص على جزيرته الصغيرة ويدافع عنها ضد أى «هجوم أو احتلال» يغير من طبع هذه الجزيرة.

ومن يحب الضوضاء والاختلاط بالآخرين، ويحس بالراحة وسط المجموعات الكبيرة، ويرغب فى الإحساس بالحرية له ولأبنائه قبل العودة إلى العمل، فهو يعيش فى قرية أكبر، وغالبا بها طرقات كبيرة وكثيرة ويشكل البحر والرمل الجزء الأصغر من يومه.

الانتقال بين القرى على طرق سفر تشهد حوادث ووفيات بالعشرات كل صيف لأنها ليست طرقا تربط حيا بآخر فى نفس المدينة، وإنما هى طرق تربط مجتمعات مسورة منغلقة تهدف إلى الفصل بينها وبين جارتها وليس الربط، حفاظا على الطابع الاجتماعى الخاص بها، وخوفا من فقد كل مجتمع لمساحة ضئيلة يتحرك فيها بحرية شخصية، ويحس فيها بالانتماء إلى مجتمع يشبهه فى الذوق والاهتمامات والاحتياجات.

نحن هنا لا نتحدث عن جزر صغيرة وسط بلد كبير، نحن فى الحقيقة نتكلم عن ساحل طويل ومهم لمصر، طوله يصل إلى ٥٠٠ كيلومتر غرب الإسكندرية حتى ليبيا، وهو الامتداد الجغرافى والتنموى الطبيعى لمدينة الاسكندرية، وهو شريط الأمان البشرى والمجتمعى لحدود مصر الغربية، وتعمير هذه الحدود مثل تعمير سيناء مسالة أمن قومى لا تقل أهمية عن تسليح الجيوش وبناء المعسكرات، ولنتذكر أن اسرائيل كلما استحوذت على أرض بنت عليها مستوطنات، بالرغم من كونها فى منطقة نزاع، فهى تعلم جيدا أن ساكنى الأرض وزارعيها هم أشرس المدافعين عنها، وهم أهم مستند يجعل ملكية الأرض لهم أمر واقع.

أدعوكم للنظر إلى الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، انظر إلى المدن الساحلية فى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان وحتى تونس والمغرب والجزائر، مدن مثل مالاجا، اليكانتى، فالنسيا، برشلونا، مرسيليا، نيس، كان، نابولى، باليرمو، فينيسيا، أنتاليا وغيرها كثيرا، مدن ساحلية، السياحة فيها جزء مهم من اقتصادها، لكنها مدن بنيت للحياة، بها سكان دائمون، واقتصاد دائر ١٢ شهرا فى العام، بها مدارس وجامعات وتجارة وصناعة، مدن حية لا تموت بانتهاء موسم الصيف. هذه المدن ليس لها أسوار، وقانونها يفرض أن يكون كل شاطئ خاص بجانبه شاطئ عام يسمح بالحياة والمتعة بالطبيعة لكل طبقات الشعب، مع فرض ثقافة وقانون يحمى هذه الطبيعة ويحمى حقوق المصيفين فى الهدوء والراحة والنظافة، وفى نفس الوقت يمنع توسيع الفجوات بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافات المختلفة والتى تذوب عندما يختلط البشر بشكل يومى وتلقائى ويحتكون ببعض فى الأمور الحياتية اليومية.

هذا الفصل بين مواطنى الدولة الواحدة، والفجوة الكبيرة فى التعليم والثقافة وفرص العمل، فى القدرات والمهارات، فى الذوق والميول، هو فصل أبعد من كونه ثراءا، فهو يعيق بناء الدولة وتقدمها وفى مصر هذا الفصل ليس فى المصيف فقط وإنما امتد للقاهرة والاسكندرية حيث حوصرتا بشريط من العشوائيات لها قانون خاص ولا تدخلها الدولة، كما أصبح لهذه المدن امتداد من الكومباوندات المسورة ذات القانون الخاص والمنفصلة تماما عن المجتمع والدولة.

هذا الفصل ليس بجديد فى مصر، فقبل انقلاب ١٩٥٢ كان المصريون منقسمين وكأنهم شعوب، لدرجة أنهم كانوا يتحدثون لغات مختلفة، فاللغة الفرنسية كانت تستخدم بين أفراد الأسر الأكثر حظا والعربية كانت للتعامل مع عامة الشعب، وكان هناك مناطق لسكن الاغنياء يدخلها الأكثر فقرا للعمل الخدمى وليس للحياة والإقامة. إلا أن النهضة التعليمية التى قادها طه حسين عندما جعل التعليم مجانيا لأبناء المصريين، وساعدته الجامعة المصرية الأهلية على تحقيق هدفه، فقامت بفتح الباب لأبناء الطبقة الوسطى من المصريين لصعود السلم الاجتماعى ورفعت بعض الشىء الغطاء الذى كان يكتم الغضب والظلم داخل قلوب وعقول شباب هذه الطبقة، وسمحت لهم بالحصول على العلم والمهارات واللغة والعلاقات التى تؤهلهم للانضمام إلى الطبقة الاكثر حظا اقتصاديا واجتماعيا فى المجتمع. لسبب ما لم تر هذه الطبقة احتياجا للاحتماء بالأسوار، ربما يكون السبب عائدا إلى أن الفروق الكبيرة كانت غير مرئية فى حينها أو لأن الإعلام الذى ينقل مظاهر الرفاهية أو البذخ المبالغ فيه والمستفز لم يكن موجودا، أو أن البذخ وقتها كان له سقف بحكم إمكانيات الزمن، لكن فى النهاية عندما حدث الانقلاب العسكرى فى ١٩٥٢ مما لا شك فيه أن كثيرا من الشعب خاصة الطبقات الأفقر انضمت إليه وحولته فى مراحل من مراحله إلى حراك شعبى، وهذا بالتأكيد دليل على أن المجتمع كان فى حالة عدم رضا، وأن النظام السياسى الملكى لم يستطع أن يوفر السلم الاجتماعى المطلوب لبقائه.

Comments

عاجل