المحتوى الرئيسى

#القصة_الكاملة | «القيسون».. ضحايا البحث عن الحياة (تحقيق)

08/10 15:21

حشد كبير من الأهالي الذين اتشحوا بالسواد، وسط صرخات وعويل النساء، وبكاء الرجال الحاملين لنعش خشبي يخبرك بكم القهر والظلم الواقع عليهم، إضافة إلى الألم الذي يفتك بقلوب السائرين في جنازة ابن جديد من أبناء قرية الرهاوي في محافظة الجيزة، الذي راح ضحية مهنة "القيسون" وهي مهنة حفر الآبار.

مشهد يتكرر أسبوعيًا على الأقل في القرية، حيث تجد أهالي القرية يزفون الشباب في الأكفان بدلًا من بدلة العرس، بعد أن فقدوا أرواحهم في تلك المهنة الشاقة، رغم أهميتها في توفير مصدر جديد للمياه التي تعد بمثابة الحياة، لكنهم يعملون بها بعد أن دفعتهم ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية للعمل بها لارتفاع يوميتهم نسبيًا مقارنة ببقية الأعمال، التي يمتهنها معظم أهالي القرية، في ظل عدم وجود أي حماية قانونية لهم واستغلالهم من أصحاب العمل.

زوج "أمل" أحد هؤلاء الضحايا، التقت بها «الدستور» بعد أن دقت أبواب أسر عمال القيسون.

"من يعطي معنى للحياة، يعطي معنى للموت" مقولة لأنطوان دي سانت إكزوبري، الكاتب الفرنسي الشهير، لخصت ما يحدث مع الباحثين عن الحياة، حتى وإن ضاعت حياتهم فيصبح موتهم نكبة واستغلال لثغرات القانون المصري في إضاعة حقوقهم من قبل معدومي الضمير، هذا ما روته لنا أمل علي، الأم الثلاثينية التي فقدت زوجها بسبب عمله في هذه المهنة لتعاني مرارة الحياة مع أبنائها الأربعة.

تروي "أمل" قصتها التي بدأت منذ عام ونصف، حينما رن جرس هاتفها ليخبرها أن زوجها أصيب أثناء عمله ووقعت أحد المواسير الحديدية على رأسه، لتذهب مهرولة إلى المستشفى، لتجد أن زوجها قد سلم روحه إلى بارئها، تاركًا أكبر أبنائه صبية في الخامسة عشر عامًا "مخطوبة"، وتحتاج إلى مصاريف لجهاز عرسها، ولم يقدر له أن يراها في ثوبها الأبيض الذي طالما حلم به.

"عايشين كلنا بـ 450 جنيه، وكيس السكر وصل لـ15 جنيه، نجيب منين ؟!" هكذا تساءلت أمل ونظرات الحيرة والهم تملأ عينيها، حيث تتقاضي هذا المبلغ كمعاش ضمان اجتماعي بعد وفاة زوجها، تدفع منهم مصاريف كهرباء ومياه وإيجار لشقتها، أما الطعام فما يسد جوع أبنائها هي الصدقات التي تتحصل عليها من فاعلي الخير، قائلة "وهو ده كان رد الجميل لحد ضحى بعمره في شغله".

وعند سؤالها عما إذا كان له أي عقود أو تأمينات أكدت أنه لم يوقع أية عقود، وأن أصحاب العمل يرفضون التأمين على العمال لتوفير النفقات، وحتى إن وجدوا الفرصة، يقومون بعمل عقود تأمينية لأقاربهم ومعارفهم بدلًا من العمال الحقيقيين".

أما محمد عيد إبراهيم، البالغ من العمر 27 عامًا، عمل فيها منذ أن كان في الـ13 من عمره، ليصاب بكسر في العمود الفقري إثر سقوطه من "المقص" الذي يتواجد على ارتفاع كبير من منطقة الحفر.

يقول محمد إن يوميته تبلغ 70 جنيهًا، فهو يعمل في صحراء وادي النطرون، ويقيم في خيمة في أحضان الجبال، حيث يخرج منذ الساعة السادسة صباحًا، ويظل يعمل حتى المغرب، وأحيانًا تمتد فترة العمل إلى ما بعد ذلك، دون راحة إلا وقت الغداء فقط.

"العدة" الخاصة بالعمل في مهنة القيسون تتمثل في مقص كبير مكون من مجموعة من المواسير الحديدية، معلقة على ارتفاع كبير من منطقة الحفر، ويقوم العمال بتركيبها، وأحيانًا تحدث إصابات أثناء تركيبه بسبب سقوطهم من عليه، بالإضافة إلى ما وصفه عيد بـ"الإهانة والذل" حين تسقط أحد المعدات بعد حفر جزء كبير من البئر، فيربطون العامل من قدميه بحبل ويلقون به داخل البئر من أجل أن يجلب تلك المعدة ومن هنا تحدث حالات الوفاة.

"احنا ساعات بنجيب ناس وقعت بتبقى متطقعه حتت مبنعرفش نلمها ندفنها" هكذا استكمل محمد وصفه لما يحدث معهم من مجازفة أثناء العمل، بالإضافة إلى أنه في إحدى المرات وأثناء استيقاظه من النوم وجد ذئبًا يقترب عليه وكاد أن يفتك به لولا العناية الإلهية.

محمد لديه أسرة مكونة من زوجة وطفلان مع ذلك يتقاضى معاش ضمان اجتماعي بسيط لا يكفي أي شيء، وأصدر شهادة الـ 5% الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة لعله يجد وظيفة إلا إنه لم يتمكّن من ذلك رغم أنه قدم مرارًا وتكرارًا في الوظائف التي تعلن عنها الدولة.

حمدي أحمد فهمي، 27 سنة، يعمل هو الآخر منذ أن كان في الـ 12 من العمر، يعتبر ضحية أخرى من ضحايا تلك المهنة رغم امتلاكه "عدة"، وهي الأدوات التي يستخدمها الحفارون في العمل، ويعتبر محل حسد ممن يحيطون به لأن العمال يعتبرونه غني ويملك المال، وصاحب نفوذ مقارنة بهم، إلا أن حمدي قد أصيب هو الآخر بسبب سقوط ماسورة على رأسه، أفقدته الرؤية بالعين اليسرى، ليصبح عاطلًا عن العمل يحصل على معاش الضمان الاجتماعي الذي لا يكفيه قوت يومه.

حمدي لديه 3 أطفال أكبرهم في أولى ابتدائي وأصغرهم لديها عامًا ونصف، أما محمد الصغير في الحضانة، لا يزال أطفاله بحاجة إلى مصاريف كبيرة و"الدنيا غلا" على حد وصفه.

في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، سمع جميع العاملين في منطقة حفر الآبار صوت طلقات نارية ليركضوا في اتجاه الصوت فيجدوا زميلهم غارقًا في دمائه، يحملونه على أعناقهم باحثين عن أي وحدة صحية أو مستشفى لنقله إليها، دون جدوى فهم في منتصف الصحراء لا يرون سوى رمال فقط، ولا يهتم أحد من أصحاب الشركات التي يعملون معها أو حتى من المسئولين في القوى العاملة على وجه الخصوص كواحدة من الجهات المعنية.

هذا كان ما حدث مع زوج هدى أحمد، الأم والأرملة الثلاثينية، بعدما تيتم أبنائها الأربعة، فتقول إن زوجها ليس له ذنب في أي شيء، البئر الذي كان يتم حفره هو في منطقة نزاع فقط، فما كان من أحد "العرب" سوى إطلاق النار عليه ليذهب ضحية دون ذنب.

أما أصحاب العمل ففي حالات الإصابة أو الوفاة يعطون مبالغ بسيطة قد تبدأ من ألفي جنيهًا، وتصل حتى 5 آلاف جنيه ليوقعوا إقرارًا على أن الإصابة كانت خارج وقت العمل ومكانه، دون أن يتعرضوا للمساءلة القانونية أو دفع تعويض كبير.

سامي رجب، هو حالة أخرى التقينا بها، فهو لايزال في الثلاثين من عمره، وزوجته أسماء تبلغ 23 سنة، أثناء سيره في منطقة العمل وجد شيئًا ما لامعًا في الأرض يشبه كرة من الذهب، فبالكاد التقطه ليصيبه في وجهه وجسده بعد أن انفجر فيه ويفقد كف يده بعدها، لينتقل للعمل لـ "كانتين" العمال، وتنخفض يوميته إلى أقل من النصف لأنه لم يعد قادرًا على العمل بنفس المجهود، ولم يحصل على أية تعويضات أو تأمينات، رغم أنه خريج كلية شريعة، وقدم على شهادة الـ 5% الخاصة بذوي الإعاقة التي خصصتها وزارة التضامن الاجتماعي لتوفير عمل لهم دون جدوى.

أيتامٌ وأرامل وصرخات أطفال لا تنقطع قصص وحكايات تشابهت في الألم، وإن اختلفت الظروف الخاصة بكل أسرة، وطريقة إصابة كل ضحية من الضحايا، التقت «الدستور» بضحايا أخرى كان من بينهم منى شعبان التي أصيب زوجها هي الأخرى، وتحصل على معاش ضئيل رغم أن زوجها يغسل كلى 5 أيام في الأسبوع لتدهور حالته، عطيات رمضان أيضًا حالة أخرى أصيب زوجها إصابة شديدة حين شدت الماكينة زوجها من رقبته، وقطعت ذراعه ليصبح عاجزًا بشكل كامل يحتاج إلى مصروفات كبيرة فلا يحصل سوى على 323 جنيه ضمان اجتماعي.

جميع الأهالي قدموا استغاثات إلى وزارة القوى العاملة، والتضامن الاجتماعي، والصحة، وجميع الجهات المسئولة أن تنقذهم من الظلم الواقع عليهم، وهذا ما أكدته سهير مرزوق، التي فقد زوجها قدمه أيضًا أثناء العمل، قائلة: "حرام اللي بيحصل فينا ده.. احنا مش عايزين اللقمة لينا عايزينها عشان عيالنا بس والله.. مين ينقذنا؟".

أما حمدي معبد، مسئول جمعية العدالة الاجتماعية والمسئولة عن المساعدات بقرية الرهاوي، فأكد إن العاملين في مهنة القيسون يعملون في ظروف قهرية، فلا يوجد شبكة محمول تمكّنهم من الاتصال بالإسعاف حين يصاب أحدهم، ولا يوجد مستشفيات أيضًا، يخرجون إلى محافظات عديدة منها الإسكندرية في منطقة البحر الفاضي، وشرق العوينات والمغارة ووادي النطرون وسيناء.

وناشد "معبد" المسئولين بضرورة التدخل لإنقاذ هؤلاء الضحايا الذين يعملون ليلًا ونهارًا، منقبين عن الماء لإحياء الناس والأراضي ويفقدون هم حياتهم.

يذكر أن بحسب آخر إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فيبلغ عدد سكان قرية الرهاوي يقترب من 16 ألف نسمة، معظم الرجال يعملون في مهنة حفر الآبار لارتفاع يوميتها مقارنة بالعمل في الأرض الزراعية التي تبلغ يوميتها 20 جنيه في حين القيسون تبلغ من 70 جنيه وتصل حتى 100 جنيه.

يقول صابر الشندي، رئيس نقابة العاملين بحفر الآبار، أنه قام بتجميع العمال من أجل إنشاء تلك النقابة الحديثة للدفاع عن حقوق العاملين بالقيسون لأنهم حقوقهم مهدرة، لكن الأمر لا يزال صعبًا وأمامهم تحديات ضخمة وكبيرة، بالفعل أصدر كارنيهات عضوية لأكثر من 50 عضوًا بها، وقدم طلبات لرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، بها بنود تحافظ على حقوق العاملين من ضمنها تشريع قانون يضمن عقاب أصحاب العمل الذين لا يؤمنون على العمال، بالإضافة إلى تعويضات مناسبة، كما يحاول توفير رعاية صحية جيدة للمصابين لكن دون جدوى.

حاولنا التواصل لأكثر من مرة مع وزارة القوى العاملة حيث زادت محاولات الحصول على رد فترة تجاوزت الشهرين، إلا أن المتحدث الرسمي باسم الوزارة تعامل مع الموضوع على أن الوزير "مش فاضي للصحفيين وكل شوية عايزين رد"، وأخبرنا أنه سبق ورد علينا في موضوع آخر، ولن يعلّق على هذا الموضوع.

#القصة_الكاملة | «القيسون».. ضحايا البحث عن الحياة (تحقيق)

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل