المحتوى الرئيسى

في الطريق الذي نخشاه .. إلى «الدولة الفاشلة»

08/06 09:28

عندما قال لي أحدهم أن الرئيس طالب الإعلاميين في مكتبة الإسكندرية (التي من المفترض أنها صرح «للتفكير والحريات»، لا التوجيهات والإملاءات) أن يعملوا على إعداد خطط «إعلامية؛ لتثبيت الدولة وخلق «الفوبيا» عند جمهور الناس، ولأني أعرف أن «الفوبيا»، تعريفا ما هي إلا مرض نفسي، يستدعي معاودة الطبيب، لم أصدق ما قيل وفضلت أن أعود للتسجيل «التلفزيوني» لجلسات السيد الرئيس. 

لن أقف طويلا عند «المصطلحات الرئاسية»، فمن حسن الظن الواجب أن أفهم أن رئيس «الدولة» يقصد أن علينا العمل على بناء «دولة قوية» وأن علينا، كإعلاميين أن نُحذر من سيناريوهات تقودنا حتما إلى مصير «الدولة الفاشلة». وأحسب أن هذا هدف محمود. كما أحسب أن الاستجابة المطلوبة «للدعوة الرئاسية» تتطلب بداية الإجابة عن السؤال الرئيس: ماذا تقول لنا تجارب التاريخ  عن «سيناريوهات الانحدار» التي قد تقود دولة ما إلى مصير الدول الفاشلة؟ وماذا علينا أن ننتبه إليه لنتجنب مثل هذا المصير؟ 

أتمنى بداية ألا يكون هناك من يحاول «تسييس المصطلح» كما فعلت الإدارة الأمريكية قبل عقد من الزمان لوصف بعض الدول التي اعتبرت أن «فشلها في لعب وظائفها الرئيسية يمثل تهديدا للأمن الدولي». قصة التسييس الأمريكي للمصطلح حكاها لنا ناعوم تشومسكي في كتابه المهم Failed States: The Abuse of Power and the Assault on Democracy (الكتاب صدر في أبريل ٢٠٠٦)

وبغض النظر عن ما يلجأ إليه هذا أو ذاك من تسييس لمصطلح ما لاستخدامه عنوانا لسياسات معلنة أو مضمرة، كما فعلت الإدارة الأمريكية يومها، وكما يفعل العالم كله اليوم مع مصطلح «الحرب على الإرهاب»، يظل السؤال الذي لفت انتباهنا إليه كلام السيد الرئيس هاما ومحوريا: «كيف تفشل الدول؟» 

Why Nations Fail? عنوان كتاب صدر قبل خمسة أعوام لأستاذين في الاقتصاد أحدهما في MIT   والثاني في جامعة شيكاغو. وخصصا فيه جزءا معتبرا عن مصر، ربما يستحق القراءة من كل من يعنيه الأمر. ولأنني لست متخصصا في الاقتصاد، فسأترك مهمة تقديم مثل هذا الكتاب المهم لمن هم أقدر على عرضه، مفضلا الإجابة عن السؤال بإعادة قراءة واجبة للتاريخ ولتجاربه. 

بعيدا عن اختلاف «لا يخلو من التعصب» حول إجابات يقدمها لنا تاريخ منطقتنا الحديث، من قبيل: كيف كانت ملامح الطريق التي أخذتنا إلى يونيو ٦٧، أو تلك التي ذهب بها صدام حسين إلى ما صارت إليه العراق؟ فلا أحسب أن هناك اختلاف «قد يجرنا إلى جدل عقيم» في قراءة التجربة الألمانية؛ الدولة الصناعية العظمى، وحجر الزاوية الصلد في الجماعة الأوربية. عرفت ألمانيا الفشل مرتين في تاريخها الحديث. إحداهما حين تمكنت منها الفاشية العسكرية زمن هتلر، الذي لم ينته إلا بعد أن سويت برلين العاصمة بالأرض (١٩٤٥)، وبقية القصة تعرفونها. وأما الثانية فعرفناها في القصة التراجيدية لنصفها الشرقي حين تمكنت منها الأوليجاركيا «الثورية» تحت لافتات عقائدية نبيلة، صنعت منها سجنا كبيرا تحكمه هيمنة «أمنية مطلقة». حتى كان في التاسع من نوفمبر ١٩٨٩ أن سقط جدار برلين، ليجيبنا بوضوح لم يعد يقبل التردد على السؤال الرئيس: متى تنجح الدول ومتى تفشل؟

 لم ينجح جهاز أمن الدولة الأقوى في العالم Stasi أن يَحول ليس فقط دون سقوط الجدار، بل دون سقوط الدولة ذاتها. ما جرى من انهيار «للدولة» في ألمانيا الشرقية، جرى أيضا في شقيقاتها اللواتي كانت سلطاتها الحاكمة في هذا الوقت قد اعتبرت أن الحرية ترف يسمح للمتآمرين «بإفشال الدولة»، فكانت النتيجة ببساطة أن بقيت الحرية، وسقطت الدولة. جرى ذلك في رومانيا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا (السابقتين) وغيرها من دول المنظومة التي لم يدرك حكامها أن حرية المواطن هي التي تحمي الوطن، وأن العدل والشفافية وحرية التعبير واحترام القانون والدستور هي الضمانات الوحيدة لأن تكون لديك دولة قوية.

قد لا يكون ثمة مبالغة في اعتبار سقوط جدار برلين محطة فاصلة في التاريخ الحديث. كما أن كل من قرأ تاريخ هذه المرحلة ومآلتها، يدرك تماما أن بإمكانه أن يقرأ في المشهد الدرامي لسقوط الجدار إجابة قاطعة على سؤال هذا المقال، أو بالأحرى وصفة ناجعة للوقاية من «الفوبيا» التي يتحدث عنها السيد الرئيس.

كيف تفشل الدول؟ أو بالأحرى ماذا نقرأ في التاريخ، وماذا تقول لنا تجارب الآخرين عن ملامح الطريق التي تقود دولة ما إلى حافة الفشل؟

ربما يجدر بنا أيضا قبل الاجتهاد في الإجابة أن ننتبه إلى الحقيقة التي يعرفها كل دارس للعلاقات الدولية من أنه من نافلة القول أن كل الدول لا توفر جهدا دبلوماسيا أو استخباراتيا في العمل على مصالحها، إلا أنه من نافلة القول أيضا أن التفسير الأحادي للظواهر الذي يرجع كل فشل «للأفاعيل الميتافيزيقية» لأهل الشر. أو «المؤامرات الدولية» التي ذهبنا بنظرياتها بعيدا، يبقى ضمن «الهواجس» المرضية، بالضبط مثل «الفوبيا» التي لا مكان لها، اصطلاحا إلا في كتب طب النفس.. ومصحاته.

ففي الدولة الفاشلة فقط، أو تلك التي «نخشى» (كما يريد لنا الرئيس) أن تكون على الطريق، يروج الحديث عن «المؤامرات الخارجية»، ثم لا تعرف من هي بالضبط الجهة التي تتآمر عليك. يتحدث إعلام التوجيه المعنوي عن «مؤامرة غربية» في الوقت ذاته الذي يحتفي فيه بموافقة صندوق النقد على إقراضك، وبحاملة طائرات باعتها لك فرنسا، وعلى اتفاقات تعاون اقتصادي مع ألمانيا … أما الأغرب فربما يتجسد في مفارقة أن تجد موضوعا على صفحة كاملة في صحيفة تتحدث عن مؤامرات المخابرات المركزية الأمريكية على مصر، ثم تجد في الصفحة الأولي من الجريدة ذاتها صورة لرئيس الدولة يجتمع بمدير المخابرات المركزية «تأكيدا على التعاون الاستراتيجى..» كما يقول البيان الرسمي لرئاسة الجمهورية. 

كيف تفشل الدول إذن؟ أو كيف يُفشلها أبناؤها، أو القائمون عليها، وإن بحسن نية؟ وماذا تقول لنا تجارب الآخرين عن ملامح الطريق التي تقود دولة ما إلى حافة الفشل؟

ربما لا يذكر الألمان كيف كانت الحياة في برلين قبل سقوط الجدار(زمن الـ Stasi) ولكنهم يعرفون، ونحن أيضا نعرف أن في الدول الفاشلة، أو التي على الطريق إلى ذلك، ينزع الناس بطاريات هواتفهم المحمولة أو يضعونها بعيدا قبل أن يتناقشوا (سلميا) في شأن عام. وفي مثل تلك الدول أيضا، يخرج صاحب الرأي (لا السلاح) إلى المطار غير متأكد إن كان سيستقل طائرته أم أن جهة ما (ربما لا يعلمها أبدا) قد تمنعه من السفر. 

ربما لم نعد بحاجة إلى التأكيد على ما سبق وقلناه مائة مرة من أن الطريق إلى فشل الدولة (والذي جرى توصيفه إعلاميا بحالة «سوريا والعراق») يبدأ بحمق من لا يدرك خطورة العبث «بميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء إليه. ولعمد كل منهم إلى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولسقطت «الدولة» التي هي بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس.

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة يستمرئ البعض ما يسميه أهل الاختصاص «التعسف في استخدام السلطة / القانون». تقنينا للظلم. ليصبح القانون في نهاية المطاف هراوة للسلطة، لا أداة للعدل وإنصاف الناس.

في الطريق إلى الدولة الفاشلة (التي طلب منا الرئيس أن نحذر من السير فيه) تصدر القوانين التي تبدو أنها تستهدف أشخاصا بذواتهم. رغم ما يعرفه أهل الاختصاص، وينص عليه الدستور من عمومية التشريع (عرفنا ذلك في حالتي تعديل قانون الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية (قانون جنينة)، ثم الهيئات القضائية (قانون الدكروري). كما عرفناه في قوانين تتيح الفرصة لهذا أو ذاك للإفلات من العقاب على جرائم المال العام (قانون رقم ١٦ لسنة ٢٠١٥).

في الطريق إلى الدولة الفاشلة ننسى أن العدل أساس الحكم (أو هكذا يجب أن يكون). وننسى أن لا استقرار بلا عدل. ولا استثمار بلا استقرار.

في الطريق إلى الدولة الفاشلة يغيب العدل، فيمضي الآلاف زهرة شبابهم خلف القضبان بلا محاكمة (أو حتى قرار اتهام) بل بقرارات حبس احتياطي، يتحول معها «الإجراء الاحترازي» إلى اعتقال مقنن وعقوبة سالبة للحرية بلا حكم قضائي.

في الطريق إلى الدولة الفاشلة لا يسمع أولو الأمر من يحذرهم من حقيقة أنك حين تغلق أبواب التعبير السلمي «الحر»، فأنت تفتح الباب واسعا أمام التطرف والعنف والدماء، كما لا يسمعون من يحذرهم من حقيقة أن السجون التي عبأتها بآلاف الشباب تحريات أمنية مشكوك فيها باتت مدرسة لتخريج المتطرفين، ولزراعة آلاف من الألغام الموقوتة على طريقنا إلى المستقبل.

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة يجري القتل هكذا «خارج القانون». ولا تتحرج مؤسسات «الدولة» عن استخدام مصطلحات من قبيل «تصفية مشتبهين» مع كل ما يعنيه ذلك المصطلح من المنظور القانوني، وكل ما يعنيه ذلك الأسلوب من أثر على الأمن المجتمعي لهذا البلد في المستقبل.

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة، حيث يتنادى المسؤولون لاجتماعات تضع خطط نشر «الفوبيا» بين الناس، لا مجال لأن تنبه أن للعنف وأن «للسلاح حدودا»، إن تجاوزها لن يكون ذلك أبدا في صالح أمن هذا البلد ولحمته الداخلية واستقراره.

في الطريق إلى الدولة الفاشلة، تمكن جوبلز من إقناع الألمان بأن فى التخلص «حرقا» من ملايين الألمان (المشكوك في ولائهم، العابر للقومية) هو في صالح ألمانيا التي هي «فوق الجميع»، كما يقول الشعار النازي الشهير. فكان أن سقطت ألمانيا، ولم تنهض إلا بعد أن «تطهرت» من جوبلز والجوبلزيين.

في الدول الفاشلة، أو التي على الطريق إلى ذلك يعتقد / أو يروج المصابون «بالفوبيا»؛ التي هي مرض نفسي أن «كل صيحة عليهم» وأن العالم كله قد تفرغ للتآمر عليهم. 

في الدول الفاشلة، يخاف المروجون «للفوبيا» أو المصابون بها كل صوت آخر. فيحجبون المواقع ويصادرون الصحف، أو بالأحرى يمنعون طباعتها (كما جرى مع الجريدة التى تجرأت فنشرت خبر «التهرب الضريبي لموظفي جهات سيادية»، أو التي طالبت يوما بإقالة وزير) 

في الدول الفاشلة، أو التي على الطريق إلى ذلك، يُحتفل بإحراق الكتب أمام الكاميرات على وقع هتافات «شوفينية وطنية». حدث ذلك في ألمانيا النازية قبل سقوط الفوهرر، وحدث ذلك في إحدى إدارات الجيزة التعليمية في إبريل ٢٠١٥

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة لن تجد برلمانا يراقب أو يحاسب، بل لن تجد برلمانا (يشرع) وإن بدا في الشكل غير ذلك. كما في مثل تلك دول، لن يصل واحد مثل عمرو الشوبكى إلى مقعده البرلماني، رغم أحكام نهائية بأحقيته في مقعده.

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة تحتكر أجهزة الدولة سلطة القرار، ثم لا تتردد بعد ذلك أن تغسل يديها من المسئولية معتبرة أن الشعب هو المسئول عن كل تردي وصلنا إليه. ولا يتحرج إعلام الدولة، التي تنفق المليارات على مشروعات فاشلة (لرفع الروح المعنوية) أن يتهم الشعب بأنه «يأكل ثلاث وجبات» وأن هذا أكثر مما ينبغي (يغفل الذين ينظرون في «لقمة الناس» المغموسة بعرقهم أن ٢٧٪ من المصريين يعيش تحت خط الفقر) 

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة، لا مجال لأصوات مختلفة تناقش دراسات الجدوى (إن وجدت)، وتبحث في الحقائق لا في «أوهام التمنيات».

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة، يعلمنا التاريخ أن لا مجال للأسف لتحذير أولي الأمر من نهاية طريق يسيرون فيه. رغم أن كل الدلائل تشير إلى أهمية أن تؤخذ تلك التحذيرات في الاعتبار. (هل قرأتم رائعة محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، أو شاهدتم «عصفور» يوسف شاهين)

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة، يفقد الأمن القومي بوصلته، فيفرط في ميزة جيوستراتيجية كانت توفرها له سيادته «القانونية» على مضيق تيران، والتي قد يحتاج لها يوما ما في عالم متقلب ومستقبل لا يعرف أحد ملامحه. ليس ذلك فقط، بل تشوش المفاهيم، فلا يتحرج البعض من اتهام نواب يدافعون عن «مصرية الأرض» بالخيانة (لاحظ «مصرية» الأرض). 

في الطريق إلى الدولة الفاشلة (راجعوا الحالة الألمانية أيام جوبلز)، تُستخدم عبارة «الأمن القومي» بابا صلدا لمنع النقاش والحوار والتشارك في الرأي. رغم أن العبارة «لغويا» تشير إلى «القوم» في عمومهم، لا إلى هذا أو ذاك. مما يعني تعريفا؛ حق كل من ينتسب إلى هذا «القوم» في أن يكون له رأي «وصوت».

في الطريق الذي نخشاه إلى الدولة الفاشلة، نخشى أن نستدرج إلى الصراعات البديلة، والحروب البديلة، وننسى أن فى الجوار كيانا «مغتصبا»، يتعيش على أوهام مقدسة في «أرض ميعاد» تمتد من النيل إلى الفرات. (أذكر ثانية بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم المعاصر التي لم تحدد قانونا حدودها حتى الآن).

في الدولة الفاشلة، أو تلك التي على الطريق، يصبح شعار لا غبار عليه مثل الحرب على الإرهاب (مثلما كانت شعارات الحاكمية لله، والنقاء الثورى، وألمانيا فوق الجميع، وأم المعارك..إلخ) غطاءً لممارسات استبدادية وقمعية لا تنتهي.

فيبقى أن الحديث عن محاولات تفتيت الدولة، حديث من لا يعرف مصر، أو على الأقل من لا يعرف كيف يقرأ الخرائط، أو أهمية أن يقرأ التاريخ. ففي الجغرافيا؛ مصر غير مؤهلة ديموجرافيا للتفتيت. كما أنها، في التاريخ؛ ليست وليدة خرائط سايكس بيكو أو غيرها من تسويات ما بعد هذه الحرب أو تلك. لا نزاع «أهليا» في مصر، غير ذلك المصطنع الذي يعمل إعلام السلطة على تغذيته بخطاب كراهية فاجر في خصومته.

كما قد يبقى أن المسألة لا تحتاج إلى أن تعقد الهيئات (المفترض أنها مستقلة عن السلطة التنفيذية) اجتماعات لوضع خطط لتنفيذ «توجيهات» الرئيس (المفترض أنه رأس السلطة التنفيذية). فالطريق إلى الدولة الفاشلة معروف ومجرب. وسبقتنا في السير إليه دول كثيرة. والتعرف على معالم هذا الطريق، لا تحتاج إلى أكثر من قراءة التاريخ، وتجارب الدول التي سبقتنا إلى الفشل فسقطت مع سقوط حائط برلين. وربما، اختصارا لا يحتاج الأمر إلى أكثر من قراءة ما سبق من سطور هذا المقال.

وقانا الله شر الفشل.. وشر عدم القراءة

– فهَلَّا عرفتم أن «الجدارَ» قد سقط!

– حتى لا نكون «مثل سوريا والعراق»

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل