المحتوى الرئيسى

عُنُقٌ طَويلٌ

08/05 14:59

طالت جلستنا وامتدت حتى ساعة متأخرة من الليل وإذا بسؤال مفاجئ، لا يخلو من طرافة، يقطع علينا الشعور بالتعب وبالرغبة فى النوم. قالت إحدى المتسامرات بعد أن أرهقها حديث السياسة وأثقل قلوبنا جميعا؛ هل من جراحات حديثة يمكنها إطالة العنق؟

اعتدت أن أستمع فى بعض اللقاءات إلى مناقشات عابرة وأحيانا مطولة متواصلة، تدور حول عمليات التجميل التى انتشرت الآونة الأخيرة، وغزت مجتمعات بعينها، وصارت مكانتها ولزوميتها كمكانة ولزومية استئصال اللوزتين فى أزمنة فائتة؛ إجراء شبه حتمىّ لا يفلت منه إلا القليلون.

العُنق هو الوصلة المُمتدة من الرأس إلى الجسد، وفى لسان العرب قد تؤخذ الكلمة على مَحمَل التأنيث أو التذكير، فمن نطقها مُخفَّفة بتسكين النون فقد ذَكَّرَها ومَن نطقها بضمّ النون فأثقلها فقد أنَّثَها، أى هذا العُنْق وهذه العُنُق. تأملت فى الفارق لبُرهة ففيه لمحةٌ جديرةٌ بالتدقيق؛ التذكير للأخفِّ والتأنيثُ للأثقلِ، لا أملِك فى جعبتى مَعلومة عن السبب؛ سواءَ كان الأمر مُتعلقا بقاعدة لغويةٍ أصيلة، أو ببيئةٍ وثقافةٍ وأعراف. 

كثيرا ما تَرِد فى النصوص الأدبية جُملة: «اشرأب عنقه» والمراد وصف انفعال الشخص بحدث ما؛ ربما دهشة أو صدمة أو ترقب أو غيرها من انفعالات. يفيد لسان العرب أن: اشْرَأَبَّ الرجل للشىء أى مَدَّ عُنُقَه إليه، و«اشْرَأَبَّ» تأتى بمعنى ارتفع وعلا حيث كلّ رافِعٍ رأْسَه مُشْرَئِبٌّ، ولا يقتصر استعمال الكلمة على التوصيف المادىّ للأشياء، إنما قد تُذكَر مَجازا كما فى قول السيدة عائشة: اشْرَأبَّ النِّفاقُ وارْتَدَّت العربُ.

فى العُنُقِ مساراتٌ حيوية لا غِنى عنها، يتجاور فيه مَجرى الأنفاس والطعام والشراب، ومثلها الشرايين التى تحمل الدماءَ إلى الدماغ، كما يسير الحبلُ الشوكىّ الذى يرسل الإشاراتِ العصبيةِ ويستقبلها مِن أنحاء الجسدِ كافة. فى العُنُق أيضا بعض الغدد بأنواعها المتباينة وفيه الحنجرة التى تُتيح لنا التواصلَ عبر الكلام. 

أحداثٌ كثيرة يشارك فيها العُنُقُ مِن الناحية المعنوية؛ فمَن أحنى عُنُقَه فقد انكسر، شعر بمهانة أو مَذلَّة أو خجل، أماله ونظر فى الأرض، أما مَن مدَّ عُنُقَه فقد جاء بالعكس وأعلن الفخارَ والزهو، والتعبير الدارج يقول «جعل رقابنا مثل السمسمة» كناية عن الخزلان والخزى الذى يُسبِّبَه شخصٌ بتصرفاته لأهله أو لمن يهمهم أمره، والتعبير المُقابِل «أطال رقابنا» كناية عن القيام بعملٍ مُشَرِّف.

رأيت فى الصور التى أبرزتها الصحفُ منذ أسابيع قليلة، أوائلَ الثانوية العامة، يجلسون حول رئيس الجمهورية؛ تكريما لهم أو ربما تكريما له؛ وذاك الأصدق. ربما شعروا فى هذه اللحظة بأن أعناقَهم تطول وتَشْرَئِبُّ وأن أحدا على الأرض لا يطاولهم وأنهم ملكوا السعادة فى أيديهم بهذا الحضور الثمين. ربما شعروا أيضا بالنقيض؛ أنهم مجبورون على الوجود فى مَحفَلٍ يستغل تفوقَهم ويكاد ينسبه لغيرهم. على كل حال، درجنا أن نجعل من شهادة إتمام المرحلة الثانوية بؤرةَ اهتمامنا، واعتدنا أن ننظر لأوائلِها وأصحابَ النِسَبِ التسعينية المُرتفعة على أنهم يطيلون أعناقَ ذويهم، بينما أصحاب النِسَبِ الأقل يجلبون العارَ ويتلقون اللومَ والتأنيبَ ويصل بهم الإحساسُ بالذنب فى بعض الأحيان حدَّ الانتحار.

الزرافةُ صاحبة أطول عُنُقٍ بين الحيوانات، اسمها يساوى حرفيا فى ترجمته: الجمل النمرىّ أو النمر الجملىّ، ربما كونها تجمع بين الجِلد المُزدان بالخطوط كما النمر والأقدام الطويلة التى يصاحبها طول العُنُقِ أيضا مثلها مثل الجَمَل. عادة ما تمدُّ الزرافة عُنُقَها إلى أعلى وأعلى كى تحصل على أوراق الأشجارِ والنباتات التى لا يصل إليها غيرها، ونادرا ما تخفضه اللهم إلا حين تضطر إلى إرواء عطشها. نرى فى عُنُق الزرافة شُموخا وجمالا فلا يحب أحدٌ العُنُقَ القصيرةِ، سواء كان قصرها حقيقة أو مجازا.

مطارُ القاهرة هو المطار الوحيد ــ بين ما زرت من مطارات ــ الذى اكتشفت أنه لا يحتفظ بحارةٍ خاصة فى الجوازات لأبناء البلد، لا صفّ مَقصور على المواطنين المصريين مثل غالبية مطارات الدنيا، وكأن بلدنا لا أصحاب لها وربما لحاكمينا الحقَّ كله فى تعطيل الحارة أو حذفها تماما من الوجود، فأصحاب البلد الأصلاء يدافعون عنه، ونحن لم نفعل إلا على الهامش، ولم ندفع ثمنا لحريته وكرامته وكرامتنا؛ أمرٌ مِن الأمور التى تقصِّرُ الرقبة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل