المحتوى الرئيسى

من دولة المواطنة إلى «سادة» و«عبيد»

07/12 21:46

الارتفاع الجنونى فى الأسعار يستهدف تحويل المجتمع إلى أثرياء ومُعدمين

رمزى زكى توقع مُنذ عقدين تلاشى أهم الطبقات.. والحكومة الحالية تحقق نبوءته

تقرير دولى يرصد هبوط ثلاثة ملايين مصرى للطبقة الدُنيا فى الفترة من 2000 إلى 2015

هذه الحكاية تصلح كممر للدخول إلى الموضوع. قبل سنوات شارك كاتب السطور التالية فى دراسة شاملة لتحديد أهم مائة شخصية من حيث التأثير فى تاريخ مصر الحديث فى مختلف المجالات. وتمت مخاطبة أكثر من ألف شخص فى مختلف مجالات الثقافة والفنون، وأتذكر جيداً بعض الأسماء التى وردت فى الدراسة مثل نجيب محفوظ، أم كلثوم، طه حسين، جمال عبدالناصر، مصطفى النحاس، سعد زغلول، وأحمد عرابى، أنور السادات، محمود ختار، محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، وتوفيق الحكيم. وكان من المثير للانتباه أن تنتمى كل هذه الشخصيات النابغة والمؤثرة فى التاريخ إلى الطبقة الوسطى. لا هُم أثرياء مُرفهون، ولا فقراء من طبقة المعدمين. أولئك الذين لا يعانون شظف الحياة ولا هُم من المُترفين، وإنما نسيج بين بين قادر على التحاور مع الكبار، وقادر على التواصل مع الصغار.

وهكذا كانت معظم الأحداث العظيمة فى تاريخنا من صناعة الطبقة الوسطى، أو طبقة الطبقات التى كلما اتسعت تنامى الخير، وازداد تحضر ورقى المُجتمع، وتطور سلوك أبنائه، ونبغوا، وتقدموا، وكلما ضاقت انحصر العلم، وكبرت مساحات التخلف، وازداد العنف، وتردت الأخلاق.

باختصار شديد فإن الطبقة الوسطى هى عماد المجتمعات المتقدمة، وقاعدة التنمية الحقيقية، لذا فقد فزع الناس بشدة عندما أطلق المفكر الراحل الدكتور رمزى زكى سنة 1998 صيحته المخيفة، التى حملها عنوان إحدى كتبه «وداعاً الطبقة الوسطى»، وهو ما دفع كثيرين للقول بوصف صيحته بالمبالغة، ودفع آخرين كان من بينهم الدكتور جلال أمين للرد فى كتاب «ماذا حدث للمصريين فى نصف قرن؟»، مؤكداً أن الطبقة الوسطى اتسعت بشدة لكنها فقدت كثيراً من سماتها المميزة.

والآن وبعد سنوات من تطبيق سياسات الإفقار المباركية، وما تبعها من تردٍ واضطرابات وعدم رؤية، تذوب الطبقة الوسطى وتتلاشى. تتضاءل بشدة، وتنحدر بسرعة، لتهبط سلالم الهرم الاجتماعى وينقلب المجتمع إلى مترفين ومعدمين، سادة وعبيد، مُرفهين ومطحونين، مُبذرين ومساكين. بسياسات الحكومة الحالية وتوجهات سلخ الناس عن احتياجاتهم، وضغط معايشهم، والتضييق على نفقاتهم، وكبح جماح متطلباتهم فى حياة كريمة، ترفع الطبقة الوسطى رايات الاستسلام لواقع مُر ضاغط وجارح ووائد للطموحات والآمال.

إصلاح مالى لا إصلاح اقتصادى

وفى ظن الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء السابق، وطبقاً لمقال نشره مؤخرا فى جريدة «الشروق» فإن ما يتم من إجراءات يدخل فى باب الإصلاح المالى وليس الإصلاح الاقتصادى، وهو ما لا يستفيد به المجتمع بأى شكل من الأشكال. إن الرجل الذى يعمل محامياً، وشغل من قبل منصب رئيس هيئة سوق المال يرى خطوات ما يُسمى بالإصلاح الاقتصادى تضُر بالناس وتعصف بهم.

وكما قال لى خبير دولى من قبل عمل بصندوق النقد فإن سياسات صندوق النقد تُركز دائماً على الإصلاح المالى وليس الاقتصادى وهو ما يجعل الصندوق دائماً محط كراهية ونفور معظم شعوب الدول النامية، التى تدخل فى اتفاقات إصلاح لا يستفيد بها الفقراء بأى شكل من الأشكال. لذا فإن تحريك أسعار الوقود لن يصُب فى مصلحة المواطن وإنما سيؤدى طبقا لنظرية صفوف «الدومينو» إلى زيادة معدل التضخم، والذى تجاوز لأول مرة فى تاريخ مصر حاجز الـ30% خلال شهر أبريل الماضى. إن هذا المعدل مرشح للزيادة مرة أخرى بعد الزيادة الأخيرة فى أسعار الوقود والطاقة والتى وصلت إلى 100% فى البوتاجاز و40% فى البنزين و55% فى السولار.

وبشكل مباشر فإن الهوة ستتسع بين طبقات المجتمع وستتحقق نبوءة الدكتور رمزى زكى فى اختفاء الطبقة الوسطى تماما، وهو بالمناسبة نفس ما حذر منه الاقتصادى الراحل الدكتور محمود عبدالفضيل فى كتابه الشهير «رأسمالية المحاسيب»، ثم فى كتابه التالى «إنذار مبكر بالخطر».

وليس أدل على ذلك من أن تقريراً حديثاً محايداً نشره بنك كريدى سويس، قال إن الطبقة الوسطى فى مصر تواجه ظروفاً هى الأخطر فى تاريخها بسبب موجات الغلاء. وأوضح التقرير أن مصر كانت إحدى أهم خمس دول فى العالم فى حجم الطبقة الوسطى حيث ضمت القائمة تركيا وروسيا والأرجنتين واليونان إلا أنها مهددة بالتراجع إلى مستويات الطبقات الدنيا نتيجة الأوضاع الحالية. وقدر التقرير أن السنوات الثلاث القادمة هى الأشد خطراً على الطبقة الوسطى فى مصر نتيجة ما يعرف بإجراءات الإصلاح الاقتصادى.

وطبقاً لنفس التقرير فإن ثروة الطبقة الوسطى فى مصر تقلصت بأكثر من 48%، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص بالغ فى عام 2000، إلى 2.9 مليون بالغ فى 2015، يمثلون الآن 5% فقط من إجمالى البالغين، ويستحوذون على ربع ثروة المصريين.

ويشير التقرير إلى أن الطبقة الوسطى فى مصر هم الذين تتراوح ثرواتهم بين 14.5 ألف دولار و145 ألف دولار، سواء كانت مالية أم أصول وعقارات، وذلك وفقاً لأسعار الدولار فى عام 2015 (7.78 جنيه فى البنوك الرسمية)، لكنهم الآن بدأوا فى فقدان ثروتهم والانتقال لخط الفقر بسبب الأوضاع المزرية التى تشهدها مصر.

وطبقاً للتعريفات العلمية الحديثة، فإن الطبقة الوسطى هى التى تضم جماعتين من المواطنين الجماعة الأولى هم أصحاب المصانع والورش الصغيرة والتجار والموردين ومقدمى الخدمات فى المجتمع التجارى والذين لا يتمتعون بأى نفوذ سياسى أو اقتصادى، والجماعة الثانية هم المهنيون من أطباء ومهندسين ومحامين ومحاسبين ومدراء وصحفيين وكتاب وأساتذة جامعات. فضلاً عن ضباط الجيش والشرطة وموظفى الدولة. وفى رأى المفكر الاقتصادى الراحل الدكتور محمود عبدالفضيل فإن الطبقة الوسطى تتكون من ثلاث شرائح عليا ووسطى ودنيا وتعتمد فى دخلها بشكل أساسى على ممارسة العمل.

والمثير فى الأمر أن الطبقة الوسطى المصرية شهدت بدايات الانحصار نهاية عصر الرئيس السادات، وتفاقم الوضع قليلاً خلال النصف الأول من حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك ثم اتسع بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، وواصلت الحكومات التالية لـ25 يناير انتهاج سياسات أكثر شراسة للقضاء على الطبقة الوسطى. فى عهد مبارك هناك مثالان يرصدان الهوة الشديدة بين طبقات المجتمع وبدء خلخلة دولة المواطنة، المثال الأول رصده الكاتب الأمريكى توم فريدمان سنة 1999 وسجله فى كتابه الشهير «السيارة لكزس وشجرة الزيتون» حيث كتب يقول: فى القاهرة هناك نحو 500 ألف نسمة يعيشون داخل المقابر «مدينة الموتى» وهى عبارة عن مدافن تقع على مساحة خمسة أميال مربعة فى قلب العاصمة المصرية، لكن مدينة الموتى تقع على بعد أقل من عشرة أميال من أحدث مجمع لملاعب الجولف الذى يسمى تلال القطامية، وهو واحد من المجمعات المتعددة التى يعيش فيها بضع مئات من العائلات فى واحة من المنازل والحدائق والبحيرات الصناعية والنوافير والفنادق. ويقول الإعلان المقدم على شبكة الإنترنت أن المنتجع يوفر كل سبل الحياة الرغدة لأولئك الذين يحبون خوض مباريات الجولف. ويبلغ سعر دخول ملاعب الجولف للفرد الواحد 165 دولاراً وإذا عرفنا أن دخل المواطن فى مصر سنوياً (سنة 1999) يبلغ 1410 دولاراً فإن ذلك يعنى أنه يكفيه للعب 9 مرات فقط فى ملاعب الجولف».

أما المثال الثانى فقد سجلته الصحفية ليز سلاى مراسلة جريدة «شيكاجو تريبيون» سنة 2007، حين قالت إنها التقت هناك بكثير من الشباب وسألتهم عن الأحوال الاقتصادية وفوجئت بتفاؤلهم الشديد فهم يشترون كل شىء وعندما يغيرون سياراتهم فإنهم يبحثون دائماً عن الأفخم والأحدث. إنهم يفضلون «المرسيدس» والـ«بى إم» فيما بعد ذهبت «ليز» إلى حى السيدة زينب وهالها أن ترى البؤس والشقاء والحرمان فى وجوه المارة والقاطنين. لقد تحدثت «ليز» إلى صاحب مقهى بسيط هُناك يبلغ متوسط دخله 120 دولارا شهريا واندهشت عندما قال لها إنه يأكل اللحم مرة واحدة كل ثلاثة أسابيع. وعندما عادت «ليز» كتبت بتاريخ 4 نوفمبر مقالا بعنوان «الإصلاح الاقتصادى الذى لا يعرفه الفقراء». 

لقد كانت الهوة واضحة فى زمن مبارك حتى إن كثيراً من الاقتصاديين اعتبروها أحد الأسباب المباشرة لانتفاضة 25 يناير وحسبنا ما كتبه الخبير الاقتصادى الدكتور شريف دلاور عن ذلك، حيث يقول فى كتابه «حتى لا يسرق المستقبل»: «أدت السياسات الرأسمالية الجديدة فى مصر إلى اتساع الفجوة بين الدخول والثروات وغياب العدالة الاجتماعية وتهتك النسيج الوطنى وإضعاف الطاقة الإنتاجية للوطن وقدرته التنافسية، وحملت الفئات الكادحة والتى تمثل غالبية الشعب عبء السياسات الاقتصادية التى أتت لمصلحة الأثرياء الجدد ومنشآتهم».

على الجانب الآخر نجد أن الباحث السياسى جمال أبوالحسن له رأى مختلف، لكنه جدير بالتسجيل. إنه يرى أن الاتساع الأكبر الذى شهدته الطبقة الوسطى كان خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك. ويؤكد أن ما شهدته الطبقة الوسطى من اتساع وتميز هو ما جعلها قادرة على قيادة ثورة كاملة فى مصر. ويرى أن الاتصال بالعالم عبر تكنولوجيا المعلومات، والسفر، وتوسع الاستثمارات الأجنبية، خلق كُتلة حرجة من الشباب لديهم «تطلعات عولمية»، وأن انفجار النظام السياسى راجعٌ فى الأساس إلى عجزه عن مُجاراة هذه المُتغيرات المُتسارعة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل