المحتوى الرئيسى

عولمة الأسعار.. كارثة على مصر

07/12 21:46

الدولة تسعى لرفع الدعم نهائياً عن الطاقة وتتناسى تدنى دخل المواطن

الأنظمة الغربية «تدلل» مواطنيها بخدمات مجانية ورعاية اجتماعية

«فريدمان» بشّر بنظرية محطة البنزين الأمريكية سنة 1999 ومصر تطبقها الآن

للحقيقة وجهان كما يقول محمود درويش. التبرير الحكومى لزيادة أسعار الوقود يرفع لافتة العولمة، مؤكداً أن متوسط سعر لتر البنزين فى أمريكا فى حدود 60 سنتاً، لكنه يتناسى أن متوسط دخل المواطن الأمريكى 54.4 ألف دولار سنوياً، بينما يبلغ متوسط دخل المواطن فى مصر 3600 دولار سنويا.

الحكومة تستهدف تحرير أسعار الوقود والكهرباء تماماً بحلول عام 2022. سيكون سعر المنتج فى مصر هو نفسه فى عواصم أوروبا والمدن الأمريكية، وسينسحب ذلك رويداً على كثير من السلع والخدمات بنفس المنطق القائل بأن الدعم عكاز الضعفاء، وبأنه ينبغى على المواطن أن يدفع.

العولمة تعنى ارتباطا، اندماجا، تداخلا، مساواة فى عرض السلع والمنتجات، مقاربة للأسعار لكنها تعنى كذلك محاكاة للظروف، ومقاربة للخدمات المؤداة من الحكومات أى حكومات تجاه المحكومين.

لفهم ما يجرى فى مصر من «عولمة للأسعار» يمكن العودة لما كتبه الكاتب الأمريكى توماس فريدمان فى كتابه المُبشر بالعولمة «السيارة لكزس وشجرة الزيتون» سنة 1999 عندما طرح نظرية محطات البنزين فى العالم. قال «فريدمان»: إن هناك خمس محطات بنزين فى العالم. الأولى محطة البنزين اليابانية ويبلغ فيها سعر الجالون 5 دولارات وتدخل إليها بسيارتك لتجد عدداً من العمال يرحب بك أحدهم بابتسامة لافتة وينظف لك الزجاج ثُم يضخ لك الوقود فى احترام وأدب جم ويلوح لك مودعاً عند مغادرتك. والمحطة الثانية هى محطة البنزين الأمريكية والتى تقدم سعر جالون البنزين بدولار واحد لكنك لا تجد فيها أى عمال وتضطر إلى ضخ البنزين بنفسك وتفقد إطارات السيارة وتلميعها. وهناك المحطة الثالثة فى أوروبا حيث يبلغ سعر جالون البنزين 5 دولارات ويوجد شخص أو اثنين يقدمان الخدمة لكنهما يتجهمان فى وجهك ويذكرك أحدهما بأن مهمته طبقاً لقانون العمل ضخ البنزين وتغيير الزيت فقط، وأن له ساعة ونصف ساعة راحة لتناول الغداء. أما المحطة الرابعة فهى محطة بنزين فى دولة نامية حيث تجد 15 عاملاً معظمهم أقارب ويبلغ سعر الجالون 35 سنتاً لأن الحكومة تدعمه، ويقضى معظم العمال وقتهم فى الأحاديث الجانبية ويطلبون بقشيشاً، بينما تبدو المحطة فى حالة سيئة بدون صيانة. والمحطة الخامسة هى محطة بنزين فى دولة شيوعية وفيها يبلغ سعر الجالون 50 سنتا لكنك عندما تدخل بسيارتك لا تجد وقوداً لأن العمال الأربعة أو الخمسة باعوه فى السوق السوداء بـ5 دولارات، وفى الغالب فإن معظم العمال لا يعملون لأن لهم وظائف أخرى فى الاقتصاد السرى ويتبادلون التوقيع بالحضور مرة كل أسبوع لأنهم لا يتقاضون ما يرونه أجراً مناسباً.

وفى تقدير «فريدمان» فإن العالم عليه أن يتجه بسرعة نحو نموذج محطة البنزين الأمريكية التى تقدم الخدمة أو السلعة بسعرها بدون تحميل تكلفة العمالة التى يجب الاستغناء عنها وتعليم أصحاب السيارات طريقة تموين الوقود.

والمؤسف أن نظرية «فريدمان» تحققت فى كثير من الدول المتطلعة للتنمية بتطبيق فكرة «عولمة الأسعار» وتقليل حجم العمالة المشاركة دون وضع نُظم وشبكات اجتماعية شاملة لحماية الطبقات الأقل فقراً فى المجتمع.

وعملت أدمغة السياسات الاقتصادية فى مصر على تطبيق شق الأسعار العالمية على المواطن المصرى قبل أن تؤهله لتحمل تلك الأسعار، بدءاً بالبنزين والكهرباء، ومروراً بباقى السلع الأساسية.

وطبقاً لتقرير أعده مركز رفيق الحريرى للدراسات بواشنطن فإن تحرير أسعار الطاقة والوقود، والذى تزامن مع تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأخرى تسبب فى أن تشهد مصر أكبر معدل تضخم فى تاريخها خلال شهر أبريل الماضى حيث سجلت نحو 32% تضخماً، وهو ثانى أكبر معدل تضخم فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد ليبيا التى تشهد حروباً أهلية. وقال التقرير الذى أعده الباحثان الدوليان محسن خان، وإليسا ميلر إن ارتفاع معدل التضخم فى مصر إلى أكثر من 30% ينذر بعواقب اجتماعية شديدة السلبية على الفقراء. وذكر التقرير أن ارتفاع معدلات التضخم له تأثيرات سلبية على الاقتصاد، ويفرض تكاليف باهظة على المجتمع، ويعوق تخصيص الموارد بكفاءة عبر إخفاء الدور الهام لتغيرات الأسعار النسبية، ويؤثر على الفقراء ويقلل من فرص النمو الاقتصادى بعيد المدى. وفى حالة النمو، أثبتت الدراسات أن التضخم ثنائى الرقم له تبعات سلبية خطيرة، وأن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصناع القرار بها عليهم العمل على الاحتفاظ بمعدلات التضخم تحت 6% سنوياً.

زيادة الأسعار من الحكومة للقطاع الخاص

ولا شك أن انسحاب آثار التضخم على مصر كان أثقل مما توقعه الاقتصاديون وواضعو السياسات، وانتقلت عدوى عولمة السلع مع الحكومة إلى القطاع الخاص نفسه الذى اضطر إلى التعامل بنفس الصيغة امتصاصا لارتفاعات التكلفة، وهو ما يكشفه محمد المهندس رئيس غرفة الصناعات الهندسية قائلاً: إن منتجاً مثل الألومنيوم الذى يتم إنتاجه محلياً بواسطة شركة حكومية شهد ارتفاعات قياسية فى أسعاره وصولا إلى تطبيق فكرة ربط السعر بالسعر العالمى وإعادة تسعيره كل شهر طبقا لذلك، على الرغم من انتاجه محليا. ويوضح «المهندس» أن عولمة سعر خام الألومنيوم دفع المصانع دفعا إلى زيادة أسعار منتجاتها لامتصاص ارتفاعات التكلفة وهو ما يتحمله فى النهاية المستهلك النهائى.

إن ربط أسعار السلع المقدمة من الدولة بمتوسطات الدخل المحلية ضرورة تقتضيها قواعد الاستقرار الاجتماعى فليس من المعقول أن يقوم مواطن يقطن فى بولاق الدكرور بشراء سلعة بنفس سعرها فى نيويورك، فلا دخل المواطن البولاقى متساوٍ مع دخل المواطن النيويوركى ولا الخدمات المقدمة للمواطنين فى نيويورك هى ذاتها المقدمة لسكان بولاق. فضلا عن ذلك فإن شبكات الضمان الاجتماعى فى الدول الغربية تضمن ألا يتعرض الفقراء للانسحاق.

إن شبكات الضمان الاجتماعى فى الدول الغربية تتجاوز فكرة توفير السلع الأساسية مجانا للعاطلين عن العمل، إلى ضمان حصولهم وأسرهم على تعليم جيد بدون أى أعباء مالية، فضلا عن إعداد برامج للتأمين الصحى تقدم الدواء والعلاج بمستوى متميز لكافة الطبقات غير القادرة على تحمل تكاليف العلاج.

وبشكل عام التدليل على فكرة ربط الأجور والدخول بالأسعار بمناقشة ما يطرحه رجل الاقتصاد الأمريكى ديفيد كارد، وهو أحد المرشحين لنيل جائزة نوبل فى الاقتصاد وحائز لجائزة «جون بيتس كلارك» التى تمنح لأهم الاقتصاديين فى أمريكا. إن «كارد» يرى أن لجودة التعليم الأساسى فى المدرسة أثراً فى الدخل الذى يحصل عليه الدارس مستقبلا. وهو يعارض بشدة ما يردده نظراء العولمة فى أوروبا من أن زيادة التمويل المقدم للمدارس الحكومية لا يكاد يعود بالنفع على الطلاب نظراً لغياب الرابط بين جودة التعليم ودرجات الاختبارات القياسية.

وطبقا لحوار أجرته مجلة «الإيكونوميست »مؤخرا مع ديفيد كارد فإنه لا يصح قبول نظريات اقتصادية تخص الواقع الاجتماعى ما لم تكن مبنية على ممارسات عملية، موضحا أن الضغوط التى قد تمارسها الشركات الكبرى على الرأى العام والمجتمعات البحثية تدفع إلى استنباط تصورات مخالفة للواقع العملى خاصة فيما يخص النواحى الاجتماعية. ويقول الرجل «إن التكرار وإعادة التحليل أمران مهمان فى المجال الاقتصادى، خاصة عندما تتعارض النتائج الجديدة مع الفكر التقليدى».

ويقول ديفيد كارد أيضا إنه سئم من تعرض أبحاثه للتبسيط المشوه والاستغلال السياسى من قبل البعض على الرغم من المحاذير التى يحرص عليها حتى لا يتم تصنيفه. ومازال الرجل يرى أن «حالة معرفتنا بعلم الاقتصاد مازالت أقل بكثير مما نظن» ويضيف قائلا: «إن ما يزعج غير المتخصصين هو أن خبراء الاقتصاد يبدون يقينا مفرطا فى عمق هذه المعرفة بينما هم فى الواقع لا يعلمون الكثير».

ومن استنتاجات ديفيد كارد العجيبة ما ضمته دراسة حديثة بشأن الهجرات من العالم النامى إلى أوروبا، حيث ذكر أن المخاوف المتعلقة بالهجرة إلى دول أوروبا بين الأوروبيين لا ترتبط بالتوظيف فى الأساس بل يرجع معظمها إلى الثقافة السائدة والقلق بشأن تأثر اللغة أو عادات وأعراف المجتمع.

ومن أحدث دراسات الرجل دراسة أجراها حول عدم المساواة فى الأجور فى البرتغال حيث وجد أن النساء يحققن دخلاً يقل 10% عما يحققه الرجال فى شركات مناظرة، وخلص إلى أن الأمر لا يقتصر على قلة فرص التحاق النساء بالعمل فى شركات تدفع أجورا أعلى، ولكن هو ضعف قدرتهن على التفاوض بشأن الأجور.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل