المحتوى الرئيسى

بين البقالة.. والتاريخ | المصري اليوم

07/12 00:40

تعلمنا أن التاريخ لا يعرف «لو»، ليس لأنها كما ورد فى الأثر «تفتح عمل الشيطان»، ولكن لأن التاريخ علم يتعامل مع الحقائق التى تمت أو اكتملت مرحلة منها، ليناقش مقدماتها ومساراتها ومحصلاتها وفق مناهج بحث معينة أضحت علما له أصوله، وفى هذا تختلف دراسة التاريخ عن علوم اجتماعية أخرى تقبل الفرضيات والسيناريوهات ومناقشتها والترجيح بين احتمالاتها!.

وتعلمنا أيضا أن هناك فرقا بين حسابات المشاريع التجارية، ومنها القطاعى ونصف الجملة والجملة، وبين حسابات التاريخ، لأن المكاسب فى الأولى وكذلك الخسائر تحسب بمعيار تعظيم الربح المادى، يعنى كم جنيها ربح الجنيه الواحد؟!!.

وفى ذلك أيضا أن السمعة والاسم التجارى لهما أيضا ثمنهما وهلم جرا، أما المكاسب فى حسابات التاريخ فهى تنصرف إلى ما هو معنوى فى الغالب، ومنه أمور لا تقدر بمال!، وفى هذا قد لا يفهم صاحب المنهج المعتمد على حسابات البقالة بالقطاعى أو نصف الجملة أو الجملة معنى أن تقدم الشعوب تضحيات بآلاف الشهداء، وأن تضع كل مواردها وطاقاتها فى مواجهة عدوان خارجى، ويكون الأفضل عند تلك العينة من البشر هو القاعدة التى تقول: إذا تعرضت للاغتصاب ممن لا تستطيع مقاومته.. فاستمتع!!.. لأن مكسبك بالاستمتاع يفوق بالحتم خسارتك بفقد حياتك إذا أصررت على المقاومة.

ولو فتحنا الباب للحسابات القائمة على فرضية «لو» لانسحب الأمر إلى كل ما يسكن العقل البشرى من مكنونات، ابتداء من لحظة المشهد الأول للخلق ليكون السؤال: ماذا لو لم يرد الله أن يُعرف فخلق الخلق كى يعرفوه؟!.. وماذا لو استمع الله لرأى الملائكة فى استخلاف الإنسان عندما تساءلوا استفهاميا واستنكاريا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وقد يجد البعض أنهم، أى الملائكة، كانوا على حق بعدما عم الفساد وسفك الدماء؟!.

ولك عزيزى القارئ أن تستطرد فى التساؤل: بماذا لو وأن تحسب حسابات المكسب والخسارة، مدعما رأيك بالأرقام!!.

وفى هذا السياق، أذكر مناظرة شاركت فيها قبل أكثر من عشر سنوات على إحدى القنوات الفضائية المشهورة، حول ما تبقى من ثورة يوليو 1952، وكان الطرف الآخر هو الطبيب الدكتور محمود جامع، وأثناء الحوار تداخل أحد المشاهدين، وكان اسمه سامى النصف، وهو رجل أعمال كويتى، وبدأ تعليقه بانتقادى قائلا: هذا القومى الناصرى صاحب الصوت العالى الأجوف كزعيمه عبدالناصر الذى ارتكب أكبر جريمة فى تاريخ مصر، وهى تأميم قناة السويس، وما جلبه التأميم من خراب بالحرب والدمار وتدمير قدرات الشعب المصرى وإدخال المنطقة فى مرحلة تزييف الوعى بالعروبة والقومية والتحرر وخلافه!، وأضاف أن بريطانيا كانت ستترك القناة عام 1968 بدون حرب، ورددت بداية بأن الأستاذ النصف قليل الأدب، لأنه بدأ كلامه بالسباب، وأضفت أن آخر من يمكن أن ينتقد عبد الناصر هو الكوايتة، لأنه إذا لم يكن لعبد الناصر من مآثره سوى تأجيل غزو الكويت لأكثر من ثلاثين سنة، عندما تصدى بقوة وبصرامة لمحاولة عبد الكريم قاسم ضم الكويت بالقوة إلى العراق لكفاه ذلك!.. واستطردت بتساؤل حول من كان يضمن ترك بريطانيا للقناة عام 1968؟، لأن الدليل الواضح على أن بريطانيا لا تحترم الاتفاقيات، وخاصة ما يتصل بالممرات المائية، هو استمرار احتلالها لجبل طارق حتى الآن رغم أن الاتفاقية الخاصة بالقناة التى وقعتها بريطانيا هى الاتفاقية نفسها الخاصة بجبل طارق!!.

وأعود إلى حكاية «لو» فى التاريخ لنجد أنها لو استقرت كقاعدة فى قراءة وقائعه لحق لكل مناهض لواقعة ما ولحقبة ما أن يعتبر أنه على حق مطلق، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن هناك من يسأل ماذا لو لم يدخل العرب مصر ويفلحوا فى غزوها وكانت مصر بقيت ولاية بيزنطية، وأصبح جذرها التاريخى هو «الجريكورومان» والمسيحى من بعده، ألم تكن مصر ستبقى فى أسوأ الأحوال مثل أى مجتمع ينتمى للجذور ذاتها فى ثقافته بالمعنى الشامل للثقافة، الذى يتضمن السلوك الإنسانى ونمط التفكير والآداب والفنون وغيرها، وهذا أفضل مما جلبه جذرها العربى والإسلامى؟!.

ولأصبح كل الحق عند من يتساءل ماذا لو لم يكتف عبد الناصر وثورة يوليو بتصفية مصالح طبقة كبار الملاك والرأسماليين وقام بتصفية الطبقة ذاتها عضويا، يعنى قتلهم هم ومن تناسل منهم بغير رحمة؟، لأنهم كما ثبت فيما بعد مع انفتاح السداح مداح ساهموا فى الإفساد والفساد وحالوا بين مصر وبين نهضة حضارية حقيقية، بل شوهوا الرأسمالية ذاتها ولم يتردد بعضهم عن اعتبار التعامل مع العدو وجهة نظر، باعتبار أنه لا عدو من الأساس، لا فى اغتصاب فلسطين، ولا فى التمييز العنصرى، ولا فى كل ما يتصل بالصهيونية من جوانب؟!.

Comments

عاجل