المحتوى الرئيسى

صعوبات البحث فى مجال العلوم السياسية

07/08 21:44

البحث العلمى فى مجال العلوم السياسية اليوم تعترضه مشاكل وتحديات كثيرة، فطبيعة البحث العلمى فى مجال العلوم الاجتماعية عموما صعبة ومعقدة، لأن الظاهرة محل الدراسة عادة ترتبط بالبشر والمجتمعات والتفاعلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى تتم فى هذا السياق، وهى ظواهر معقدة وصعبة فى الملاحظة ومن ثم البحث والتحليل، فإذا ما كانت الظاهرة المطلوب دراستها هى النظم السياسية وعملية صنع القرار وما تنطوى عليه من دراسة لعنصرى القوة / السلطة والدولة، فإن الأمر يزداد تعقيدا وتتحول الصعوبات إلى مخاطر حقيقية فى الكثير من الأحيان!

كما أشرت فى مقالة سابقة فإن مصر ومحيطها العربى لم يكن يقبل كثيرا بفكرة البحث السياسى المستقل، فمعظم معاهد وكليات وأقسام ومراكز أبحاث العلوم السياسية تم إنشاؤها بغرض توفير نخبة داعمة للسلطة لا متمردة عليها أو حتى مجرد مستقلة عنها، وعلى الرغم من ذلك فالعقدان السابقان للثورات العربية (١٩٩٠ـ٢٠١٠) شهدا استقلالية نسبية وتمردا ملموسا على السلطة من قبل بعض الباحثين فى مجالات العلوم السياسية بأفرعها المختلفة وإذا كنت قد أشرت سابقا لمجموعة من الأسماء التى قادت هذا الاستقلال النسبى من أساتذة العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة على سبيل المثال لا الحصر، فإن هناك أمثلة أخرى من خارج جامعة القاهرة قد فعلت الشىء نفسه بل ومن داخل مؤسسة الأهرام المحسوبة دائما على الدولة/السلطة ومنها على سبيل المثال لا الحصر أيضا أسماء مثل د. محمد السيد السعيد ـ رحمه الله ـ و د. أسامة الغزالى حرب، و د. عمرو الشوبكى. مثل الأساتذة الثلاثة اتجاها جديدا للبحث العلمى المستقل والمتمرد أحيانا على أطروحات السلطة، ثم تحول هذا التمرد النسبى من أروقة البحث إلى العمل العام، وهنا تجدر الإشارة مثلا لتجربة الدكتور أسامة الغزالى حرب مع حزب الجبهة الديمقراطية قبل الثورة وموقفه الرافض للتعيين فى مجلس الشورى عام ٢٠١٠، والأمر نفسه بالنسبة لعدد آخر من الأساتذة والباحثين فى مجال العلوم السياسية الذين انضموا إلى حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير بل وبدأت كتابات مستقلة واضحة فى بعض الجرائد المستقلة مثل «الشروق» و «المصرى اليوم» تعبر عن رغبة هذا الاتجاه فى اتخاذ مواقف عامة معارضة وليست فقط مستقلة عن السلطة مع الاستعداد لدفع الثمن!

كانت الثورة علامة فارقة كما سبقت الإشارة فى كتابات سابقة، بحيث لم نعد نتحدث فقط عن الاستقلالية أو حتى التمرد والمعارضة للسلطة من قبل بعض العاملين فى مجال البحث السياسى، بل أصبحنا نتحدث عن باحثين سياسيين «ثوار» وقد ساعد على ذلك بكل تأكيد انتشار وسائل التواصل الاجتماعى فضلا عن جو الحريات غير المسبوقة التى جعلت الباحثين فى هذا المجال ضيوفا دائمين فى الإعلام والأحزاب السياسية والنقابات المهنية، فضلا قطعا عن تحول بعضهم إلى مقاعد السلطة الجديدة التى تأسست بعد تنحية مبارك سواء كانت سلطة المجلس العسكرى أو سلطة جماعة الإخوان.

لم يكن الأمر فى تقديرى كله خير، ويمكن هنا إيجاز مجموعة من التطورات التى حدثت فى هذه الفترة وكان عدد من الباحثين فى مجال العلوم السياسية مسئولين عنها سلبيا بدرجات متفاوتة بالطبع بحسب موقع كل منهم فى الشأن العام فى هذه الفترة وقد مثلت هذه التطورات عدم القدرة على مواجهة ثلاثة إغراءات رئيسية:

إغراء الإعلام والشهرة: كانت هذه هى الأزمة الكبرى فى تلك الفترة، كان إغراء الإعلام والأضواء شديدا فى تلك الفترة، فى البداية تم دعوة الباحثين السياسيين باعتبارهم خبراء فى بعض القضايا، ثم تحولت هذه الاستضافة من موسمية إلى يومية، فتحول الباحث من خبير إلى معلق يومى على الأحداث، ثم تحول بعضهم إلى إعلاميين، ومن هنا أصبح بعض الباحثين نجوما للمجتمع وتغيرت بوصلة البحث العلمى من الاعتماد على المناهج والأدوات العلمية إلى الاعتماد على والارتكان إلى حسابات الشهرة والنجومية وهو ما أدى فى تقديرى إلى الخصم من تجربة البحث السياسى العلمى المستقل والذى كان مأمولا بشدة بعد الثورة.

إغراء السلطة: أما المشكة الثانية فى تلك الفترة فقد تمثلت فى إغراء السلطة، ذهبت سلطة وجاءت أخرى، ومن هنا فقد تبدلت مواقع بعض الباحثين السياسيين من معارضة السلطة القديمة والاستقلال عنها إلى تأييد السلطة الجديدة وتبنى أطروحاتها وخطاباتها، صحيح أن البعض قد استقال اعتراضا على تصرفات السلطة الإخوانية وانفرادها باتخاذ القرارات إلا أن البعض الآخر أكمل الطريق للنهاية وهو ما أدى لاختلاط المواقف السياسية بأدوات البحث العلمى الذى يفترض فيه الاستقلالية والتجرد وأثبت ضمن ما أثبت أن القيم والمعايير التى ينطلق منها بعض الباحثين السياسيين هى قيم مزدوجة، فالدفاع كان عن ما يقوله ويفعله تيارنا بعيدا عن الارتباط بأى قيم ديمقراطية أو تعددية لطالما تم التغنى بها وقت التواجد فى صفوف المعارضة.

إغراء الشعبوية: كانت الثورة بالأساس عملا جماهيريا، معايير النجاح ترتبط من حيث المبدأ بالقدرة على حشد الجماهير والحصول على إعجابهم وآهاتهم، عوامل الشهرة والأضواء والثورة جعلت بوصلة البعض شعبوية، أى نقول ما يعجب الجماهير ويحصد التأييد والإعجاب بغض النظر عن درجة قناعتنا الشخصية أو البحثية! التورط فى الخطابات الشعبوية كانت سمة لبعض الباحثين السياسيين لدرجة أن فقرة «ما يحبه المستمعون» ورطت البعض فى تصريحات غير منضبطة لا علميا ولا دستوريا أو قانونيا، لم يكن جهلا بقدر ما كان حفاظا على الشعبية والاحتفاء الجماهيرى.

فى تقديرى فإن الإغراءات الثلاثة سالفة الذكر قد سحبت كثيرا من رصيد البحث السياسى المستقل فى الفترة مابين ٢٠١١ و ٢٠١٣ ومعها تم سحب الكثير من مصداقية بعض الباحثين السياسيين وبلغة الإعلام والسياسة تم «حرقهم» وإظهار نواقصهم الشخصية وعدم قدرتهم على التأثير على الشأن العام، فضلا عن أن البعض قد تأثرت علاقته بالطلاب فى قاعات الدرس إما للغياب عن التدريس انشغالا بالشأن العام أو بالتناقض بين النظريات التى تدرس والمواقف التى تأخذ أو مزيج من هذه العوامل جميعا.

الخبرات المقارنة تقول إن ما حدث للباحثين فى مجال العلوم السياسية فى مصر والمحيط العربى قد حدث أيضا لباحثين آخرين فى الخبرات اللاتينية والشرق آسيوية فضلا عن خبرة شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، مع الأخذ فى الاعتبار أن الخبرة المصرية والعربية كانت الأكثر فقرا فى تلك الفترة نظرا لتهافت وبؤس قدرات معظم القوى السياسية تفكيرا وتنظيما وتواصلا!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل