المحتوى الرئيسى

عن تمويل أمراض المسلمين | المصري اليوم

07/08 00:13

تحدثت فى مقال سابق (2017/6/23) عن دور «الحداثة» فى نشأة وتثبيت «الصحوة الدينية» وما صاحبها من تطرف وتدين طقوسى. التطورات فى تقنيات الاتصال، وانتشار التعليم، والهجرة من الريف إلى المدينة، تصاحبها حركة اجتماعية يمكن أن تنتقل معها القيم التقليدية المحافظة فى المجتمع من كونها ثقافة شعبية أو ريفية نائية إلى ثقافة «عليا» تسيطر على السلوك والخطاب العام. وهكذا يمكن أن يتحول التدين التقليدى المرن إلى آخر أكثر صرامة، معتمدا على قراءات حرفية ومتزمتة للنص الدينى.. لكن كان من الممكن أيضا أن تؤدى عملية التحديث إلى استيعاب الجموع الصاعدة مع انتشار التعليم والتواصل الثقافى لمفاهيم المدنية الحديثة، لتترجم مرونة التدين التقليدى فى إطار جديد يتبنى منهج التسامح والتعددية السائد فى المجتمعات المنفتحة.. لكن ما حدث هو العكس، فتحرك المجتمع بأكمله فى اتجاه معاكس فى سياق «الصحوة الدينية».. لماذا؟

الأسباب كثيرة بالطبع، لكن لاشك أن من ضمن ما ساعد على صعود المفهوم الأصولى المتزمت للإسلام ليس فقط فى مصر، إنما فى كل مكان تواجد فيه المسلمون تقريبا، كان الدعم المالى والفكرى والمعنوى المهول الذى أتى من الخليج. هناك مثلا تقرير تم نشره لاحقا من قِبَل مركز دراسات بريطانى محافظ، يسرد دعم دول الخليج للتطرف، حتى فى بريطانيا. وذلك من خلال دعم المساجد، التى تتبنى خطابا متطرفا وتقوم بتوزيع منشورات وكتب تروج لمفاهيم تتناقض مع قيم المجتمعات المنفتحة وتدعو للكراهية، وأيضا توفير منح تدريبية لأئمة المساجد وغيرهم لكى يستوعبوا الخطاب الوهابى فى السعودية.. بل وصل الأمر إلى حد أن تتبنى بعض المدارس الإسلامية البريطانية مناهج سعودية متطرفة، لدرجة أن بعضها قد تم اعتماده فى نظام «الدولة الإسلامية» (داعش) التعليمى.

مركز «هنرى جاكسون»، الذى أصدر التقرير المشار إليه فى وقت حساس، نظرا للأزمة الراهنة التى تتهم فيها السعودية قطر بدعم التطرف، يعتبره البعض مثيرا للجدل. لكن التقرير الذى أنتجه المركز يحتوى على معلومات دقيقة من الصعب اختلاقها كليا.. والتقرير لا ينصف قطر، بل يقول إنه فى الحالة شبه الأكيدة- التى يمكن التيقن فيها بوجود علاقة بين الدعم الخليجى للمساجد التى تنشر الفكر المتطرف والانضمام لـ«داعش»- كانت المساجد المعنية مدعومة من قِبَل «المنتدى الإسلامى» المُمَوَّل قطريا.

الخلاصة أن هناك أدلة ملموسة لا يمكن تجاهلها تشير إلى ما هو معروف منذ حين: أن نشر الدول الخليجية التفسير الصارم للإسلام السائد فيها قد أثر سلبيا على مفاهيم المسلمين عن معنى الدين وكيفية ممارسته، ووضعهم فى مأزق تاريخى.. من بريطانيا إلى أستراليا، ومن العالم العربى إلى إندونيسيا، ومن نيجيريا إلى باكستان حتى كوريا الجنوبية، عمل هذا الدعم على تقليص دور المفاهيم والممارسات التقليدية الأكثر مرونة وتسامحا، وأضعف المِلَل والمذاهب الأكثر روحانية مثل الصوفية والأصوات الوسطية المعتدلة.. فى المقابل، تم دعم المفاهيم والممارسات المتصلبة، التى ينتج عنها فى النهاية نهج التكفير والعنف.. وفى بلدان ذات أغلبية إسلامية مثل مصر، أجهض هذا الخطاب سير عملية التحديث فى اتجاه تبلور مجتمعات مدنية تسودها مفاهيم تساعدها على التواصل مع العالم المعاصر، فصارت فى صراع دائم مع عالم ينظر إليها كالموبوء الكونى، الذى يتحتم علاجه أو عزله.

من المعروف أن السعودية تدعم المفهوم الأصولى للإسلام منذ الستينيات، وكان ذلك جزئيا فى إطار الصراع السياسى مع الأنظمة «الثورية» فى العالم العربى، خاصة فى مصر. لكن الوضع قد تغير، فصارت المملكة نفسها مهددة من قِبَل الإسلام السياسى «الثورى».. وسيكون لدول الخليج مستقبل أفضل إذا امتنعت عن تصدير أزماتها الفكرية والاجتماعية للعالم، وبدلا من ذلك عملت على علاجها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل