المحتوى الرئيسى

البحث عن الديمقراطية فى جزر المحيط! | المصري اليوم

07/06 22:40

لا أقصد، بطبيعة الحال، جزيرتى تيران وصنافير اللتين انتزعتهما الحكومة وتابعها البرلمان، من جسد مصر بالتحايل والالتفاف على أحكام القضاء. ولا يراودنى أدنى شك أنهما ستعودان لمصر يوما، يحسبونه بعيدا، ونراه قريبا. وسيكون هناك يوم للحساب.

هذه أمور استقرت فى وجدان المصريين الذين يربطون الأرض بالعرض. وعلى من يشكك فى موقف الشعب أن يدعو لاستفتائه على الاتفاقية (ولو بطريقة غير رسمية)، أو أن يستفتى فى أمر بقاء البرلمان. هذا هو التحدى، ما دمنا نقول إننا دولة الدستور والقانون والحفاظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.

انقرضت ظاهرة الحكام العظماء الذين يعرفون قدر مسؤوليتهم، مثل (ديجول) الذى استفتى الشعب سنة ١٩٦٨على سياسته، وجاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة، ولكنها غير مرضية له، فاستقال من منصبه، وهو فى أوج مجده. هذه شعوب ونظم ونحن شعوب ونظم أخرى.

لا أتحدث عن الجزيرتين اللتين سلمتا للسعودية غصبا عن إرادة الشعب وسط تهليل نواب واقفين راكعين قاعدين، وصياح بعض الرافضين المقموعين فى مشهد فوضوى بامتياز. ولكن أتحدث عن جزر أخرى دعتنى منظمة الأمم المتحدة لدراسة الإصلاح الدستورى بها منذ سنوات، وهى جزر المالديف.

تقع المالديف شمال الساحل الغربى لسيريلانكا فى المحيط الهندى. يقال إن اسمها يعنى بالأردية جزر السمك، وسماهها العرب ذيبة المهل لأن بواخر التجارة كانت تتمهل عندها. عاصمتها وميناؤها الرئيسى جزيرة مائية. تتكون الدولة مما يزيد على ألف جزيرة تقع على مستوى المياه، والمأهول منها حوالى ثلاثمائة.

انتشر الإسلام هناك فى القرن الأول الهجرى عن طريق التجار المسلمين، وأصبح كل سكانها مسلمين. وتناوب عليها المحتلون أشهرهم البرتغاليون ثم البريطانيون.

ومؤخرا اشترت السعودية جزيرتين بها. عجيب سبب الشغف السعودى باقتناء الجزر كاقتناء طوابع البريد. رغم أن عمر بن الخطاب كان ينهى جيوشه عن تخطى الحواجز المائية فى البلاد التى يفتحونها. ولذلك وقفت جيوشه عند حدود بلاد ما وراء النهر.

نالت المالديف استقلالها، وتحولت إلى جمهورية أعوام ١٩٦٥/ ١٩٦٨. وكان أول رئيس للجمهورية هو إبراهيم يسرى. وتبعه مؤمن عبدالقيوم الذى زرنا البلد فى عهده عام ٢٠٠٥.

لا أحدثكم فى هذه البلاد عن مؤسسات تحكم أو يراقب بعضها بعضا أو عن قضاء مستقل أو عن برلمانات تشرع وتراقب. فليس فيها إلا حاكم أوحد يجمع كل السلطات فى يده. قد يستحدث الحاكم بعض هذه الكيانات كنوع من الزينة السياسية للتواكب مع النظام العالمى الحديث، دون أن يعطى لهذه الكيانات وظيفتها الحقيقية.

ذكر لى رئيس الهيئة العليا للانتخابات هناك أن النتيجة تأتى إليه للتوقيع عليها. وفى القضايا التى تهم النظام السياسى تملى على القضاة الأحكام التى يصدرونها. أما فى غير ذلك من منازعات فيطبقون المذهب الشافعى، وهو المذهب الرسمى للدولة. ولا يتمتع بجنسية الدولة وفقا للدستور إلا المسلم السنى الشافعى المذهب.

تذكرت زيارتى السابقة لدولة عربية أفريقية شقيقة فى إطار بعثة الأمم المتحدة لتقدير احتياجات هذه الدولة فى مجال المساعدة الفنية فى حقوق الإنسان. قابلت موظفا رفيع القدر اسمه (الأمبودسمان) وتعنى أمين المظالم. سألته سؤالا كاشفا: إن ثبتت لديك صحة شكوى مقدمة ضد رئيس الجمهورية وأن قرار الرئيس ظالم، فماذا أنت فاعل؟ راوغ الرجل فى الإجابه كلما حاصرته بها، ثم اعتذر، وانصرف منهيا اللقاء.

قابلنى بعد ذلك وكيل وزارة الخارجية، وعاتبنى على مطالبتى باحترام حقوق الإنسان. وقال لى بالحرف: (نحن لا نجلس فى مكاتبنا نبيع البطاطا). لم أفهم حتى الآن ما يقصده هذا الموظف الأمنى، وما علاقة ثمرة البطاطا بشيوع الظلم. وهل لها علاقة بـ(بيوت الأشباح) التى كان يحشر فيها المعارضون؟ عندنا توجد علاقة بين الظلم ونبات (القرع). اختلاف الثقافات فى مغزى الثمار والنباتات.

أستطيع أن أتفهم دوافع الحاكم المستبد. ولكنى لا أستطيع تفهم عقلية الموظف العام الذى يوظف خبرته لخدمة حاكم مستبد؟ لا بد أنه يحتقر نفسه بشدة، وكلما ازداد احتقارا لنفسه أوغل فى القسوة على الناس والتعالى عليهم للتعويض النفسى.

فى الدول الديمقراطية تراقب المؤسسات بعضها، دون تحيز أو تربص. انظروا إلى نموذج كوريا الجنوبية والبرازيل فى تصدى مؤسساتهما للفساد. المسألة ليست شهوة للمحاسبة أو تصفية حسابات، ولكنها حقوق الأوطان. ولهذا تتقدم هذه الأوطان، ويزدهر اقتصادها ويعيش مواطنوها مكرّمين حتى ولو كانوا فقراء. الفقر الأكبر هو فى غياب القيم الرشيدة والحكم الصالح واحترم الإنسان، وليس فى شح الموارد المالية.

كان وفد الإصلاح الدستورى والسياسى لدولة المالديف مكونا من رئيس وزراء البوسنة السابق واثنين من الباحثين الأمريكيين وكاتب هذه السطور. قبل زيارتنا مباشرة ٢٠٠٥ شهدت البلاد مظاهراتٍ واضطرابات عارمة ضد حكم الرئيس (مؤمن قيوم) قادها غريمه الليبرالى (محمد ناشد) الذى أصبح رئيسا فيما بعد عام ٢٠٠٨.

أودع الرئيس قيوم كل غرمائه السياسيين فى محبس فريد من نوعه، هو جزيرة صغيرة تحرسها قوارب مسلحة، ويهيم السجناء فيها، ويأكلون من أسماكها وثمار أشجار جوز الهند. ذهبنا لزيارتهم لمعرفة مطالبهم التى انحصرت فى الديمقراطية ومحاربة الفساد. اجتمعنا بالمسؤولين الحكوميين وبممثلى المجتمع المدنى. وكان البون شاسعا بين من يصمتون خوفا، ومن يصرخون هلعا.

وتحدد لوفدنا موعدا لمقابلة الرئيس فى قصره الأبيض الفخم. يقال إنه قد بنى على نفقة أحد السلاطين الآسيويين الذين يحتكرون توزيع منتج (الجونى ووكر) هناك. نجح ( قيوم) مع استبداده فى تحويل بلاده إلى منتجع لأثرى الأثرياء الذين لا تستقيم لهم السياحة إلا بالشراب.

استصدر فتوى بإباحة الخمر فى الجزر خارج العاصمة، بدعوى أنها خارج ولاية الحاكم المسلم. الرئيس قيوم خريج الأزهر، ويحب مصر حبا جما. أنصت إلى أعضاء الوفد الزائر. حدثوه عن المعايير الدولية، وهو ضجر. ابتسم فى وجهى، وأرهف أذنيه. أعلم أن هؤلاء الحكام يضجرهم الحديث عن القانون، ويطربهم (البساط الأحمدى)، فارتأيت أن أكون ثرثارا أحمديا.

قلت له إن صديقك مبارك أتى بالمعارضين من السجن إلى القصر، فأحدث فى بداية حكمه حالة من الاسترخاء السياسى. وقد يكون من المناسب الاقتداء به. فى اليوم التالى أفرج عن معارضيه. وتم تعديل الدستور لاحقا، وسمح بتعدد الأحزاب. وأجريت انتخابات حرة فاز فيها غريمه محمد ناشد الذى أقصى عن الحكم لاحقا بتهم الفساد.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل