المحتوى الرئيسى

إمام عيسى.. شيخ الممنوعين ومؤرخ الشعب - E3lam.Org

06/28 14:16

شاركها Facebook Twitter Google +

إذا كان التاريخ ينحاز في الأغلب للمنتصرين، فإن الفن يبقى ملاذًا لأبناء الخسارة، فإلى جانب الرواية الرسمية، والتي تتبناها النظم الحاكمة، تبقى الرواية الشعبية للحدث ذاته عنصرًا مهمًا في بناء صورة المجتمع، وفي الحصول على قصة متماسكة ترفض أن يقتطع منها، أو أن تتجمل إرضاءً لأحد.

ومن ثم فإن تتبع مسارات الفيلم الممنوع هنا، أو الأغنية الممنوعة هناك، يمكن أن يقودك إلى تاريخ أخر، يختلف كليًا عن الذي يدرس في المدارس، أوعن الذي يظهر على التلفاز.

ومن بين كل الممنوعين يبرز إسم الشيخ إمام عيسى فيبدو إمامًا لكل الذين منعوا، ورمزًا للصوت الذي يعلوا وإن حجبته الإذاعات الرسمية.

ولد الشيخ إمام عيسى في الثاني من يوليو عام 1918، ولم يكن حتى قرب الخمسين سوى رجل هادئ، من ملايين يطحنهم الفقر والمرض، حفظ القرآن في صغره، والتحق بالجمعية الشرعية، وطرد حين ضبط متلبسًا يستمع للشيخ محمد رفعت عبر الإذاعة، وكانت الجمعية الشرعية -حينها- تحرم الاستماع إلى الراديو، وألجأه الطرد إلى الشارع، وإلى المبيت في جوامع العاصمة، وعلمه الشارع لغة الناس، ودارت به الحياة دورتها فتعلم الموسيقى وتتلمذ على يد الشيخ درويش الحريري، والشيخ زكريا أحمد وخلع الجبة والقفطان وارتدى البدلة وغنى.

وفي عام 1962 التقى رفيق دربه الشاعر أحمد فؤاد نجم، حين قدمه إليه ” سعد الموجي ” وكان صديقًا مشتركًا للاثنين، فأخرجوا معًا أول إنتاجهم المشترك ” أنا أتوب عن حبك أنا ”

وإن شا الله يخربها مداين عبد الجبار

كانت الهزيمة في يونيو عام 1967 زلزالًا هز المجتمع المصري من جذوره، وكانت صدمة نجم وإمام واسعة للغاية، وحزنهم عميقًا، بعمق الآمال التي وضعوها على الثورة وعلى جمال عبد الناصر، إلا أن صدمتهم جاءت مختلفة عن الصدمة التي تلقاها مثقفو مصر، ففي الوقت الذي كان فيه الشعر انتحاريًا، ويائسًا، كما شعر صلاح عبد الصبور مثلًا، كتب نجم شعرًا حادًا للغاية، وساخرًا إلى أقصى درجة، شعر وصفه الكاتب الصحفي صلاح عيسى بشعر الصعاليك ” الصعاليك لا يحزنون، إنما يقذفون من يتسبب في حزنهم بالحجارة، ويعلقون فأس الهزيمة في رقبة المهزوم”.

وفي حين كانت أم كلثوم تغني لعبد الناصر بعد التنحي ” ابق فانت السد الواقي لمنى الشعب”، وفي حين غنى عبد الحليم حافظ ” ناصر يا حرية ” أخذ إمام يصرخ ” الحمد لله ولا حول / مصر الدولة / غرقانة فى الكدب علاوله / والشعب احتار / وكفاية أسيادنا البعدا / عايشين سعدا / بفضل ناس تملا المعدة / وتقول أشعار/أشعار تمجد وتماين / حتى الخاين/ وإن شا الله يخربها مداين / عبد الجبار”.

وبانطلاق صوت إمام وتناقل أغانيه خارج حارة ” خوش قدم ” حيث كان يغني في غرفته المتواضعة، تنبه النظام في مصر إلى هذا الصوت الهادر، وإلى الغضب بداخله، فبدأ ما أسماه إمام بمحاولات الاحتواء، دُعي نجم وإمام ورفيقهم الثالث محمد علي إلى نقابة الصحفيين حيث غنوا بعض أغانيهم، وتعاقدت الإذاعة معهم على أداء إمام لبعض الأغنيات بصوته، والتي كانت – وبالعودة لبعض هذه التسجيلات- أغنيات اجتماعية يسارية مسموح بغنائها في ظل نظام عبد الناصر الاشتراكي بعيدًا عن الأغنية السياسية، إلى جانب تعاقد بعض المغنيين مع نجم وإمام للغناء من كلمات نجم، وألحان إمام، الأمر الذي لم يستمر طويلًا إذ لم يقدم الثنائي تنازلات في ما يخص الأغنية السياسية، فمنعت تسجيلاتهم من الإذاعة، واختفت الأغاني التي لحنها إمام لبعض المغنيين ولم تبق بغير صوته، وانتهى الأمر إلى اعتقال الرجلين أواخر عهد الرئيس عبد الناصر.

” لا صدقي ولا الغول، عبد الناصر هو المسؤول “

أسست أغاني الشيخ إمام في تلك الفترة إلى مبدأ مسئولية الرئيس، وأنزلت جمال عبد الناصر من مرتبة نصف إلهية، ترى فيه المنقذ والأب والزعيم، إلى مرتبة الحاكم المسؤول أمام الشعب، والذي يجب أن يحاسب، والذي توجه إليه الأغاني نقدًا حادًا، بدلًا من التمجيد المستمر الذي كان يحظى به.

النقد الذي لم يتوقف عند الغناء، بل امتد ليصبح هتافات صاخبة حين انفجر الشارع في 1968 بعد أحكام هزيلة ضد قادة سلاح الطيران الذين تسببوا في الهزيمة، فخرجت المظاهرات الطلابية تهتف ” لا صدقي ولا الغول، عبد الناصر هو المسؤول” وأسست هذه الهتافات لانفصال تاريخي بين جيلي الآباء والأبناء، الانفصال الذي غنى له إمام من كلمات محمد جاد الرب ” وهتنطق إمتى يا بابا/ وتقول إن إحنا في غابة/ وشريعة الغابة موات”

يا حبايبنا، أوعوا تفتكروا إننا تبنا

قضى إمام ثلاث سنوات في السجن، حتى وفاة الرئيس عبد الناصر، وأفرج عنه السادات عام 1971 ضمن من أفرج عنهم من المعتقلين السياسيين، إلا أنه سرعان ما عاد هو ونجم للمعتقل بعد أن وجهوا سهام أغانيهم للرئيس الجديد هذه المرة، والذي إمتد خلافهم معه طوال سنوات حكمه.

وتعتبر السيرة الغنائية للشيخ إمام في هذه الفترة تأريخًا للأحداث بمنظور شعبي بحت، فحين خرج الطلاب إلى الشارع في 1972 يستعجلون قرار الحرب، غنى الشيخ إمام ” رجعوا التلامذة للجد تاني ” ، و” سلام مربع للطلاب ” وغيرها، وحين عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس وبدأت حرب التحرير في أكتوبر من عام 1973، غنى للشعب وللعساكر، في الوقت الذي كان فيه الغناء للقادة أمرًا مألوفًا، فغنى من كلمات أحمد فؤاد نجم ” دولا مين ” ومن كلمات زين العابدين فؤاد ” الفلاحين ” وهي القصيدة التي كتبها على الجبهة يوم 7 أكتوبر وأملاها تليفونيًا لجريدة الجمهورية.

مين فيكو ميعرفش عليوة ؟!

وبعد الحرب ونتيجة للسياسات الانفتاحية التي اتخذها السادات، وللإجراءات الإقتصادية التي رآها كلًا من نجم وإمام عصفًا بمكتسبات يوليو، وإنحيازًا للأغنياء على حساب الفقراء، تحولت الأغنيات إلى مواجهة تأخذ طابعًا طبقيًا، فكتب نجم بعد الحرب بعام واحد، ” موال الفول واللحمة ” وغناها الشيخ إمام، وظلت هذه الكتابة الإجتماعية سائدة حتى نهاية عصر السادات عام 1981 حين كتب ” بوتيكات ” ورمز للتحولات الإجتماعية الحادثة في المجتمع المصري، بشخص سماه ” عليوة ” في الأغنية التي كتبت في سجن الإستئناف وغناها إمام عقب الخروج من السجن في بدايات عهد مبارك ” مین فیكوا ما یعرفش علیوه/ شیال المینا الكحیان/ فى ثواني اتمول واتحول/ بقي مسیو علیوة علیان” في إشارة إلى الغنى المفاجئ الذي أصاب البعض نتيجة للفساد ولمساوئ الانفتاح الذي أسماه الكاتب أحمد بهاء الدين ” انفتاح السداح مداح ” وهنا تجدر الإشارة إلى أن التغيرات الإقتصادية والإجتماعية التي أحدثتها سياسات الرئيس السادات كانت هاجسًا جماعيًا للمثقفين المصريين، ففي نفس العام الذي كتبت فيه ” بوتيكات ” عرضت السينما فيلم أهل القمة من تأليف نجيب محفوظ وإخراج علي بدرخان، وفي عام 1982 حين كان الشيخ إمام يغني يا ” نطرة رخي رخي ” ويتحدث عن الغربان السود، كان عاطف الطيب يخرج ” سواق الأتوبيس ” من بطولة نور الشريف، ليطلق صيحة استغاثة الطبقة المتوسطة، التي تطحنها السياسات الاقتصادية الجديدة.

واحنا أصحاب القضية .. احنا ما بنبيعش مصر

ولم تكن السياسات الاقتصادية هي موضع الخلاف الوحيد بين نجم وإمام والسلطة الحاكمة، فقد كان لتوجه السادات ناحية الغرب أثرًا عميقًا في غناء إمام، فهاجم السادات بضراوة شديدة، وهاجم إتجاهه ناحية توقيع معاهدة السلام مع الإسرائيلين، واعتبر في أغانيه الأمر خيانة لدماء الشهداء، الأمر الذي كان عليه مجموعة من مثقفي مصر في ذلك الوقت أبرزهم أسامة أنور عكاشة، وأمل دنقل، وجمال الغيطاني وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم.

بيد أن أغنيات إمام المعارضة للتوجه ناحية الغرب ظهرت في وقت مبكر للغاية ومن أبرز هذه الأغنيات ” شرفت يا نيكسون بابا ” والتي غناها بالتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر عام 1974، رافضًا زيارة أي رئيس أميركي للقاهرة، الأغنية التي تمثل بها البعض مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة العربية.

وحين وقع السادات معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، قابلها إمام بعاصفة من الأغنيات الغاضبة وكان مما غنى أغنية بعنوان ” يا عرب “، اعتبر فيها المعاهدة استكانة للأجانب، وبيعًا لمصر.

فين أخر الصبر يا شيخ أيوب، ولأمتى الحر يبات مغلوب؟!

وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقف الشيخ إمام من كامب ديفيد ليس مستغربًا بالمرة، إذا ما تتبعت السيرة الغنائية للرجل، فالمغني الممنوع دومًا من السلطات الرسمية، يعتبر فلسطين جزءًا رئيسيًا من مشروعه الغنائي، ولطالما غنى للمقاومة، ولفلسطين، فكان من الطبيعي أن يرفض معاهدة يرى فيها انتقاصًا لحقوق الفلسطينين، وللحرب التي طالما تغنى بها، وللنصر الذي عاش يبشر به الفلسطينين.

يروي أحمد فؤاد نجم أن قادة المقاومة الفلسطينية توسطوا له ولإمام عند الرئيس عبد الناصر عند إعتقالهم للمرة الأولى، غير أن عبد الناصر رفض الإفراج عنهما طالما بقي حيًا، وبالفعل لم يخرج الرجلان سوى بعد وفاة جمال.

ويروي الدكتور محجوب عمر في مقال له نشر بعد أسبوعين من وفاة الشيخ إمام أن فدائيًا فسلطينيًا عرف بالإسم الحركي ” محمود ” ظل ينسخ أغنية إمام ” فين أخر الصبر يا شيخ أيوب ” ويوزعها على الفدائيين الذين يقومون بعمليات خلف خطوط الإسرائيلين ليكون الاستماع إليها سلواهم في الطريق، وظل مصرًا على نسخ ذات الشريط حتى مع حفظ الفدائيين للأغنية، السر الذي ينكشف عندما يصطدم هذا الفدائي مع قوات الاحتلال في معركة تنتهي بإستشهاده وإعلان الجيش الإسرائيلي إسمه الحقيقي ” أيوب خميس أبو لبن ” والقصة التي تبكي الشيخ إمام فيسجل من فوره شريطًا جديدًا يرسله للمقاومة في فلسطين.

لا عمري طبلت في حضرة ولا قلت حاضر للنصاب

وباغتيال السادات في أكتوبر من عام 1981، وخروج الشيخ إمام من المعتقل، كان عصر الأغنية السياسية قد بدأ في الأفول، إذ تراجع اليسار من ناحية أمام التيارات اليمينية التي صعدت طوال عصر السادات، واغتالته في النهاية، وتراجعت حرارة الأحداث السياسية من ناحية أخرى بتولي مبارك حكم مصر، إذ كان مبارك يميل للمراوغة، والدبلوماسية مع خصومه ويتجنب في أغلب الأحيان الدخول في صراعات مباشرة، ما أحدث حالة من الخمول السياسي ساهمت بدورها في قتل الأغنية السياسية.

وبرغم هذه الحالة من الخمول فإنه لا يمكن إغفال كون السنوات الأولى من حكم مبارك، شهدت أحداثًا مهمة في حياة الشيخ إمام الفنية، إذ دعي للسفر والغناء خارج مصر، وغنى عددًا من الأغنيات المهمة، يمكن اعتبارها أغنياته الوداعية قبل أن تنزوي الأضواء عنه نهائيًا لما يقرب من 10 سنوات حتى وفاته في 7 يونيو من عام 1995 في خوش قدم، من نفس مكانه يوم بدأ الغناء، ليخرج الرجل من الدنيا خفيفًا ليس معه شيء، ولم يغنم من مواقفه شيء، ما يجبرك على احترامه واحترام فنه حتى وإن اختلفت مع ما يقدمه جزئيًا أو كليًا.

يبقى إمام عيسى أيقونة ثورية، ومؤذنًا للحرية في كل عصر، ويبقى رجلًا مدمرًا دمر ” تابوهات ” السلطة المقدسة، ودافع عن رأيه ببسالة ودفع ثمن غنائه، هاجم الجميع، وسامح الجميع حتى أولئك الذين غنوا أغانيه في حياته، دون أن يهتموا بإعطائه شيئًا من حقوقه، وحين مات نعاه الكل من الألوان والأطياف كافة، حتى الذين اختلفوا معه حيًا ..

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل