المحتوى الرئيسى

العشوائية فى صناعة الرأى العام

06/21 22:55

نشرت صحيفة ليبيا المستقبل مقالا للكاتبة «آمنة أحمد القلفاط» جاء فيه أن القضايا السياسية تتغير صعودا وهبوطا وفق متطلبات المصالح المعلنة أحيانا، وغير المعلنة فى كثير من الأحيان. وبنفس درجة حرارة الصعود والهبوط تكون المناقشات السياسية وما يتعلق بالمستجدات والمنعرجات الهامة بين النخب المهتمة بالشأن العام يحركها ما يطرأ على الساحة السياسية محليا ودوليا. اعتادت النخب على النقاش والتشاور بشأن مختلف القضايا وفق أسس معتمدة على قواعد ومنهجية علمية وكذلك على حنكة جاءت من خبرة وممارسة طويلة، بهدف تقليل الخسائر والوصول لأفضل المطالب، كما يحدث بين الأحزاب المتنافسة على السلطة وحكومات الظل. ربما دخل الخائضون فى بحرها متغير الأهواء فى معارك شد وجذب واقناع وتأثير تأخذ مداها الزمنى بالضرورة، كما أنها تستجد وفقا لما يطرأ على الساحة من متغيرات وما يعقد من اتفاقيات.

القضايا السياسية التى تهم بلدا، أو عدة بلدان تربطهم مصالح مشتركة، كانت حتى ماض قريب، مادة خصبة للنقاش بين مختلف الأوساط الاجتماعية والمستويات العلمية المتفاوتة من أحزاب سياسية ونقابات ومراكز بحثية مختلفة. بحيث تتدرج وفق الممارسات السياسية ونوعية المشاركة متمثلة فى كم المعلومة المتاحة عبر الوسائط الإعلامية المختلفة بمعايير حرفية وتخصصية فى أغلب الأحيان، بغض النظر عن كونها تتبع نظاما سياسيا ذا توجه معين، فهى فى كل الأحوال تتبع خطوط تلك السياسة.

مع الانفتاح الواسع للإعلام بكل إيجابياته، وجد الجميع فضاء التواصل الهائل مرحبا بكل مشارك. فأصبح حق المشاركة مكفولا للجميع بأيسر الطرق وأسرعها. الجميع دون استثناء أصبح جزءا فاعلا فى صناعة الرأى العام. تغيرت الصورة النمطية العامة، من تبنى الآراء السياسية وفق محصلة عامة تعتمد على قواعد منهجية مدروسة، إلى مشاركات عشوائية وغير عشوائية تعتمد فى مجملها على العواطف والمقاييس الفردية، مع سهولة المشاركة، وبمتطلبات تعتمد على القبول الاجتماعى، طريقة العرض والموهبة فى إيصال الفكرة. يمكن للمشارك أن يصبح محللا سياسيا يحظى بآلاف المتابعين والمهتمين. فى هذا الخضم برزت أيضا ما يطلق عليها الجيوش الالكترونية والتى تشرف عليها المؤسسات ذات الصلة لتسويق افكارها بطريقة غير مباشرة بحيث تظهر وكأنها تعبير عن القاعدة بينما هى فى الواقع مبرمجة فى اتجاه أطراف معينة.

أمام هذه الموجة، تراجع بعض ممن يتمتعون برصيد علمى ومؤهلات تمكنهم من التحليل والاستنباط ورصد النتائج وصناعة المقاربات. ربما لأن الساحة اختلفت كمًّا وكيفًا، ربما لأن الأسلوب الاحترافى له أدواته، والذى يمثل عامل الوقت ونضج المعلومة عاملين مهمين له. قد يفتقر المحلل الخبير أو المثقف أيضا إلى الأسلوب البسيط الذى يصل به إلى قلوب المتابعين المنتظرين جديد اليوم والساعة. كما أن المثقف يحتاج بيئة خاصة يبدع من خلالها تتمثل فى دورة الأفكار مع غيره من المثقفين. المثقف يعتمد فى طرحه على نضج فكرته ليعرضها ثم يتتبع نتيجة ميلادها وقبول الناس لها وتفاعلهم معها. للمثقف أوقاته الخاصة لعمله وعائلته ومشاكله الحياتية، والأفكار العظيمة تحتاج وقتها ووقودا لاستمرارها وبيئتها الصالحة لتثمر فى أذهان الناس.

كثير من القضايا الدولية المهمة لعب فيها رأى الشارع دورا محوريا غيّر مجرياتها دون أن يعتمد هذا التغيير على آليات علمية تأخذ المصلحة العامة فى اعتبارها. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى مثلا، أثرت به وسائط التواصل بشكل كبير وفق رغبة الشريحة الأكبر عددا والأقل اطلاعا وثقافة والتى تمثل شريحة ذوى الدخل المحدود، أملا منهم فى تحسين مستوى خدمات الحكومة بالدرجة الأولى. اختيار الرئيس الأمريكى ترامب، جاء أيضا نتيجة استثارة الشريحة الأكثر عددا من ذوى الدخل المحدود أملا منهم فى الحصول على فرص عمل وزيادة إنفاق الدولة على القطاعات العامة. اعتمدت النسبة الأكبر على تغريدات ترامب النارية، البعيدة عن المنطق المتعارف عليه فى التدابير السياسية، ليحصد فوزه رغم انعدام خبرته السياسية. لعبت وسائط التواصل الاجتماعى دورا كبيرا فى ثورات الربيع العربى وصناعة رأى عام طامح للتغيير دون استيعاب واف لمراحله أو دراية كافية بمستلزماته.

من الصعب أن يرتقى البسطاء لمستوى فهم المسائل السياسية المعقدة، وبالتالى ممارستها بحرفية والتماهى معها وفق هدف عام واضح. إذا ليس من بديل فى أن تنزل السياسة لمستوى القاعدة العامة. والإناء ينضح بما فيه. وعلى قدر أولو العزم تؤتى العزائم. سيجد الممارس للسياسة فى دولنا صعوبة فى التعاطى مع تباين شديد فى وجهات النظر تزيد وتيرتها باستخدام شبكات اعلامية سهلة، متاحة دون كلفة ولا عناء. وسيجد نفسه ملزما بالتعاطى مع الساسة الجدد الذين صعدوا من خلال البسطاء وتبنوا خيارات متعددة يصعب معها إن لم يستحيل التوافق.

وهكذا وجدت القاعدة العريضة نفسها وجها لوجهة مع حقائق صادمة، فالشعوب عرفت حقها فى الممارسة السياسية وتبادل المعلومة لكنها تفتقر للخبرة، كما ساهمت الشعوب فى تدمير ما لديها من معطيات بسيطة، كان من الممكن البداية بها. لتدخل فى دوامة البحث عن ماذا تريد وكيف؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل