المحتوى الرئيسى

الرقص في رمضان

05/29 00:48

أتمنى أن يكون من بين قراء المقال هذا علماء نفس أو أناس ضليعون في تحليل النفس البشرية، حتى يحللوا للفتى هول ما رآه في رمضان.

أحسنُ المقرئين يشدُّون الرحالَ إلى أميركا وأوروبا لصلاة التراويح هناك، والفنانون هنا يوقِّعون عقودَ سهراتهم بالمزاد والتفاوض، إذا رأيتَ كلَّ هذا أو شيئاً منه فأعلم أنك في بلاد عربية مسلمة، إذا رأيتَ أن أشجى الأصواتِ الصادحة بالذكر الحكيم ستغرِّد بمساجدَ ليست في بلادٍ مسلمة، ربما استرق منها السمع رجل من ديانة أخرى مرَّ صدفة على باب المسجد فاستمتع في سره، فيما يستمتعُ القومُ هنا بأنغام تنتعش في رمضان، بحيث يصبح الخيار متاحاً جداً حسب تنوّع الأنغام واختلافها، إذا رأيتَ هذا أيضاً، فأعلم أنك في عصر المماليك الحديث.

القومُ هنا يسهرون جراء أغنيةٍ ويختصمون، يختصمون لولوج القاعة الحاضنة للسهرة وفنانها تلك القاعة التي لن تكون مسؤولة عن ضيقها، أي تأخر بعد التاسعة سيعرض صاحبه لقضاء السهرة وقوفاً، فالأماكن محدودة جداً، سارعوا، سارعوا قال المعلنون عن السهرة، فردَّ القوم أنْ سمعنا وأطعنا ثم سارعنا، المهم أن تزهُوَ مسامعنا الليلة بترنيمة صاحب حنجرة الذهب.

اليوم فقط خطر ببالي السؤال بعد سنين من الملاحظة، وقد أكون متأخراً في طرحه، اليوم أستحضر فضول طفل نشأ وأكمل طفولته كلها في بلدة صغيرة، تلك البلدة التي كانت تنتشي فرحاً بالشهر الفضيل وتتوهج مصابيحها ترحاباً، رائحة القدوم كانت تفوح قبل القدوم بشهر أو يزيد، فيستجمع الناس كل ما يليق بهذا الزائر، يجددون همةً كانت فاترة أو مقصرة، ذاك الطفل فكَّر مراراً في أن يرتقي سُلَّماً من مئذنة مسجد حيهم العتيق، ثم يعرج إلى السماء مباشرة، بعد أن أخبره والده أن أبواب السماء تفتح في رمضان، قالها الأب مجازاً فظنها الطفل على قصر فهمه حقيقةً.

وربما ظنَّها حقيقةً حين لم يكن يستشعر إلا الأجواء الروحانية والنشوة الرمضانية الجميلة، لا شيء غير أضواء منيرة وأصوات عذبة تنبعث من مكبرات الصوت، تصدح بالذكر الحكيم لتبيع البركة مجاناً على المارَّة والجلوس والمتضرعين وكل الناس، في آناء الليل وأطراف النهار.

كل ذلك جعله يتأكد أن الصعود إلى السماء ضربٌ من التسلية فقط، لكن الطفل لمَّا كبر لم يصعد السماء، فقد غيَّر رأيه لأنه أحسَّ أن الأبواب موصدةٌ، وألَّا علاقة بين الأرض والسماء في هذه المدينة التي ارتحل إليها، مدينة كبرى لا تشبه بلدته الصغيرة إطلاقاً، بها أشياء لم يكن قد رسمها طفلاً في مخيلته، ورغم أن الواقع فرضها بألوانها إلا أنه ما انفك يُكَذِّبُ بعضَها، لم يصدِّق أنَّ بعضَهم أمضى النهارَ صائماً، ثم ما إن حلَّ الليل تحوَّل راقصاً، وكأن الليل جاء بما يُرَوِّح به المرء عن مشقة يوم مضنٍ.

والده لم يخبره أيضاً أن المدينة التي سيتوجه إليها حين يكبر، يأتيها أولئك الذين يسمونهم بالفنانين، أولئك الذين لم يكن يراهم إلا على الشاشة، كل ما كان يفعله والده صلاة التراويح، ثم جلسة مقتضبة مع صديق، تهجد في الليل، ثم سحور، حتى تلك السهرات التي كانت تقام ببلدته الصغيرة لم يكن يلقي لها بالاً، رغم أنها كانت في مجملها مديحاً دينياً أو إنشاداً فقط.

كبر الولد واتَّسعت عيناه لتنمو فيهما الملاحظة بشكل فظيع، حتى إنها أرجعته فيلسوفاً كثير السؤال والفضول، في إحدى ليالي العشر الأواخر توجَّه إلى حفل مسابقة في القرآن الكريم، أقيمت في فندق من 5 نجوم، جلس مشدوداً مع صوت ذلك الفتى اليافع الذي يختلج الآذان طوعاً أو كرهاً، لكن ما إن فرغ الفتى من ترتيله حتى أتى صوت آخر من بعيد يختلج الآذان كرهاً، كرهاً فقط، ذهب ليتأكد من الطامة التي تخيلها، فإذا هي فاجعة وليست طامةً فحسب.

في قاعة مقابلة، أشكالٌ ووجوهٌ تخيف حين التفرّس فيها، شاخصة أبصارهم في فنان لا يشق له غبار في نظرهم، يغني وكأنه يصرخ، لكن الجميع منبهر ينصت بشغف ويرد الصدى برقصة متناغمة لا تخرج عن الإيقاع، يا سبحان الله، ما الذي يحدث؟ ولماذا لا يحترم هؤلاء قدسية الشهر الفضيل؟ على الأقل لو احترموا قداسة القرآن الكريم وأقاموا حفلاً بعيداً عن هنا، يتساءل الفتى كيف يسمح بالقيام بسهرات راقصة في عز رمضان؟ وكيف أن الأغاني تعزف بنفس المكان الذي فيه تُتلى آيات الله!! أسئلة كثيرة تدور في خَلَد الفتى.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل