المحتوى الرئيسى

إعادة القراءة وإعادة الكتابة

05/28 22:19

يحتاج التاريخ بين حقبة وأخرى إلى إعادة كتابة، لكنه بدرجة أشد يحتاج إلى إعادة قراءة مستمرة ودائمة، تتيح اكتشاف ما هو غامض أو خفى، وتبين ما لم يكن واضحاً، واستنطاق المسكوت عنه، ويساعد على إعادة الكتابة وكذلك إعادة القراءة اكتشاف وثائق وأوراق جديدة، تبين وقائع لم تكن ظاهرة، فضلاً عن مستجدات العصر واللحظة الراهنة، ومن هنا نجدد فهمنا ورؤيتنا للتاريخ ورجاله، وقد نعيد النظر فيما ثبت لدينا من آراء وأفكار أو حتى انطباعات، ومن أسف أن كثيرين منا يتعاملون مع رجال التاريخ وأحداثه بالانطباع الذى قد يخلفه عمل درامى أو جملة فى برنامج تليفزيونى، ونحن لا نريد أن تكون علاقتنا بالتاريخ قائمة على مجموعة انطباعات عابرة، نريد أن يتكون وعى عام بالتاريخ وأن يصبح جزءاً من ثقافة المواطن العادى، ناهيك عن المتخصص والدارس، وساعتها يتحول التاريخ إلى كائن حى بيننا، يضيف إلينا ونأخذ منه ما يعيننا على التقدم والانطلاق، بدلاً من أن يصبح عبئاً علينا، فيقدسه البعض بسذاجة أو يحاول البعض الآخر أن يلغيه ببلاهة، وربما بالتآمر أحياناً، وربما لمصالح جد صغيرة وضيقة.

وربما يكون المتشددون والإرهابيون هم أكثر من جعلوا التاريخ بقراءة مغلوطة وفهم مريض، عبئاً على مجتمعاتنا وعلى التاريخ ذاته والمستقبل أيضاً.

التاريخ الإسلامى تحديداً برموزه وشخوصه تعرض لكثير من القراءات المغلوطة حيناً والهوجاء حيناً آخر، وراح يتوارى خلفه الإرهابى والمتشدد والمدعى وو.....!!

إعادة قراءة وكتابة التاريخ لا تتم من باب الرفاهية الأكاديمية، ولا التسلية ولا تتأتى من باب التنطع والتطفل على التاريخ بأحداثه وشخصياته، إنما تتم لاحتياج معرفى ولضرورات أو مستجدات سياسية واجتماعية وثقافية، باختصار ليست هناك قراءة مجانية للتاريخ، هناك دائماً الهدف والغرض، حتى وإن كان فى دائرة اللاوعى، قد يكون الغرض سياسياً أو فكرياً، وربما للتعبير عن مصالح أو محاولة إثبات شىء ما، مثل الدفاع عن هوية معينة، مذهبية أو عرقية وطائفية، أو لاثبات ادعاء ما، مثل أولئك الذين حاولوا أو يحاولون أن يثبتوا أنه لم يكن هناك «شعب فلسطينى» عاش على أرض فلسطين، أو إثبات أن فلسطين - نفسها - لم تكن موجودة ذات يوم.

وبهذا المعنى لم يكن غريباً، ومصر تسعى لاستقلالها فى القرنين التاسع عشر والعشرين، أن يعيد المؤرخون المصريون الاعتبار للسلطان طومان باى، الذى أعدم على يد سليم الأول بسبب دفاعه عن استقلال مصر، سنة 1517، وهكذا وجدنا كتاب «ابن زنبل الرمال» يتم نشره وتحقيقه، وهو ينصف طومان باى، ثم رواية محمد سعيد العريان «على باب زويلة» وبعدها كتاب د.حسين فوزى «سندباد مصرى»، لم يكن ممكناً ومصر ترزح تحت الاحتلال العثمانى، أن يُذكَر بخير طومان باى، بل لا يُذكَر بالمرة، كان هناك نوع من الصمت حوله، وإن كان الضمير الجمعى للمصريين ظل يحمل له تقديراً وإكباراً، غير محدود، أما وقد سعت مصر للاستقلال وأخذت تسترد روحها، منذ محاولة على بك الكبير، كان من الطبيعى أن يعاد قراءة تاريخ مصر فى القرن السادس عشر، ويوضع طومان باى فى مكانه اللائق كسلطان دافع عن استقلال بلاده، ولم يساوم على هذا الاستقلال، حتى وإن اقتضاه ذلك أن يضحى بحياته وشنقه على باب زويلة، ولم يكن غريباً أيضاً أن يعيد عدد من المؤرخين المصريين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية النظر فى شخصية أحمد عرابى، باعتباره زعيماً إيجابياً فى التاريخ المصرى، كانت النظرة الرسمية أو التقليدية تحمّل عرابى مسئولية وقوع الاحتلال البريطانى لمصر، ولكن مع الكراهية الشديدة للاحتلال البريطانى، وجدنا فى نهاية الأربعينات كتاب د.الخفيف «عرابى الزعيم المفترَى عليه»، وكذلك كتاب عبدالرحمن الرافعى الذى ينصف عرابى، وصدر عن «دار الهلال»، وصودر بعض الوقت؛ ولم تعد النظرة إلى أحداث 1882 باعتبارها «هوجة عرابى»، لكن «ثورة عرابى»، بالتأكيد وقع عرابى فى عدة أخطاء، لكن لا يصح أن نحمّله وحده مسئولية الاحتلال.

ولا يدخل فى باب إعادة قراءة أو كتابة التاريخ، تمترس البعض خلف التاريخ للتعبير عن آراء ومواقف أيديولوجية وسياسية، قد لا يتمكن أصحابها أو تنقصهم الشجاعة للتعبير عنها؛ هذا يدخل فى باب الحملات السياسية والدعائية وليس عملاً تاريخياً ولا يدخل فى مجال وقواعد الدراسات التاريخية.

ولا يدخل كذلك فى باب إعادة قراءة أو كتابة التاريخ، التعبير عن الإحن أو مشاعر الكراهية الشخصية أو الفئوية، وأحياناً ما تكون المعارك الثأرية مدفوعة أو لحساب الغير، هى هنا كراهية بالوكالة، إن صحت التسمية، ولذا قد لا تفاجأ أن بعض أصحاب هذه المعارك ينتقلون من النقيض إلى النقيض أو من الكراهية الشديدة إلى الثناء المفرط، ومن ذلك ما تعرض له عدد من زعماء مصر والعرب فى التاريخ القديم والوسيط وفى التاريخ الحديث، كما حدث بالنسبة لمصطفى كامل وسعد زغلول وجمال عبدالناصر وغيرهم، وقد أثبتت التجارب أن كل هذه الحملات من الكراهية كانت زبداً ذهب جفاءً.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل