المحتوى الرئيسى

عن البيئة المنتجة للإرهاب

05/28 21:48

هل أصبح التعصب مشكلة مصرية؟ ــ هذا السؤال نبهتنى إليه بعض الكتابات والتعليقات التى حفلت بها الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى خلال الأيام الثلاثة الماضية، فى أعقاب قتل الإرهابيين لنحو ثلاثين قبطيا فى صحراء محافظة المنيا. ورغم أننى وعدت أمس بمحاولة الإجابة عن سؤال آخر هو: هل قصرنا فى علاج مشكلة الإرهاب أم إننا أخطأنا فى تشخيص المشكلة؟ إلا أننى فضلت أن أبدأ بالسؤال الأول، لاقتناعى بأن طرحه يمثل مدخلا للإجابة عن السؤال الثانى، الأهم والأكبر.

وجدت فى الكتابات التى حاولت أن تثبت انتشار التعصب بين المصريين استشهادا بمعاناة بعض الأقباط فى مواقع العمل أو الدراسة أو فى المجال العام، وإحالات إلى آراء تضمنتها بعض كتب التراث حطَّت من قدر الأقباط وشكلت إساءة لحقوقهم وكراماتهم، وهى المادة التى أصبحت تشكل مرجعية لعمليات استهدافهم فى الوقت الرهن. ولست أشكك فى صدقية أو مرجعية تلك الشهادات، لكنها تثير عندى سؤالا كبيرا هو: لماذا فى هذه المرحلة بالذات تبرز الممارسات السيئة بين بعض الأفراد، ولماذا تستحضر من كتب التراث الموجودة منذ مئات السنين تلك الفتاوى والآراء التى تشكل إهانة لهم ونيلا من حقوقهم وكراماتهم؟ لماذا يسقط من الذاكرة فيض علاقات المودة والتراحم التى عاش المصريون بمسلميهم وأقباطهم فى ظلها طويلا، ولماذا ينحى جانبا التراث الوفير والتعاليم الأصيلة والاجتهادات المضيئة التى تحدثت عن حق الكرامة لكل البشر وحق المودة والمحبة للمسيحيين خاصة، بحيث تسلط الأضواء فقط على كل ما هو سلبى ومسىء؟

إن تراث المسلمين وغير المسلمين حافل بما هو منير ومشين، لكنه يتعرض للانتقاء والتأويل فى ظروف تاريخية معينة، بحيث تدفن أو يستخرج منها ما هو منير تارة فى حين يستدعى منها ما هو مشين تارة أخرى. وتكون المشكلة دائما أن أصابع الاتهام تشير إلى الضحايا وإلى المرجع الفكرى الذى جرى الاستناد إليه وتأويله، وليس إلى الظرف التاريخى الذى استدعى هذه المرجعية أو تلك. وأستأذن هنا فى تكرار ما سبق أن أشرت إليه من أن ثمة ظروفا اجتماعية وسياسية تستخرج من الناس أفضل ما فيهم، لكنها حين تتغير فى طور آخر فإنها تستخلص من الناس أنفسهم أسوأ ما فيهم. ولا مجال لاستعادة شواهد التاريخ الدالة على ذلك، لكنى أذكر فقط بحالة الإجماع والتلاحم الوطنى المبهر التى شهدناها فى مصر أثناء ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وأدعو إلى مقارنتها بحالة الانفراط والنفور والاحتقان المحزن التى خيمت على البلد منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

فى الإجابة عن السؤال الأساسى الذى يتحرى مصدر الخلل فى التعامل مع الإرهاب لا أجادل فى أن الدور الأمنى لا مفر منه شريطة أن يظل فى حدود القانون والقضاء العادل، ثم إنه لا غضاضة فى أية إجراءات أخرى تحاصر الإرهاب وتلاحق مظانه إذا ما تمت تحت رقابة القضاء لكننا نغفل كثيرا دور البيئة السياسية والاجتماعية. التى تشكل عماد الظروف التى أشرت إليها فى الحث على الاعتدال أو تشجيع التطرف والإرهاب. أفتح هنا قوسا لأذكر بأنه ليس لدى دفاع عن جرم ارتكبه أى طرف. كما أننى أدعو إلى محاسبة كل من خالف القانون أمام القضاء العادل مع الحفاظ على كرامة وإنسانية الجميع ــ أقفل القوس من فضلك.

إن القيود التى تفرض على الحريات العامة، والانتهاكات التى تتم لحقوق الإنسان، لا تلغى قيمة التسامح فقط، وإنما تلقن المجتمع أيضا دروسا فى البطش والعنف. ناهيك عن أنها تفرغ مفهوم «المواطنة» من مضمونه، حيث لا قيمة للمواطن إذا ما صودرت حريته وانتهكت كرامته سواء فى قسم الشرطة أو فى أى مستشفى عمومى، ثم إن غياب العدل الاجتماعى وقسوة الغلاء المتزايد وانسداد أفق المستقبل أمام شرائح واسعة من الفقراء أو الذين تم إفقارهم، هذه كلها بيئة مواتية لنمو أشكال التطرف والعنف تمهد الطريق أمام الإرهاب. وتلك عوامل مسكوت عليها فى مناقشات قضية الإرهاب الجارية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل