المحتوى الرئيسى

المتحكم والشغوف.. شكل الحكاية بين نقيضَين

05/27 23:07

هي الحياة.. جرت العادة فيها وطبيعتها على التنوع والاختلاف، ولأننا نحن البشر وكذا نتاجاتنا مشمولون بهذا القانون، فمنا أنواع:

نوع مهووس بالتحكم، يحدثك عن شيء، وليكن كتاباً، لا بما فيه، بقدر ما هو ما يظنه فيه، فيقولبه على شاكلة آرائه، ويطبعه بمعانيه ومفاهيمه الخاصة جاهلاً أو متجاهلاً فردية التجربة، وتباينها من إنسان لآخر.. فنحن في الواقع نادراً ما نتشارك ذات الفهم؛ بحكم أن لكل منا زاوية نظره، وأيضاً الإطار الذي يرى الصورة ضمنه ومن خلاله؛ لأنه ببساطة لكل منا ليلاه المنشغل بالغناء عليها، وما أندر ما تناهى لأسماعنا خبر تغني اثنين لذات الليلى بذات اللحن والأبيات.. ليس ببعيد أن يخطر ببالك الآن واحد عرفته من أولئك الكثرة من المستبدين بآرائنا، الذين يقدمون رؤاهم كمسلَّمات بديهية لا مناص للآخرين من اعتناقها.

ويتطرق بنا الحديث هنا لمثال ربما يكون معروفاً لكثير من القراء، المقدم المختلَف على دوره، ما يراه البعض ميزة وأراه عيباً؛ حيث التصدير الذي أولى بنا تسميته بما يليق بحجمه، حين يمتد حتى يتغول على مقدمة الكاتب نفسه -إن وُجدت- بل والنص الرئيسي أحياناً، هذا واحد من الأمور التي لم أستطِع بعد التغلب على رؤيتي لها كفرض لذات لا تهمني بقدر ما يستهويني فأبحث عنه ولا أجده، مجرد شبح يلقي بظلاله على العمل الأصلي المراد مطالعته.. شكل من حشد الرأي إن كانت المقدمة مما يبالغ فيه أحياناً، وليس على العموم بأي حال.

وعدا هذا النوع المتحكم، يبدو أن هناك نوعين آخرين أكثر جمالاً وإقناعاً.

هناك النقيض التام للفئة الأولى، الأذكياء اللطاف، من يُجملون آراءهم في أوجز ما يكون، مفسحين للمشهد فرصة التعبير عن نفسه.. إنهم يدركون أن "أهل مكة أدرى بشعابها"، وبالتالي كون صاحب الشأن هو الأولى بمهمة التعريف بنفسه، فيطلقون لنتاجه العنان، وإراحة واستراحة من قيود الجزم والتعميم.

كمصور يبذل جهده في التقاط اللحظة، ثم يتخلى عن أنانية تملكها، يهبها وجودها بتقديمها للعالم كما رآها، لكن بإحساسه الكامن في فعل النشر، لا كما تفعل الكثرة باحتكار حق التحدث باسم العمل وصاحبه وحتى عقله الباطن.. هؤلاء هم الأكثر وفاء لمقتبساتهم؛ لأنها الوسيلة في عرض مشترك، الفاعل الأقوى فيه مادته، ولأن بين كل طرفي نقيض لا بد من من طريق وسط، فهناك النوع الجامع.

من يحب الشيء قدر اعتزازه برأيه فيه، بين حبه لفكرته عن الأمر والأمر بذاته، ولأنه يدرك جيداً تفرد التجارب الإنسانية؛ فهو يختار الحديث عن تجربته الخاصة مع الشيء، إن كان شخصاً أو فكرة أو كتاباً أو حتى أكلة.. هو يخبرك عنه كجزء أو محور لتجربة تتضمن رؤاه ومشاعره التي يفهم تماماً تمايزها وخصوصيتها، فيبدو الأمر أشبه بحكاية من تلك التي عاصرت فترات طفولتنا.. والإنسان من هذا النوع إذا حدثك عن كتاب مثلاً، فهو يخبرك أيضاً عن نفسه، تستطيع قراءته كإنسان في قراءته المحكية لذلك الكتاب، تراه يصوغ جزءاً منه في كلامه عنه، بكثير من الصدق والشغف والحس المرهف.. وفي نظري، هذه التجارب تملك جاذبية غريبة وسحراً.

وعلى ذكر الكتب وتجارب القراءة: يلاحظ من وقت لآخر، أن يتساءل البعض عن مدى ملاءمة قراءة عمل أو آخر، سواء في الفلسفة أو الأديان أو العلم وإلى آخره.

يتردد السؤال إن كانت الكتب المتخصصة أفيد أم الأعمال الأدبية؟ إن كانت حقاً قراءة كلام زرادشت تؤثر على العقيدة كما قيل -حيث القائل مجهول- أو عن احتمالية الخروج عن الملة بقراءة كتاب لعالم ملحد، أو أديب ينتقد ديناً أو يهزأ بمعتقد أو فكر نعتبره مسلَّماً به، وإن كانت في الغالب أفكارنا عن ما هو مُنتَقد لا تتعدَّى ظنوننا وتوهمنا المعرفة.

عزيزي السائل.. القراءة في أعمال كهذه لا تنتج أياً مما سبق، وحدها الحماقة تستطيع، إن كان الإنسان ليكون ورقة في مهب كل كتاب أو سطر أو رأي، فليبتعد عنها جميعاً؛ لأن أيها لن ينفعه.

أما من أراد العلم والتثقف والاطلاع، فذاك لا يكون إلا بالتنويع والاجتهاد في الفهم وإعمال العقل في كل نص ورأي ومعلومة.. القراءة المقارنة تنقل من مربع التلقي السلبي إلى أفق الفاعلية، تجعل القارئ أقرب لناقد ومراقب بل وشريكاً للكاتب بتحليله ورؤيته الخاصة لما بين يديه.

فلتكن قارئاً انتقائياً.. هكذا تقتبس من كل شيء أفضله ثم تعود لتصل ما اقتطعت، فتجدك أمام أحجيتك الخاصة، التي كوّنتها بالفهم والاجتهاد.

وكما قال أحد الحكماء التبريزيين في وصف فئة من البشر: "جعلوا أنفسهم كالعميان، لا يميزون الظلمة من النور ولا الحق من الزور، وصاروا يحسنون الظن في كل ما يجدونه بين دفّتَي كتاب؛ لأنهم رأوا التسليم أهون من التبصر، والتقليد أستر للجهل..".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل