المحتوى الرئيسى

رمضان يفتقد أسامة أنور عكاشة - E3lam.Org

05/26 09:21

شاركها Facebook Twitter Google +

مع قدوم شهر رمضان المبارك كل عام، يضع المجتمع والنقاد، الموسم الدرامي خلال هذا الشهر، في قفص الاتهام، إما بدعوى إضاعة الوقت، أو تدني المستوى الفني المقدم على الشاشة، والقول إن أغلب المسلسلات إما لا تعبر عن الواقع أو مبتذلة أو لا تُقدم أداء فنيا حقيقيا. ربما كان في هذا الرأي شيء من الحقيقة، حتى مع وجود أعمال –وإن قلت- محافظة على مستواها الدرامي، لكن وبما أن الفكرة تولد دائما في رأس المؤلف، فهناك من لم نقدر على اتهامه بالتقصير في تقديم “فن حقيقي” للجمهور على الشاشة.

نتحدث هنا عن الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي تحل ذكرى وفاته في ثاني أيام الشهر الفضيل. لم تكن أعمال “أنور عكاشة” للتسلية فقط أو حتى لتقديم مسلسل “حلو” للمشاهد. كان الأمر أشبه بالمعركة الصغيرة التي تدور في رأسه حتى يحقق نصره على الورق، ويكلل هذا النصر بمثله على الشاشة، لذلك لم تكن مسلسلاته في يوم من الأيام مضيعة للوقت، ولم يوجه لها هذا النوع من النقد أبدا، ومن هنا نشعر بجحم الفقد الفني الذي نعيشه.

أسامة أنور عكاشة الذي توفى في 28 مايو، 2010، وتفتقده الشاشة الرمضانية كل عام، حرص من خلال رواياته –كما كان يحب تسمية أعماله- على أن يثير التساؤلات في رأس المشاهد، ألا يكتفي بمشاهدة واقعه المرير ولكنها تساؤلات تدعوه لاستكشاف نفسه ومجتمعه، كما فعل في “الشهد والدموع” و”النوة”، و”ليالي الحلمية”، و”أرابيسك”.

طنطا وكفر الشيخ.. المولد والجذور

من المدهش معرفة أن “الطفل” أسامة أنور عكاشة وهو في عمر السادسة، كان يقرأ لـ”طه حسين والعقاد والمنفلوطي”، لكن هذا ما شكّل طريقه في الحياة بعد ذلك. كما ذكر سابقا أن أسرته كانت تندهش من تذكره لبعض الأحداث السياسية التي وقعت وهو لم يتجاوز الأربعة أعوام.

على جانب آخر كان للمكان في حياته معنى وقيمة أكبر بكثير من مجرد المعنى المادي، فهو من مواليد طنطا، التي تنتسب والدته إليها، ولكنه يعتز بكفر الشيخ، محافظة والده، وبينهما تشكل وعيه ومجتمعه الصغير، حتى دخل الجامعة في محافظة القاهرة.

“أسامة” هو الطالب الذي استطاع أن يحوّل موضوع تعبير تقليدي عن “الربيع” إلى عمل إنساني، قال خلال مقابلة مع الإذاعية أمينة صبري، إن بمجرد إخباره وزملائه من قبل مدرس الفصل، أن موضوع التعبير سيدور حول الربيع، لم يخطر على ذهنه إلا ربيع المشاعر الإنسانية وليس هذا الفصل الملئ بالتقلبات الجوية خلال العام، مما استدعى من المعلم أن يطلب منه قراءة النص الذي كتبه أمام الطلاب، ثم قام بطبعه وتعليقه على جدار الفصل كنوع من التكريم والفخر بهذا التلميذ النابغ، ثم أصبحت موضوعات التعبير التي يكتبها تُقرأ على الطلاب في طابور الصباح.

كانت مكتبة والده بمثابة العالم السحري الذي اكتشفه، ظل يقرأ كتبه، حتى أنه عوقب أكثر من مرة بسبب سهره لساعات متأخرة وهو منهمكا في القراءة، ولم يكن هذا الأمرمعتاد على طفل في سنه. وبالرغم من أنه كان “يأكل الكتب أكل” إلا أنه وصف نفسه بالتلميذ غير الشاطر، فقرر الالتحاق بالقسم الأدبي في مرحلة الثانوية، لميوله الأدبية بالطبع ولكن أيضا هربا من المواد العلمية وخاصة الرياضيات.

ومع مرحلة الجامعة، قرر “عكاشة” دخول كلية الآداب جامعة عين شمس، واختار قسم الاجتماع، ليجد مادة “الإحصاء” مقررة عليه، فلا مهرب من الأمر. استطاع اجتياز مرحلة الجامعة، ومع أنه كان يريد الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، لحبه في الأدب الإنجليزي، ولم يُقبل، إلا أنه ظل يحاول قراءة مؤلفات شكسبير، وأكد من قبل على صعوبة هذا الأمر، مع المتعة الكبيرة التي وجدها فيه.

تخرج عكاشة ليعمل أولا كمدرس في إحدى مدارس الصعيد، منذ عام 1962، ثم اتجه إلى وظيفة حكومة أخرى، برغم الروتين الذي اتسمت به، إلا أنها أثرت كثيرا في موهبته، وذلك عندما عمل كأخصائي اجتماعي في جامعة الأزهر لمدة تقترب من الـ 16 عاما، وتحديدا منذ عام 1966، إلى 1982، فاقترب أكثر من معاناة الطلاب، وأتيح له أن يسمع حكايات مختلفة طُبعت في عقله ووجدانه، وظهر بعضها على الشاشة.

“حلم الكاتب أن يُقرأ”.. يعترف “عكاشة” في حوار سابق أن القراء في الفترة التي احترف فيها الكتابة، كانوا يذهبون إلى “المضمون” من كبار الكتّاب والروائيين، لذلك لم يكن هناك إقبال على شراء قصصه القصيرة أو رواياته، مثله مثل باقي الكتاب الشباب، لكن هذا صنع لديه تحديا من نوع آخر، فيُحسب له أنه المؤلف الذي تمكن من جعل كتباته تُقرأ على أوسع نطاق من خلال شاشة التلفزيون. دخلت كل منزل وبيت، وأثرت، وبقت.

نحن أمام مؤلف يرى عمله معركة يجب أن يصمد خلالها، بالطبع يهمه الانتصار، لكن لثبات المبدأ انتصار من نوع آخر حتى في حالة الهزيمة، فهو الكاتب الذي يفتخر بتسمية كل حلقة من مسلسله بـ”الجولة” كما فعل المخرج محمد فاضل مع “الراية البيضا”. أراد كما قال في حوار سابق أن ينتصر للأصالة والذوق والجمال في مقابل السوقية والضحالة والفلوس، وهي الفكرة التي انتهت على الشاشة بـ”البشر أمام البلدوزر”.

أوضح سبب تأليفه لمسلسل “الراية البيضا” عندما قال إنه كان يرى شاطئ الإسكندرية قديما عبارة عن “فلل” على طول الكورنيش، و”والبحر مكشوف للكل”، أما الآن فتحول إلى علب خرسانية قبيحة تحجب مشهد البحر، وهو ما استفزه لكتابة سيناريو هذا العمل.

من الصعب الكتابة عن أعمال أسامة أنور عكاشة بشكل منفرد، ولكن ما يهنا هنا هو إعطاء صورة شاملة عن طريقة تفكيره التي ظهرت من خلالها. عكاشة الذي افتخر بلقب “نجيب محفوظ الدراما المصرية”، عرف كيف يُقدم صورة للحي المصري. “فرش” المجتمع أمام المشاهد، بمختلف طبقاته، وحقبه الزمنية، ليس للاستعراض، لكنه الكاتب القادر على إثارة مئات الأسئلة عن الذي كان ولماذا أصبح على ما هو عليه، وما يمكن أن نُغيره في المستقبل.

الأماكن في حياة أسامة أنور عكاشة

“عكاشة” عرف كيف يكتب عن أحلامه من خلال الواقع الذي عايشه، فمثلا قال عن مسلسل “ليالي الحلمية”، أن كل شخص قابله في هذا الحي العريق، هو ظل درامي لإحدى الشخصيات التي كتب عنها.

المكان لديه يتلقى ويُطعي، يتشرب طباع أهله، ويؤثر فيهم، المكان ليس مجرد حجارة جامدة، إنه الشاهد الباقي على تغير الأزمان والأشخاص والطبقات الاجتماعية، فالحلمية التي لم يكن أحد يحلم من الاقتراب من قصورها، هاهي مليئة بالمقاهي وأولاد البلد وأبناء الطبقة الوسطى.

وللإسكندرية مكانة خاصة لدى أسامة أنور عكاشة، تظهر من خلال حديثه في اللقاءات التلفزيونية. عينيه تلمع بالحب بمجرد ذكر اسمها، كأنه وجد جنته على الأرض، يحج إليها في موسم الكتابة، وتكون في بعض الأعمال محور المسلسل، فلا ننسى “النوة” و”زيزينيا”، و”الراية البيضا”، وساعده في إظهار حبه لها، الشعراء والملحنين الذين عملوا على أغاني وتترات هذه الأعمال مثل أحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، وعمار الشريعي وغيرهم.

في المقابل، وفي قلب القاهرة الفاطمية، تنقل “عكاشة” في حي المغربلين خلال أحداث مسلسل “الشهد والدموع”، وعشنا مع في حي الحلمية، الذي قال إنه “أخد منه راقات”، وعرف من خلاله ملامح أولاد البلد الأصليين، وتطورهم عبر الأزمان، وعرفنا كيف نتفكر في هويتنا المصرية، انطلاقا من حي الجمالية وخان الخليلي، في مسلسل “أرابيسك”.

قالوا السياسة مهلكة بشكل عام.. إلا معه

اعتاد مؤلف فيلم “كتيبة الإعدام” على “تزويق” الورق الذي يكتب عليه السيناريوهات، يكتب بألوان مختلفة وبرر هذا بقوله: “لازم افتح نفسي وأنا بشتغل وعشان شكل الاسكربت بتاعي يعجبني”، لكن مواقفه لم تعرف هذا “التزويق” أبدا، فعندما سأله الإعلامي جمال الشاعر خلال برنامج “مشاهير ومشاوير” على التلفزيون المصري، عن رأيه في اتفاقية السلام التي وقعها السادات مع الكيان الصهيوني، قال صراحة إن نظرته تغيرت في السادات بمجرد أن زار القدس، وكان قبل ذلك يعتبره “أحمس” طارد الهكسوس.

وعندما حاول “الشاعر” أن يسترسل في الحجج التي تُردد حول هذا الأمر، من أن ما حدث هو “خدعة ماكرة” من السادات، وأنه ضرورة في زمن انهيار الاتحاد السوفيتي، كان الرد المصري الأصيل حاضرا بقوة، فقال “عكاشة” إنه لا يُراهن إلا على قوة المقاومة الشعبية، وأن الاتفاقية التي لا تسمح لمصر بفرض سيطرتها الكاملة على سيناء لا يمكن اعتبارها سوى تسليما لجميع أوراق المعادلة في أيدي الاحتلال.

في ذات السياق، كان عكاشة دائم الرفض للقب “ناصري” الذي أطلقه العديد من الناس عليه، مؤكدا أن الزعيم جمال عبد الناصر نفسه رفض هذا المسمى، لأنه لا يملك نظرية خاصة به، ومع ذلك شدد عكاشة على حبه لنظافة يد “ناصر” وتوجهاته في هذه المرحلة، لكنه لم يكن من النوع الذي يعميه الحب عن النقد الي يقطع مثل السيف، فأكد أنه كان يرفض الممارسات التي تمت في هذا العصر.

ومع أن الأعمال التي قدمها عكاشة على الشاشة تُصنف كاجتماعية، إلا أن المجتمع في أعماله هو عجلة السياسية، والجالسون على مقاهي الإسكندرية والحلمية والجمالية، هم الذي يحركون المشهد المصري في لحظة.

من الأعمال التي أثارت جدلا سياسيا حوله، واعتبرها البعض تراجعا منه عن الخط العروبي –على غير الحقيقة- هو مسلسل “أرابيسك”، فعندما دعا إلى البحث من جديد عن هويتنا، ورفض من خلال “حسن أرابيسك” بطل عمله، “اللخبطة” التي أرادها “الدكتور برهان” وزوجته الدكتورة “ممتاز محل”، بتحويل فيلتهما إلى نموذج يعرض ثقافات مصر المختلفة، من فرعونية إلى إسلامية إلى معاصرة، دون تناسق أوإطار فكري حقيقي، قام بهدم الفيلا. كان يريد أن يُحدث “هزة” داخل المصريين، ليكون البناء من جديد هو بمثابة الفُرصة المتاحة لنا لتحديد هويتنا الحقيقية.

هناك حضور لن نتحدث عنه كثيرا، ومع أنه لا يُقلل من شأن الراحل أسامة أنور عكاشة، لكنه يخلق غُصة لدى محبي مسلسل “ليالي الحلمية”، وذلك عندما تقرر تصوير جزء سادس من المسلسل في رمضان من العام الماضي 2016، وبالرغم أن “الجزء السادس” لم يُكتب عليه بالطبع اسم عكاشة، إلا أن الكاتب الكبير ظل محورا في سجالات المداخلات الهاتفية بين أبطال العمل في أجزائه السابقة والرافضين لهذه الخطوة، والذين شاركوا في الجزء السادس.

Comments

عاجل