المحتوى الرئيسى

عرائس ليست للبيع

05/25 22:51

فى مثل هذا اليوم من كل عام تتحول الكلية إلى مهرجان فنى كبير، تُغير الجدران ثيابها بقدرة قادر فتتحول من الإعلان عن مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه إلى عرض لوحات الطلاب المرسومة بالفحم والزيت، البهو الكبير تتبدل فجأة ملامحه فإذا به أشبه ما يكون ببازار مزدحم تُعرض فيه كل أن أنواع المشغولات اليدوية من أول الزجاج المُعشق وحتى الحُلى، عشرات من البالونات الملونة بكل ألوان الطيف تتدلى من فوق الدرج وتزين الأركان فتشيع فى الأجواء بهجة محببة وتسحب بالتدريج الجدية التى يتميز بها المكان والناس، حركة غير عادية.. غدو ورواح.. وطلاب يضعون لمساتهم الأخيرة على معروضاتهم التى سهروا عليها ليالى ولا بأس من صورة «سيلفى» معها قبل الافتتاح. متعة ما بعدها متعة أن تقترب من هؤلاء الشباب بفطرتهم وحيويتهم الدافقة، تفاجئك فوضويتهم وقد تصدمك لكنها تجدد دماءك وتُنزلك ضيفا لبعض الوقت على مجتمعهم الذى كنت جزءا منه قبل عقود.

أمام إحدى الطاولات التى ازدحم بها مدخل الكلية بدت هذه الفتاة منهمكة فى رص معروضاتها الفنية بجدية فائقة لا تكاد تحفل بالصخب المحيط بها من جميع الجهات، وكانت معروضاتها عبارة عن مجموعة من العرائس. فى كل مرة لامس فيها طرف طرحتها البيضاء واحدة من عرائسها التقطته أناملها بحرص شديد وكأن وقت رفع الستار عن تلك العرائس قد حان وما عاد يجوز حجبُها عن الأنظار. اثنان اثنان راحت تضع شخصياتها الفنية الأشبه بعرائس الماريونيت على الطاولة الخاصة بها، عرائس مصنوعة من القماش وخيوط الصوف وبعض الأحجار الملونة وتقف على عصى خشبية طويلة، ومثل هذه المكونات لا تسمح بحكم طبيعتها بإبراز التفاصيل الصغيرة للشخصيات لكن موهبة الفتاة سمحت بتجسيد الملامح والتقاطيع بكثير من الدقة والإتقان. ينقلك عالم هذه الفنانة الشابة إلى أجواء أوبريت الليلة الكبيرة الشهير، وأظن أن أحدا من المبدعين لم يفلت من تأثير مولد صلاح جاهين وعرائس ناجى شاكر وألحان سيد مكاوى حتى يبدو هذا الأوبريت العبقرى وكأنه أيقونة عابرة للأزمان. لكن أظن أن هذه الفتاة إذا قررت أن تحترف فسيكون عليها أن تبحث لأناملها عن بصمة مختلفة ولموهبتها عن مذاق خاص إلى أن يأتى يوم لا تكون فيه إلا نفسها.

التقطتُ عروسة لطيفة من بين العرائس المتراصة خُيل لى أنها ستُسعد كثيرا حفيداتى حين تُزين غرفتهن، فمثل هذا الشعر المنسدل وتلك الفصوص اللامعة والألوان الزاهية أشياء تخلب لُب البنات الصغيرات وتُدخلهن عالم الأميرات المسحور. سألتُ الفتاة عن قيمة عروستها فإذا بها تُصاب بارتباك عظيم، تصورتُ أن تلك هى المرة الأولى التى تعرض فيها أعمالها للبيع، وقدرتُ أنها لم تكن جاهزة بسعر مناسب لعرائسها، ورجحتُ أنها وقد فوجئت بسؤالى أخذت تتلعثم وتتمنع قبل أن تحدد ثمنا زهيدا جدا لعروستها وتتمسك به فى إصرار. أقول تصورتُ وقدرتُ ورجحتُ لأن الحقيقة كانت غير ذاك كما علمت لاحقا، لكنى على أى حال أحببتُ هذا الإحساس بأن أكون الزبونة الأولى لإحدى طالباتى وأن تكون هذه الجنيهات القليلة التى لا تكاد توازى تكلفة عروستها هى جنيهاتى، وقلتُ لنفسى: حين تكبر فتاتى وتصير فنانة مشهورة ستظل تذكرنى حين يسألونها الأسئلة المعتادة عن أول دخل وأول عمل وأول شعور. همستُ فى أذنها أحاول تخفيف شعورها بالحرج: الآن بيننا شىء مشترك، مثلك تماما حصلت على أول دخل لى من هذه الكلية قبل سنين طويلة واشتريت به سوارا لم أفرط فيه قط، وأنت ماذا ستفعلين بحصيلة بيع عرائسك فى نهاية اليوم؟ هزت كتفيها ولم تُجِب.

سمحت لى جولتى بين أجنحة المعرض أن أعرف عن الفنانة الصغيرة ما لم تحكه لى هى، علمتُ أنها تُخصص يوما فى الأسبوع لتعليم الأطفال الذين يعانون إعاقة حركية كيف يصنعون عرائس تشبه عرائسها، معقول؟ سبق أن أطلعتنى والدة طفل من هؤلاء الأطفال عن صبرها الطويل على وحيدها وهو يتعرف على ملمس الأشياء ويكتشف العلاقة بينها فينجح مرة ويفشل مرات، وحكت لى كيف ظلت تشد على يده كثيرا وهو يضع مربعا بجوار الآخر ليصنع بيتا جميلا حتى تحررت أنامله وبات قادرا دون مساعدة على بناء البيت، لكن هذه هى الأم التى تأبى ظروف الحياة أحيانا أن تقطع الحبل السُرى الواصل بينها وبين أبنائها وتلك هى مسئوليتها، أما هذه الشابة الصغيرة فماذا دهاها ومن أين لها بكل هذه الطاقة على الصبر والاحتمال؟ لم أفهم للأسف حين تمنعت قبل قليل وأبت أن تبيعنى عرائسها أن هذا جزء من شخصيتها، وأنها كانت تكفيها منى كلمة ثناء كتلك الكلمات التى أظنها تسمعها من الأطفال الذين تساعدهم فى صنع العرائس. لم أفهم أن طاولتها منصة لإشاعة البهجة وليس لبيع العرائس بأى ثمن. عذرا يا فتاتى على سوء الفهم فنحن لم نعتد فى هذا الزمن على الإبداع المجانى، ولا نحن اعتدنا على ترويض مشاعر الأنانية فى داخلنا لنفسح حيزا للأضعف والأصغر والأكثر احتياجا، عذرا لأنك نموذج لا يُقاس عليه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل