المحتوى الرئيسى

طعم الكلام.. الفيلم اللبنانى «ربيع».. محاولة لترويض رياح الماضى

05/25 22:28

هذا فيلم ذكى تحضر فيه الحرب، ويحضر فيه الماضى، من خلال حكاية إنسانية عذبة، ومن خلال شخصية مؤثرة وموهوبة. الفيلم اللبنانى «ربيع» الذى كتبه وأخرجه فاتشى بولجورجيان، والذى عرض فى أسبوع النقاد فى مهرجان كان فى دورته الـ69، يمتلك رؤية جديرة بالتأمل، لا ينكر أبدًا أن الماضى ما زال حاضرًا وقويًا، وأنه مؤلم وغامض، ولكنه أيضا ينحاز إلى فكرة ألا يعطل الماضى المستقبل، الملفات المغلقة، يحاول أن يفتحها شاب كفيف، وسط ضباب كثيف، ووسط طوفان من الأكاذيب، فلا يعثر على حقيقة يقينية واحدة، تعيد إليه هويته الأصلية، فيرتضى فى النهاية بالحل العملى، ويقبل بهوية مصطنعة على الورق، تتيح له فرصة السفر مع فريقه الغنائى إلى أوربا، وفى القلب جرح غائر لا يندمل.

اسم الفيلم هو اسم بطله الكفيف الموهوب، الذى يعزف على الطبلة والكمان، ويغنى لصباح فخرى، ويتمتع بحب أمه وخاله، ويبدو سعيدًا بهوايته، فى اسم ربيع معنى تجدد الحياة، ولكن حياته تنقلب رأسًا على عقب، إثر اكتشافه أن بطاقة هويته، التى يستخرج بها جواز السفر، مزورة، ثم يكتشف بالتدريج أنه لا يمتلك شهادة ميلاد، ولا أوراقًا صحيحة من أى نوع. ثم تعترف له أمه سمر (جوليا قصّار) بأنه ليس ابنها، ولكنه طفل عثر عليه شقيقها هشام فى العام 1988 أثناء الحرب الأهلية، ومن هنا تبدأ رحلة ربيع فى البحث عن ماضيه الغامض، سببه غموض تلك السنوات السوداء، وتعقد تفاصيل صراعاتها، ومحاولة أبطالها إما النسيان، أو التواطؤ.

السيناريو المتماسك والماكر يخفى الحقيقة عن الجميع، عن متفرجه، وعن ربيع، ويلقى إلينا خلال مشاهده بأسئلة من دون إجابة، يشركنا فى رحلة ربيع الذى يحاصره ظلام الرؤية، فتحيط به أيضا أكاذيب، تزيد حياته إظلامًا. من قرية فى الجنوب يزعمون أنهم عثروا عليه فيها، إلى زملاء خاله فى الكتيبة، إلى امرأة خطبها الخال فى فترة من حياته، تبدو رحلة ربيع فى البحث عن أصله عبثية، هناك معلومات متضاربة، وهناك أشياء مسكوت عنها وراء الكلمات، ولكن شيئًا واحدًا يظل مؤكدًا هو أنه لولا مأساة الحرب الأهلية، لما كانت مأساة أسرة بطلنا، ولما كانت هناك أزمة هوية بالنسبة له.

الماضى يعود من جديد بعد أن أصبح ربيع فى الرابعة والعشرين من عمره، والأغنيات أو المقطوعات التى يعزفها تنوب فى التعبير عن معاناته الهائلة، وحيرته الكبيرة، يتعمد المخرج بذكاء أن يتكرر ظهور ربيع ليلا فى قلب ظلام الحجرة، يحيط به نور شحيح، رغم أنه يعرف الطريق، ويسير فيه بمهارة صباحا: فى الحاضر لا مشكلة، المعضلة فى ليل الماضى، الذى لا يطل برأسه فقط فى الحاضر، ولكنه يؤثر على مستقبل ربيع، الذى لن يتمكن من السفر إلا ببطاقة هوية، ولا بطاقة هوية إلا بشهادة ميلاد، بينما هو بلا جذور حقيقية، لأنه ببساطة بلا أوراق.

لا يشك ربيع فى حب أمه البديلة، ويتأكد أن خاله هشام، الذى لا يتكلم كثيرًا، هو الذى أحضره إلى البيت، ولكننا نتساءل طوال الوقت عن حقيقة تلك الأموال إلى منحها الخال هشام لزميل الكتيبة عمر فى أول الفيلم، وعن زميل آخر فى الكتيبة هو نبيل، يقولون إنه هاجر إلى إفريقيا، بينما نكتشف أنهم وضعوه فى مصحة لمدة عشرين سنة، ولن نعرف أبدًا، من هم هؤلاء الذين وضعوه.

أحد أسباب قوة سيناريو الفيلم هو هذه الأسئلة المعلّقة، والتى تصب فى معنى الحكاية كلها، فالحضور هنا يشبه الغياب سواء بسواء، والماضى رغم أن أبطاله على قيد الحياة، فإنه لا توجد حقيقة واحدة يمكن الاعتماد عليها، والتباس هوية واسم وديانة الطفل الذى صار اسمه «ربيع»، تمنح الحكاية بعدًا شاملا، بعدد الطوائف، وبعدد المعارك، التى اختلطت فيها الهويات، وإن كان الجميع قد دفعوا الثمن.

قصة ربيع هى مجاز بليغ الدلالة، وغير مباشر، عن حضور رياح الماضى رغم كل هذه السنوات، وسؤال الفيلم الأهم هو: هل يمكن لهذا الحضور البائس فى غموضه أن يدمر الحاضر والمستقبل؟

يمكنه أن يفعل ذلك بالطبع فى بعض الحالات، وربيع لن يعود أبدًا مثلما كان قبل أن يعرف أن هويته مصطنعة. ولكن الفيلم ينحاز إلى حل عملى ومؤلم أيضًا، بأن يقبل ربيع أوراقًا جديدة «مزورة»، أحضرها خاله «المزيف» هشام بنفوذه الهائل.

أصبح ربيع شريكًا فى لعبة التواطؤ لإزاحة الماضى مؤقتًا، وهى فى كل الأحوال نهاية لا تغلق أقواسًا، ولا تطبب جراحًا، فقد تكتشف السلطات مستقبلا تزوير الأوراق الجديدة، ولكن بطلنا الكفيف تألم بما يكفى، ولم يترك خيطا للبحث إلا وسار خلفه، ينوب عنه الغناء فى نهاية الفيلم، وهو يردد بشجن وأسى، وسط نظرات أمه البديلة، وخاله البديل: «مش قادر أقول انت الجانى/ ح اصبر على طول على أحزانى».. ولعله سؤال جديد معلّق حول تورط الخال وكتيبته فى تصفية أسرة ربيع، والإبقاء على حياته هو فقط، الله وحده يعرف كما قال عجوز أخير، يحتمل أن يكون جدًا لربيع، من دون أن يعرف الاثنان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل