المحتوى الرئيسى

إريتريا.. جارة البحر المنسيّة

05/23 17:14

هي دولة لا يذكرها الناس إلا نادراً، تتميز بموقعٍ استراتيجي ضمن ما يُعرف بمنطقة (القرن الإفريقي)؛ إذ تضم ميناءَي عصب ومصوع، من أهم الموانئ في القارة الإفريقية لتحكمهما في جزءٍ كبير من أنشطة النقل البحري وصادرات النفط، بجانب الدور الأمني المهم الذي يلعبه ميناء عصب في أية نزاعات أو حروب مثل عملية عاصفة الحزم التي تشنها السعودية وحلفاؤها ضد الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي صالح؛ حيث تحدثت تقارير أميركية عن استخدام دولة الإمارات ميناء عصب الإريتري منصة انطلاق للقوات التي أسهمت في تحرير عدن من قبضة الحوثيين.

تشكل إريتريا عُمقاً استراتيجياً مهماً لكل الدول المطلة على البحر الأحمر باعتبارها البوابة المشرفة على مضيق باب المندب، وتضم أرخبيل (دهلك) تجمُّع الجزر التي يزيد عددها عن 100 جزيرة أكبرها "دهلك الكبرى ونورا وحرمل"، فضلاً عن أن إريتريا تعتبر منذ قديم الزمان حلقة اتصال تجاري وحضاري بين إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، لكن كل ذلك لم يجعلها ذات قوة سياسية أو اقتصادية مؤثرة في محيطها الإفريقي.

يمكن القول إن السياسة الخارجية لجمهورية إريتريا مثيرة للجدل، فقد سهَّل رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زيناوي مهمة استقلال إريتريا عن إثيوبيا، عندما اتفق مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي على ذلك مقابل دعم زيناوي في خطته الرامية إلى إطاحة منغستو هايلي مريام، لكن أفورقي سرعان ما انقلب على صديقه السابق لتندلع الحرب الشاملة بين البلدين عام 1998، بالإضافة إلى ذلك، فرض مجلس الأمن عقوبات على أسمرة لاتهامها بدعم حركة الشباب المجاهدين المسلحة في الصومال، ومن ثمَّ يصنفها مجلس الأمن دولة مارقة، وعلى الرغم من هذا تتمتع إريتريا بعلاقات جيّدة مع إسرائيل تعود إلى ما قبل الاستقلال.

كان للسودان أيضاً نصيب من التنكر الإريتري ومقابلة الإحسان بالجحود والتآمر، فرغم أن الرئيس أفورقي وجد دعماً كبيراً من الخرطوم التي عاش فيها زمناً من عمره، إلا أنه فور أن تسلم مقاليد الحكم في أسمرة احتضن المعارضة السودانية المسلحة التي كانت تعرف بـ(التجمع الوطني الديمقراطي)، الأمر الذي تسبب في توتر علاقات البلدين حتى وصلت لمرحلة انقطعت بشكل كامل، إلى أن تدخل أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة وأجرى مصالحة تاريخية بين عمر البشير وأسياس أفورقي عام 2000، لكنّ العلاقات لا تزال تشهد توتراً مكتوماً منذ فترة؛ إذ إن إريتريا تربط درجة علاقتها بالخرطوم حسب ترمومتر العلاقات السودانية - الإثيوبية الصاعدة بقوة هذه الأيام، في الوقت الذي انحصر فيه التواصل بين الخرطوم وأسمرة على القليل من التنسيق الأمني، يلاحظ ذلك في زيارة قام بها مدير جهاز المخابرات السوداني، محمد عطا المولى، إلى إريتريا، مطلع يناير/كانون الثاني الماضي.

القبضة الأمنية التي تعيش فيها إريتريا أثَّرت بشكل سلبي على سمعتها حتى أصبح البعض يطلق عليها "كوريا الشمالية الإفريقية"، فمنذ أن نالت استقلالها في مايو/أيار 1993 لم تجرِ فيها أية انتخابات، ولو بشكل صوري، في البلاد حزب واحد، يمتلك صحيفة واحدة، وقناة واحدة، لا تسمع البلاد إلا صوتاً واحداً، وتضم سجونها آلاف المعتقلين لا يُعرف عددهم بالتحديد، ولا تهتم بهم المنظمات الحقوقية.

تشير بعض التقارير إلى أن نحو 5000 مواطن إريتري يهجرون بلدهم كل شهر، أغلبهم يهرب من الخدمة العامة في الجيش.

لدى الحكومة الإريترية نظام تجنيد ينص على أن الأفراد بين 18 و40 عاماً يجنّدون لفترة ثمانية عشر شهراً، إلا أن الواقع يخالف الورق، بعضهم يقضي في الخدمة العسكرية عشر سنوات أو يزيد، ليس هناك من سقف زمني لخدمة البلاد قسراً وبلا مقابل، حتى إن الحكومة قد تُجند أفراداً تجاوز عمرهم الخمسين بل والسبعين أيضاً.

أمثلة عديدة تحكي الواقع المرير في الدولة المنسية، من بينها ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2015، كان فريق كرة القدم الإريتري الوطني يستعد للعب مباراة في بوتسوانا، عشرة من لاعبي الفريق هربوا من معسكر التدريب وطلبوا اللجوء في بوتسوانا!. ويشكل السودان الحاضن الرئيسي لمعسكرات اللاجئين الإريتريين، بخلاف المقيمين بشكل رسمي داخل المدن السودانية، الذين اندمجوا بشكل كامل داخل المجتمع نسبة للتداخل القبلي الكبير بين الدولتين فهناك العديد من القبائل المشتركة بين السودان وإريتريا.

عملت السعودية، أخيراً، على استقطاب إريتريا الدولة ذات الأغلبية المسلمة إلى صفّها، بعد أن درست جيداً أهميتها، فبعد أن كانت أسمرة داعمة بشكل كبير لجيش صالح وجماعة الحوثي، وهو ما اتضح من خلال الدعم العسكري الإيراني للحوثيين في مدهم بالسلاح وتدريبهم في معسكراتٍ تقع على الأراضي الإريترية، غير أن المملكة استطاعت خلال العامين الماضيين باستخدام نفوذها المالي والاقتصادي أن تسحب إريتريا إلى صفوفها، وأن تبني تحالفاً معها.

تجلَّى ذلك في زياراتٍ قام بها الرئيس أسياس أفورقي إلى الرياض، التقى خلالها العاهل السعودي، وفي الوقت نفسه قويت علاقات أفورقي مع أبوظبي التي زارها عدة مرات كان آخرها مطلع العام الجاري، ويتحدث موقع ستراتفور الاستخباراتي عن بناء الإمارات قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري للاستفادة من موقعه الاستراتيجي، وهو أمر غير مستبعد طالما لم يصدر نفي، خصوصاً أن صندوق أبوظبي للتنمية أبرم اتفاقاً لتمويل مشاريع تنموية وحيوية تخدم اقتصاد أسمرة.

كما راجت أنباء قبل مدة بسيطة، تتحدث عن إقامة مصر قاعدة عسكرية قوامها 30 ألف جندي في إريتريا لكن القاهرة وأسمرة نفتا صحة تلك الأخبار التي وجدت صدى كبيراً نسبة لامتعاض القاهرة من سد النهضة الإثيوبي، والتكامل السوداني الإثيوبي الذي بدأ يأخذ شكل التحالف لأول مرة، ولذلك يعتقد كثير من المراقبين أن مصر تخطط لمواجهة التقارب السوداني - الإثيوبي بتحسين علاقاتها مع إريتريا.

الشعب الإريتري المُسالِم عانى كثيراً من سياسات نظام الجبهة الشعبية الحاكمة، فالملايين من شباب وشابات الدولة وحتى كبار السن يعيشون في دول الجوار، خصوصاً السودان وإثيوبيا، والكثير منهم اتجه إلى أوروبا وأميركا هرباً من جحيم الداخل، ولعلنا نتساءل لماذا تنعزل أسمرة عن محيطها ولا تحذو حذو جارتها أديس أبابا في الانفتاح نحو العالم وتشجيع المستثمرين والسياح على دخول البلد والاستمتاع بالطبيعة الخلابة التي تعرف بها إريتريا (جارة البحر) كما تصفها الأغنية الشهيرة.

يمكن أن يتفهم الناس الإجراءات القمعية في الفترة الأولى من عُمْر أي نظام لأجل تثبيت الحكم، لكنَّ استمرارها لما يزيد عن عقدين من الزمان أمر غير مبرر، لذلك فإنّ حكومة أسياس أفورقي مُطالبةٌ بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، فضلاً عن ضرورة وضع خطط للتحول الديمقراطي وإشاعة الحريات حتى لو كانت (على الطريقة الإفريقية!)، كما أن أفورقي معنيٌّ بالانفتاح نحو العالم، والكف عن الدخول في صراعاتٍ مع الجيران الذين كانت مواقفهم مشرفة مع إريتريا حكومةً وشعباً، فهل سيفعل ذلك ويوجه خطاباً تصالحياً في ذكرى استقلال بلاده الذي يصادف الشهر الجاري؟!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل