المحتوى الرئيسى

الصحافة الورقية.. في العمر بقية!

05/21 21:53

لست ميتا وإن كنت أبدو كذلك!

مقولة تفسر حال الصحافة الورقية اليوم.

أستطيع أن أعلن انحيازي لمعسكر المتفائلين ببقاء الصحافة الورقية لسنوات وسنوات.

لن تموت الصحافة الورقية سريعًا، ستصدر في شكل ما وبمحتوى ما يكتب لها البقاء ويمنحها قبلة الحياة إن أرادت وإن أراد القائمون عليها.

مهنة الصحافة باقية ما بقي الإنسان، وما بقي الفكر والفن والنشاط الإنساني بتنويعاته العديدة، الصحافة باقية ما بقيت الصراعات الإنسانية والحروب غير العادلة من أجل الحرية والكرامة والعيش والمساواة والعدالة.

الصحافة باقية وإن بدلت ثوبها وغيرت جلدها وورقها وظهرت بصيغ مختلفة عن تلك التي اعتدناها طيلة أربعة قرون.

ألم تسقط أوراق التوت والشجر والجلود والكتان عن الجسد البشري؟ نعم سقطت لكن لم تمت فكرة اللبس والستر والغطاء، فهي المحتوى والجوهر بغض النظر عن الصرعات والموضات وفعل الزمن!

أعي جيدًا أن العديد من الصحف تعثرت وأفلست وأغلقت أبوابها، وأن أزمة قراءة حادة تجتاح العالم، أزمة لا تبدأ عند قراءة الصحف ولا تنتهي بقراءة الكتب فقط وانما تطول كل أشكال المطبوعات.

عايشت أحزان ومآتم إغلاق صحف ورقية عريقة ليس أدناها السفير اللبنانية ولا أعلاها الاندبندنت البريطانية، ورغم أنني قدمت واجب العزاء بحكم صلة قرابتي المباشرة من مهنة المتوفين، إلا أنني لم أغرق في دموعي وأحزاني وخرجت من سرادقات العزاء المنصوبة على عتبات الفيس بوك وتويتر، أعلن أن الصحافة الورقية باقية وأن تعثرت ومات بعضها موتا بطيئا بحسب عنوان رواية محمد حسن علوان الفائزة بالبوكر هذا العام.

الصحافة في نظري ليست News + Paper ليست مجرد أخبار وورق، هي مفهوم لا يضيق عند هذه الحدود، الصحافة محتوى وفكر متجدد بلغة حية متجددة تستوعب هذا الفكر وتكون وعاء له، سواء تم حفره ونقشه على الجدران أو الجلود أو ورق البردي أو المدونات والمواقع الإلكترونية والمنصات الاجتماعية المتعددة.

التطور سٌنة كونية نعم، لكن يظل المحتوى هو القاسم المشترك الذي يؤكد أن في العمر بقية، المحتوى لن يموت، بل يتغير ويتجدد كل لحظة، لن يموت الكاتب ولن يموت المؤلف كما يذهب دعاة التفكيكية، الموت للجبناء الكسالى أعداء الحياة.

يشبه البعض الصحف الورقية بالخيل والبغال والحمير في زمن السيارات الفارهة والقطارات السريعة والطائرات فائقة السرعة، التشبيه جميل وقد تطلق بعض المؤسسات والحكومات والدول رصاصات الرحمة على صحفها – خيل الحكومة – التي أتعبها السباق فخرجت من حلبته بفعل السرعة، لكن هذا لا يعني انقراض الخيل والبغال والحمير إلى يومنا هذا؟!

الراديو كجهاز مادي، ربما قلت أعداد المباع منه بشكل مرعب، لكن لم تمت موجات الأثير ولم يمت الصوت الإذاعي، سواء أتاك من الصندوق السحري الأسود الذي كانت تغطيه جدتي بقطعة قماش قبل نصف قرن لتحميه من التراب، أو أتاك من سيارتك أو حاسبك الشخصي أو جوالك، المحتوى الإذاعي باق قوي حي لا يموت بل طور نفسه وصرنا على موعد مع بعض إذاعات الإنترنت والإذاعات المجتمعية والمحلية والمغرقة في المحلية أيضا!

التطور طبيعي وحتمي، ومن غير المعقول ولا المقبول أن تتجمد الصحف تحت وهم الاسم الكبير والتاريخ والعراقة فلا تطور محتواها ولا تعتني بمهنيتها ولا تتجاوب مع إيقاع العصر ولغة الجمهور واحتياجاته ورغباته، والمحصلة الاحتضار بتراجع التوزيع وغلبة الدين وقهر الفيس بوك والتويتر ومنصات التواصل الاجتماعي، خاصة مع ارتفاع كلفة انتاج الصحف وارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، والنتيجة تسريح مئات الصحفيين والعاملين وغلق مئات المكاتب وتقليص في أعداد الصفحات وتغيير في القطع نزولا إلى القطع الخاص ووصلا إلى القطع النصفي "التابلويد"، مع مواصلة استجداء الدعم الحكومي أو تمويل القطاع الخاص أو الخضوع تحت رحمة رجال المال والأعمال لتعيش الصحف أطول فترة ممكنة، وهي بالأساس ميتة لأنها لم تلفت إلى المحتوى، جوهرها وسر وجودها!

نعم رفعت الأقلام وجفت الصحف، وتحول العالم سريعا صوب الصحف الإلكترونية، لكن الرقمي الإلكتروني ما هو إلا شكل أو قالب ووعاء بديل، قد يصيبه مع الوقت ما أصاب الورق، مع تحول ذائقة القراء وتبدل العادات القرائية لمدى غير معلوم، فالقارئ الذي ودع بالأمس ملمس الورق، وبات يقرأ من شاشات الحاسب ومنها للأجهزة اللوحية وصولا للقراءة من الهواتف الذكية، هو ذاته القارئ الذي ودع القراءة كليا وبات يفضل النصوص الصحافية المسموعة والكتب المسموعة، بل ويكتفي البعض بقراءة الإشعارات والتنبيهات الخاصة بأهم العناوين وكفى، ولا ينفي هذا أن قطاعاً عريضًا ما زال قابضاً على جمر القراءة ممسكاً بالورق ومتمسكا به!

عتبات الفيس بوك والتوتير وغيرها ليست منصات مقدسة تماما، حدثني قليلاً عن المهنية والمصداقية والأخلاقيات، وسلني عن دورة حياة الأخبار والأقوال والمعلومات والشائعات والأكاذيب التي تقذف بها إلينا هذه المنصات على مدار الساعة، لتظل محور حديث جمعي لساعات النهار، وتقفز لتحتل ساعات الليل في برامج التوك شو وبينما الوضع كذلك يخرج مسؤولون يكذبون معظم ما نتعاطاه من مخدرات مغشوشة على هذه المنصات ليزداد المشهد ارتباكاً.

الصحافة الورقية صناعة ثقيلة كثيفة التمويل عالية التكلفة، وعوائد البيع والاشتراكات لا تغطي والإعلانات في تراجع – بعد أن ذهب بعضها للمرئي والفضائي والإلكتروني – والدعم الحكومي يحتاج إلى دعم في ذاته؛ إذن لابد من الصدور في شكل ما وبمحتوى ما يجذب القارئ والمعلن ويكون محور اهتمام الحكومة والبرلمان في أي بلد حتى وأن لم يكن تحت قبضتها!

ظاهرة الصحف الورقية المجانية حول العالم تخرج لسانها للحانوتية القائلين بموت سريع للصحف الورقية، بالمثل لا أتصور أن تظل الصحف الإلكترونية مجانية طوال الوقت، ولي في تجربة "نيويورك تايمز" ذات المحتوى المدفوع شاهدا ودليلا، وبإجمالي مشتركين فاق المليونين، لتفرض هذه التجربة قبل ست سنوات مفهوم جدران الدفع Paywalls على صناعة الصحافة، طوق نجاة في مواجهة طوفان الغرق والموت.

ليست كل المقالات والكتب والدراسات الإلكترونية متاحة بالمجان، هناك ملخصات فقط بجاذبيات في العرض وتسهيلات تسويقية في الدفع، تغريك باقتناء الكتاب والدراسة كاملة، وكما أن القارئ يبحث عما يهمه ويجذبه، فالمحتوى أيضا يعرف قارئه ويعرف طريقه إليها دائما وأبداً.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل