المحتوى الرئيسى

«تجارة المدافن»: أسعار الموت في مصر تنافس أسعار الحياة - ساسة بوست

05/21 19:43

منذ 4 ساعات، 21 مايو,2017

مدافن مجهَّزة بأعلى التشطيبات وأحدثها، واجهاتٌ من نوعيّات أحجار باهظة الثمن، تقع على الطريق العموميّ للمدافن وليست بالتفريعات الداخلية. كلّ هذا يزيد من ثمن المدفن الذي لن يقلّ بأيّ حالٍ عن 120 ألف جنيه.

«لم يعد تحدي المصريين بأي حال من الأحوال هو أن يجدوا فقط شقة تمليكًا يقضون بها أعمارهم في سترٍ بين جدرانها، دون أن يتعرَّضوا لمخاطر الطرد بسبب قوانين الإيجار الجديد في السَّكن والرغبة في تعديل قانون الإيجار القديم الذي يهدِّد أهالينا في مساكنهم التي حصلوا عليها منذ عقودٍ طويلة في أيامٍ لا تشبه أيامنا هذه، أصبح علينا أيضًا أن نعمل لسنوات طويلة حتى نوفر ثمن مدفن نضمن الستر فيه بعد الموت». هكذا بدأت أحلام شعبان – موظفة بالحكومة المصرية، 35 عامًا – حديثها.

تروي أحلام تجربة أسرتها الصغيرة في الحصول على مدفنٍ خاص بهم بناءً على رغبةِ والدهم، لتبدأ وأسرتها بالاصطدام بتجارةٍ كاملة لم يكن يخطر ببالهم عنها شيء. كانت مدافن عائلاتهم الأكبر من جهة والدها مكتظَّةً بأموات العائلتين، وكان هاجس الأمّ أنها لا تودُّ أن تُدفن بعد موتها في «مقابر الصدقة» وهو ما صادف هوى في نفس الوالد أيضًا، أن يكون لأسرتهم الصغيرة مدفنٌ خاصٌّ بها، فبدؤوا رحلة البحث تلك.

للجادين وبدون وساطة لأعلى سعر، مقبرة «جديدة» مساحة ٤٠ مترًا، ذات ٢ عين أمامهم صالة بطريق الفيوم/القاهرة، جبّانة اثنين بمقابر القوات المسلحة، مرخصة من محافظة الجيزة وخالصة الثمن *.إعلان منشور على جروب مدافن للبيع بالقاهرة على فيسبوك.

الإعلان الذي تقف أمامه لحظات لتتأكد فقط أن السلعة المطلوب فيها أعلى سعر، هي مدفن لا أكثر. تجارة كاملة بوسطائها وتجّارها، أصبحت تضاهي أسعارها أسعار الوحدات السكنية، تستغلّ الخوف الجمعي لدى كثير من المصريين من عدم الستر بعد الموت. الخوف الذي يدفع الكثيرين أن يدّخروا ثمن تغسيلهم وتكفينهم ويضعونه أمانة في رقبة من يثقون به لتلك اللحظة التي ستحين فيها آجالهم.

«وإيه المشكلة أنها تكون تجارة، مش سلعة مطلوبة؟ وإحنا بنتعب عشان نعمل تراخيصها، ونشطّبها تشطيب سوبر لوكس للراغبين في ذلك، الأسعار ليست مبالغًا فيها هي مناسبة للكلفة الفعلية للمدفن، وهامش الربح ليس كبيرًا على أي حال». هكذا يقول مصطفى (اسم مستعار) أحد سماسرة المدافن بالقاهرة.

يردد مصطفى ذلك المثل الشعبي المصري واسع التكرار «على قد لحافك مدّ رجليك» مشيرًا أن من يتحمَّل كلفة شراء المدفن هو من يشتري، وكلٌ حسب إمكانياته، فهناك من يشتري مدفنًا بدائيًا، فقط قطعة أرض يقوم بوضع سور حولها، وهناك من يشتري مدفنًا له بوابة وتشطيبه على أحدث طراز، وهناك من يشتري مدفنًا يضع به كاميرات مراقبة ويزرع حوله النَّخيل ولا يقبل إلا أن تكون واجهته باهرة.

يرى مصطفى أن هذا بفعل تفاوت الطبقات الاجتماعية «إحنا عندنا ناس تمتلك ملايين ومليارات.. عاوزينهم يدفنوا أمواتهم فين؟ ويروحوا يزوروهم فين؟ في مقابر الصدقة؟!» هكذا يعبر مصطفى عن وجهة نظره التي رآها من خلال عمله، بأن المدافن الفارهة تخصّ عائلات المتوفَّى، وتخص وضع المتوفى الاجتماعي والمادي في حياته، وإن كان لا يفرق مع المتوفى فعليًا دفنه في مقابر صدقة أو في مدفن فخم.

يقول مصطفى أن جميع المدافن التي يعمل بها مسجَّلة وتتبع جهاز مدينة 6 أكتوبر، وعند الشراء يقوم الزبون بدفع مقدَّم شراء، ثم يذهب لتسجيل المدفن في الشهر العقاري بعد الحصول على صحة توقيع، ثم يقوم بدفع باقي المبلغ والاستلام الفوري للمدفن.

أسعار المدافن.. الموتُ والحياة متشابهان!

إحدى شركات الاستثمار في بيع المقابر، أكدت في إعلانٍ لها أنّ أسعار إحداها في مدينة 6 أكتوبر الواقعة على طريق الفيوم، تبدأ من 75 ألف جنيه، والبالغ مساحتها 40 مترًا، أما مساحة 21 مترًا فأسعارها تبدأ من 55 ألف، فيما تبدأ تلك الواقعة على طريق الواحات بمساكن عثمان والتي تبلغ مساحتها 40 مترًا من 120 ألف.

في مدينة الشروق، أقل مساحة للمدفن 20 مترًا، تنقسم إلى قسمين أحدهما للرجال والآخر للسيدات، وسعره يبدأ من 40 إلى 45 ألف جنيه، أما المدفن الذي تبلغ مساحته 40 مترًا، فتجد أن قسم الرجال منفصلٌ عن المخصص للسيدات، أما السعر فيتراوح بين 70 و80 ألف جنيه، أما في مصر الجديدة فالمدفن البالغ مساحته 20 مترًا تبلغ قيمته أكثر من 350 ألف جنيهًا، وفي مدينة نصر فبلغت أسعار المدافن مساحات الـ40 مترًا 450 ألف جنيهًا، بينما الـ50 مترًا تبدأ من 600 ألفًا.

يؤكِّد مصطفى أن هناك عدَّة عوامل تتحكَّم في سعر المدفن، وهي: المكان، وما إذا كان على واجهة الطريق أم بتفريعة داخلية، والمساحة، والتشطيب وجودته، فهناك مدافن من الرخام أو الحجر الحراري أو الجرانيت ومحاطة بسور وبوابة حديدية فارهة وأشجار ونخيل في المدخل مع وجود حراسة للمكان.

يؤكد على كلام مصطفى إعلان بأحد المنتديات لبيع مدافن مساحات (25م ، 40م ، 60م، 80م) تبدأ من 2 عين وحتى 4 عين ومشطبَّة بسيراميك، ومجهَّزة بأبوابٍ حديدية، وكاميرات مراقبة، وجاهزة على التسليم بمدينة العبور ومقامة على مساحة 28 فدانًا.

وتأتي التعليقات متراوحة بين من يسألون عن مدافن مستواها أقلّ ومن ثم يكون سعرها أقل، أو يستفسرون عن أهمية كاميرات المراقبة، أو من يسألون عن قيمة تلك المقابر التي استلموها من الدولة بمدينة العبور إذا كانت أرضًا فقط.

الطبقة الوسطى.. تبحث عن مدافن بالتقسيط

في المواقع الإلكترونية، ومجموعات بيع المدافن على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى مواقع وصفحات سماسرة «وسطاء» المدافن، تدخل الطبقة الوسطى باحثةً عن مدافن تناسبها، معبرةً عن تطلُّعها بأن تُدفن عائلاتها في مدافن فارهة كالتي يُعلنونَ عنها تلك، ولكن تساؤلها الوجل الآمل يأتي هكذا: هل هناك إمكانية للتقسيط أم لا؟!

على مجموعة «مقابر مدافن بالتقسيط للبيع بمدينة العبور السلام مصر القاهرة».. تجد أحد التعليقات يقول: «المقدم كم؟ والقسط على كم سنة؟ مساحة 40 مترًا في أكتوبر؟». تعليقٌ آخر يُعبِّر صاحبه عن رغبته في الحصول على مدفن بالتقسيط قائلًا: «من فضلك فيه في طريق القاهرة الجديدة أو العبور مقبرة لحود بالتقسيط؟ وطريقة الدفع بالتقسيط؟».

بينما تُعلن شركة استثمارية أخرى عن أنظمة التقسيط الخاصة بالمدافن التي تُتاجر بها، فتقول في إعلانها أنها: «تقع على مساحات واسعة، ومملوكه لشركات، في حلوان، بأسعار تبدأ من 45 ألف جنيه «متشطبة وبالتقسيط»، وعن نظام التقسيط يكون المقدم 25 ألف جنيه والاستلام ، ثم قسط شهري 1000 جنيه لمدة عامين.

عامل المدافن.. يربح جيدًا أيضًا

«سعيد» شابٌ في الثلاثينات من عمره، تخرَّج في كلية التجارة وتزوَّج من ابنةِ عمه وأنجب منها أولاده الثلاثة، سعيد حالته المادية ميسورة إلى حدٍ كبير فهو يعمل حتى قبل أن يتخرَّج في الجامعة، وعمله هذا يدرُّ عليه دخلًا جيدًا يُمكنه من الإنفاق على بيته وبيت والدته وبيت أخيه الذي توفِّي منذ فترة قريبة وما ينفقه من دخل يضمن الرفاهية للأسر الثلاث.

أما عن المهنة التي يمتهنها سعيد والتى تدّر عليه دخلًا لا بأس به فهي مهنة المساعدة في دفن الموتى، وحراسة المدافن الخاصة ببعض العائلات، يُعتبر سعيد بدرجةٍ كبيرة عامل مدافن تقليدي، قبل أن تتحوَّل المدافن إلى تجارةٍ ضخمة وسوقٍ رابحة تدرّ مئات الآلاف، العائلات التي يتعامل معها سعيد هي عائلات الطبقة الوسطى التي كانت تستطيع منذ عقود أن توفر مدفنًا لموتاهم بسهولة إلى حدٍ كبير، فلم يكن الموت يجتذب التجار والسماسرة ويفتح بابًا واسعًا للمتاجرة والمزايدة بالأسعار مثل الآن.

يقول سعيد عن مهنته أنها كانت مهنة آبائه وأجداده، التي ورثها منهم وهي خير ما تركوه له، فهي مهنة تدرُّ دخلًا جيدًا وتوفِّر له ولأسرته حياةً كريمة.

يضيف سعيد: «أنا أعمل في هذه المهنة منذ أن كان عمري 17 عامًا، كنت وقتها أساعد أبي – رحمه الله – وهو من علّمني المهنة، وكنت وقتها أقيم مع أبي وأمي وإخوتي في حجرةٍ صغيرة ملحقة بأحد المدافن التي تمتلكها إحدى العائلات وهم يتوارثونها بدورهم جيلًا بعد جيل، وكنّا نعيش ونعمل في نفس المكان إلى جانب الموتى».

مضيفًا: «نحن نُشرف على عدة مدافن تمتلكها عائلاتٌ مختلفة ونقوم بدفن الموتى وحمايتهم والمحافظة عليهم من اللصوص، الذين يرغبون في بيع الموتى لطلبة كليات الطب، وهذه العائلات تعرفنا جيدًا وتستأمنُنا على موتاهم، فنحن لا نفعل كالبعض ونبيعهم لطلبة كلية الطب أو غيرهم».

مهنة سعيد مكنته من الانتقال من الحجرة التي كان يقطن بها مع عائلته إلى شقةٍ واسعة في مكانٍ آخر، كذلك استطاع أن يوفِّر سكنًا جيدًا لأمه وأسرة أخيه الذي راح ضحية إحدى حوادث الطرق. يُعلق سعيد على تجارة المدافن وسوقها الواسع مرتفع الأسعار قائلًا: «بحكم عملي أعرف مدى خوف الناس من كشف الستر بعد الموت، الجميع يرغب في تأمين نفسه، وآخر ما يتمنَّاه هو أن يتمّ تغسيله وتكفينه ودفنه على سبيل الصدقة، وأنا أرى من خلال عملي مدى حرص الناس على موتاهم ومواظبتهم على زيارتهم، لذلك لا أتعجب من تلك المدافن الفارهة التي تناسب الناس اللي معاها ملايين وبتعيش في فلل وقصور».

في عام 2011 انطلق مشروع «وادى الرَّاحة»، بإعلانٍ من وزارة الإسكان عن إنشاء أوَّل جهاز تنفيذى لإنشاء مدافن جاهزة في القاهرة الكبرى من أجل التيسير على الراغبين في شراء مدافن خاصة، والحدّ من ارتفاع أسعار المقابر في مصر، رغم منع القانون الصادر عام 1966 بيع المدافن، والتي تمنحها الدولة للمواطنين بنظام حق الانتفاع، وهو ما يعني عدم السماح لأصحاب المدافن ببيعها، لكن هذا الأمر يُتحايل عليه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل